«الوجه الآخر للإعلام».. رحلة إلى الغرف الخلفية للأسرار التكنولوجية

إصدارات عربية بالعشرات لرصد تأثير شبكة الإنترنت على السلوك

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

«الوجه الآخر للإعلام».. رحلة إلى الغرف الخلفية للأسرار التكنولوجية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يأتي كتاب «الوجه الآخر للإعلام»، لصاحبه الدكتور شوقي عطية، ضمن موجة عارمة من الكتب العربية التي تحاول فهم التحولات المزلزلة التي طرأت على حياتنا جميعا. وكان يكفي التجوال في «معرض بيروت للكتاب» نهاية العام الماضي، لمعاينة العدد الهائل للإصدارات التي تبحث في الموضوع نفسه، وهذا ما يصعّب مهمة الباحث، ويعقدها، في مجال، هو في الأصل متشابك ومترابط، يحتاج قراءة بانورامية.
العنوان الرئيسي للكتاب يخدع ولا ينصف المحتوى، الذي يتناسب أكثر مع العنوان الفرعي: «الاتصال والتواصل بين الرسالة والتسويق».
الإعلام بمعناه التقليدي، بحسب ما يشرح الكتاب، يرتج، يتزعزع، تحت وطأة ضربات الابتكارات التكنولوجية. ففي الفصل الأخير نقرأ كيف أن التلفزيون ينزاح تدريجيا عن عرشه، وكيف أنه أصبح في غالبية البيوت مجرد صوت في الخلفية، وقطعة من أدوات المطبخ لتسلية السيدات الضجرات. يأتي هذا بعد أن نسف دور الراديو، وباتت صحف كبيرة عالمية تطارد التغريدات ووسائل التواصل، لتلتقط أخبارها طازجة.
حقا لم يعد العالم كما كان، منذ عشر سنوات فقط، ليس هذا وحده ما يحاول أن يرينا إياه الكتاب، لكنه يذهب إلى الخلفيات، إلى الأسرار، إلى الغرف الخلفية لما يسمى الشبكة الإلكترونية، وهذا أكثر ما يلفت ويمتع. قليلا ما عرفنا تقنيا، وبتبسيط، كيف يمكن أن تُعترض معلوماتنا على الشبكة، وكيف يمكن لأجهزة المخابرات أن ترصدنا من خلال Backdoor أو الباب الخلفي، الذي تبقيه الشركة المبرمجة مفتوحا عن قصد أو عن غير عمد ليتسلل منه من يريد، أو تزود أجهزتنا بقطعة إضافية، من بلد المنشأ، للتجسس على من تشاء وساعة تشاء.
يمكننا القول إن الكتاب يستطيع أن يكون لقارئه دليلا لصناعة الثروة أيضا. يتكون لدى القارئ انطباع، وهي معلومة باتت مؤكدة، أن من يملك تحت سطوته أكبر عدد ممكن من الجماهير تكون له السلطة، والمال، والقدرة على التحكم.
من صفحة 60 يصبح الكتاب مثيرا، فعلا، أشبه بفيلم بوليسي. الأرقام تتكلم، المليارات تتدفق، على أولئك الذين نجحوا في منحنا خدماتهم بالمجان، أو هكذا قالوا لنا، لكنهم في حقيقة الأمر يجعلوننا ندفع رسوما غير مباشرة. ماذا يعني أن تشتري شركة «فيسبوك» تطبيق «واتسآب» المجاني بـ19 مليار دولار، لولا معرفتها المسبقة بأن الاستفادة حتمية من 30 مليار رسالة يرسلها يوميا 900 مليون مشترك على التطبيق، أي ما يوازي خمس سكان العالم. أضافت «فيسبوك» أيضا إلى ملكيتها «إنستغرام» الذي يبلغ عدد مستخدميه 300 مليون مشترك شهريا. أي أن السيد زوكربيرغ يملك رقابنا، ويعرف همساتنا، وبمقدوره أن يبيع معلوماته عن أي منا لمن يدفع أكثر.
خدمات «غوغل» المجانية فاقت كل الخدمات، يكاد يصبح مشتركوها ومستخدمو المحرك، أكثر من نصف سكان الأرض. يشكك الكاتب في شعار «غوغل» العريض «لا تكن شريرا». السلطة تفتح أبواب الشر و«من يسيطر على المعلومات وتدفقها يسيطر على العالم».
هذا يشرع نوافذ الاحتكار، بطبيعة الحال، على مصراعيه. الاحتكار أصبح صفة لـ«أمازون» و«فيرجن»، وهما شركتان توزعان أهم الكتب والأفلام والمجلات والموسيقى وكل ما له علاقة بالمنتج الإعلامي.
عربيا، يعطي الكاتب، مثلا، شركة «روتانا»، التي تملك عقودا حصرية مع أهم المطربين ووكالات البحث عن المواهب، وشركات تسجيل الصوت، الاسم التجاري للأسطوانات ومحلات بيعها، ومواقع الإنترنت المخصصة لها.
نحن لسنا أمام كتاب يجمع المعلومات ويعرضها، فبعض ما نقرأه، وربما جزء كبير منه، معلوم، لمن يعملون قريبا من المجال، لكن الدكتور عطية من خلال كتابه يحاول بلورة رؤية لما أطلق عليه اسم «الإمبريالية الثقافية»، بعد أن تحولت المعلومة أو الرسالة الإعلامية والفنية إلى مجرد سلعة، في يد جهات محدودة، تنتمي إلى بلدان معينة، بمقدورها أن تتحكم بما يبث، وما يصل أو ما يتوجب حجبه.
الأكثر دسامة، ربما، هما الفصلان، اللذان يحملان عنوان: «الوجه المظلم للإنترنت»، و«صناعة الصوت والصورة»، حيث نكتشف أن ما نراه على شاشاتنا هو الرأس الصغير جدا من جبل الجليد الخفي على الإنترنت. وما نراه يضرب بـ5 ملايين ضعف لنقدر الموجودات الفعلية على الشبكة. يمكننا أن نتحدث عن 2854 قرنا من أشرطة الفيديو العالية الدقة. شركة «غوغل» تقول إن 16 عاما من الفيديو تضاف إلى موقع «يوتيوب» يوميا، مثلا. وهنا يقسم الكاتب الإنترنت الخفي إلى نوعين: نوع لا نستطيع الوصول إليه بسهولة، بسبب عدم توافر الروابط أو سوء عرضها، وهذا يمكن اكتشافه بالإصرار والبحث، لكن هناك أيضا الإنترنت «المظلم» الذي يخفى على أمثالنا، لأن له من الأهداف السوداء ما يحرم إعلانه، مثل الاتجار بالأسلحة، والهيروين، وباقي الممنوعات. وهذا يدر أموالا خيالية في أزمنة قياسية، ويحتاج إلى برامج خاصة للدخول إليه.
أما الفصل الثاني الدسم فهو «فصل الصوت والصورة»، لأنه يعرض بمهارة لظاهرة الأفلام السينمائية التي تلاقي رواجا، ووصفاتها المدروسة سلفا. أفلام تركز على إثارة المشاعر والتماهي مع الأبطال، والإحساس بالحاجة إلى إعادة المشاهدة، وهو ما يدفع المنتج عادة إلى تمويل الجزء الثاني والثالث وربما الرابع من الفيلم لجني المزيد من الأرباح. هناك أفلام الأبطال الخارقين، التي حقق تسعة منها في السنوات العشر الأخيرة أكثر من 10 مليارات دولار، أي مليار دولار ربح الفيلم الواحد.
لكن الأهم هو ظاهرة إعادة اختراع التلفزيون، من خلال المسلسلات الإنترنتية التي تهدم الهوة بين السينما والتلفزيون والإنترنت، وصار يشارك فيها نجوم السينما، وإعلاناتها وفيرة، تستعين بها مواقع مهمة مثل «أمازون»، لتكمل صورتها وتمعن في أسر زوار الموقع، وإعادتهم أطول فترة ممكنة إليه.
هناك اهتمام عربي بالغ بما نتج عن ثورة الإنترنت، وما يستتبعها عالميا، إنما الملاحظ أن الدارسين يتابعون ما يحدث خارجا، أكثر مما يعنون بما تفعله هذه التكنولوجيا بالفعل في المجتمع العربي. ثمة نقص حاد في الدارسات الراصدة للمجتمع العربي وعلاقته المستجدة بالإنترنت، وحالة المس الجنوني التي أصابته جراءها.
يكتفي الدكتور عطية بالحديث عن التعلق الشديد للشباب بالإنترنت، لكن ماذا عن بعض الكبار الذين لا يغادرون مواقع التواصل الاجتماعي. هل ثمة درس، كم عدد من تجازوا الأربعين ويتعاملون بطريقة أشد خطورة من الشبان مع وسائل التواصل؟
عبء كبير، يقع على عاتق الباحثين في المجال الاجتماعي اليوم، لإفهامنا ما الذي نعيشه، ولتشريح سلوكياتنا. ففي موضوع إعادة اختراع التلفزيون الذي يناقشه الكتاب غربيا، وجه آخر، في كل من لبنان ومصر. فقد قدم لبنان عام 2010 مسلسل «شنكبوت»، وهو أول دراما إنترنتية، من إنتاج «بطوطة فيلمز» بالتعاون مع «بي بي سي»، والذي وضعت حلقاته الـ52 على «يوتيوب»، وحصد مليونا ونصف المليون مشاهدة، رغم رداءة خدمة الإنترنت في كثير من الدول العربية في ذلك الوقت، كما حاز جائزة «إيميه» العالمية. بعده مباشرة ظهر مسلسل آخر عرض تلفزيونيا وإنترنتيا هو «بيروت آي لوف يو» شاهده نصف مليون متفرج على الإنترنت. فريقا المسلسلين عملا معا في المرة الثالثة ليقدما مسلسلا جديدا وضع على موقع «ياهو - مكتوب» من عشر حلقات هو مسلسل «فساتين»، ويروي الحياة اليومية لثلاث نساء لبنانيات يعشن أوضاعا متفاوتة، لكنهن يتقاطعن ويبقين على تماس وتباعد في وقت واحد. مسلسل رابع، ربما لا تنطبق عليه صفة المسلسل بالمعني الفني للكلمة، أطلقته مؤسسة «سمير قصير»، كعمل احتجاجي توعوي، حيال ما تفعله أجهزة الرقابة اللبنانية وما تمارسه على الأعمال الفنية، ويحمل اسم «ممنوع».



ثلاث قطع نحتية من موقع سمهرم الأثري في سلطنة عُمان

ثلاث قطع فنية حجرية من «متحف أرض اللبان»
ثلاث قطع فنية حجرية من «متحف أرض اللبان»
TT

ثلاث قطع نحتية من موقع سمهرم الأثري في سلطنة عُمان

ثلاث قطع فنية حجرية من «متحف أرض اللبان»
ثلاث قطع فنية حجرية من «متحف أرض اللبان»

خرجت من موقع سمهرم الأثري في سلطنة عُمان مجموعة من المجامر الحجرية المتعدّدة الأشكال، أشهرها مجمرة حجرية يزيّن واجهتها نقش تصويري ناتئ يتميّز برهافة كبيرة في الصناعة الفنية. تُعرض هذه المجمرة في «متحف أرض اللبان» في مدينة صلالة التابعة لولاية ظفار، حيث تتوسّط منحوتتين حجريّتين عُثر عليهما كذلك في سمهرم.

ظهر موقع سمهرم في خور روري الذي يقع على الشريط الساحلي، بين ولاية طاقة وولاية مرباط، وتبيّن أن اسمه يعود إلى مستوطنة من الطراز الحضرمي، تحوي واحداً من أهم موانئ جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية، خلال مرحلة زمنية طويلة تمتد من نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، إلى القرن الخامس للميلاد. بدأ استكشاف هذا الموقع في منتصف القرن الماضي، وتولّت بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة أعمال المسح والتنقيب فيه منذ عام 1997، وأسفرت هذه الحفريات عن الكشف عن مجموعة كبيرة من المجامر، منها مجمرة تميّزت بقيمة نحتية استثنائية، مصدرها معبد صغير الحجم اكتُشف خلال حملة أجرتها هذه البعثة بين عام 2008 وعام 2010.

يبلغ طول هذه المجمرة 33 سنتيمتراً، وهي مكوّنة من قاعدة هرمية مجرّدة من أي زينة، يعلوها مكعب عريض تحوي واجهته نقشاً تصويرياً يتألف من ثلاثة عناصر حيوانية متوازية. يتوسّط سطح هذا المكعب حوض دائري يبلغ عمقه نحو 3 سنتيمترات، ويشكّل هذا الحوض الإناء المخصّص للجمر واللبان وما شابه من أنواع الطيب والبخور. النقش ناتئ، ونتوؤه البارز بقوّة يسكب عليه طابع النحت، وقوام هذا النحت أسد يحضر في وضعيّة المواجهة وسط وعلين في وضعية جانبية. يقف هذا الأسد بثبات منتصباً على قائمتيه الأماميتين المستقيمتين، وتشكّل هاتان القائمتان عمودين تستقر فوقهما كتلة الرأس الدائرية الكبيرة. يطل وجه الأسد من وسط هذه الدائرة، فاتحاً شدقه إلى أقصى حدّ، وكأنه يزأر في جمود تام.

تحيط بهذا الوجه المزمجر لبدة عريضة مكوّنة من خصلات شعر عمودية متوازية، ويعلو هذه اللبدة شقّ عريض يفصل بين خصلتين عريضتين تستقرّان فوق الجبين. العينان بيضاويتان، ويتوسّط كلاً منهما ثقب دائري يمثّل البؤبؤ. الأذنان ضخمتان، وهما دائريتان، وكل منهما محدّد بإطار مقوّس ناتئ. الأنف عريض وأفطس، وتعلوه فتحتان بيضاويتان كبيرتان. الفم فارغ، ويتمثّل بشدق عريض يكشف عن نابين مسنّنين. القدمان محدّدتان، وتتميّزان كذلك بضخامتهما، ويتكوّن كل منهما بثلاث طبقات متوازية من الكتل المرصوصة.

بدأ استكشاف الموقع في منتصف القرن الماضي وتولّت بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة أعمال المسح والتنقيب فيه منذ عام 1997

يقف هذا الليث بين وعلين متقابلين في شكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر. يدير كل من هذين الوعلين رأسه إلى الخلف في حركة واحدة جامعة، وكأنه يحدّق بالأسد الرابض في الوسط. النسب التشريحية متوازنة، والعناصر التشكيلية متآلفة ومتناغمة. يقف كل وعل على أربع قوائم حدّدت مفاصلها بدقّة، ويعلو رأس كل منهما قرنان مقوّسان مزيّنان بسلسلة من الوحدات المستطيلة المرصوفة. ملامح الوجه الواحد مختزلة، وتتكون من ثقب غائر يمثل العين، وشق بسيط يمثّل الفم. تتبنى صورة هذين الوعلين قالباً معروفاً شاع في جنوب جزيرة العرب، وشواهده في هذا الميدان عديدة، منها ما هو منقوش، ومنها ما هو منحوت. في المقابل، تخرج صورة الأسد عن القوالب الفنية المتعدّدة الخاصة بهذا الحيوان، وتهب هذا التأليف طابعاً فريداً خاصاً تتميّز به هذه المجمرة.

تُعرض هذه القطعة الفنية في «متحف أرض اللبان» بمدينة صلالة، بين منحوتتين من الحجر الجيري، تتميّزان كذلك بخصوصية كبيرة في التكوين الفني، ومصدرهما كذلك موقع سمهرم. عن يمين المجمرة، يحضر وجه آدمي شكّل في الأصل جزءاً من تمثال كبير على الأرجح. العينان واسعتان، وهما مفتوحتان ومحدقتان، مع بؤبؤ دائري غائر في الوسط. الأنف قصير، وهو مدمّر، وما بقي منه لا يسمح بتحديد شكله الأصلي. الفم عريض، مع شق طويل في الوسط يفصل بين شفتين مكتنزتين غابت حدودهما في الكتلة الجيرية. وعن يسار المجمرة، يحضر أسد فقدَ قوائمه الأربع للأسف، كما فقد الجزء الأكبر من ملامح وجهه، وما تبقّى منها يتمثّل في أنف بارز، وفم مفتوح، يحدّه شدقان مجوّفان.

تشهد هذه القطع لتقليد فني نحتي ضاعت آثاره على ما يبدو؛ إذ لا نجد ما يشابهها في ميراث سمهرم الفني بروافده المتعدّدة. في المقابل، يعكس هذا التقليد بنوع خاص أثر جنوب الجزيرة العربية الفني الذي طبع جزءاً كبيراً من هذا الميراث الذي كشفت عنه عمليات التنقيب والمسح المستمرة منذ سبعة عقود.