من التاريخ: الثورة الصناعية الثانية والنظام الدولي

ألكسندر غراهام بل
ألكسندر غراهام بل
TT

من التاريخ: الثورة الصناعية الثانية والنظام الدولي

ألكسندر غراهام بل
ألكسندر غراهام بل

إذا كانت الثورة الصناعية الأولى قد أتت بمتغيرات في وسائل الإنتاج من خلال استخدام ماكينات البخار وبعض الاكتشافات الكهرومغناطيسية التي سمحت بظهور التراسل، وغيرها من الاختراعات لمدة مائة سنة منذ منتصف القرن الثامن عشر، فإن الثورة الصناعية الثانية التي اندلعت من منتصف القرن التاسع عشر لمدة قرابة مائة سنة قد أتت بمتغيرات أكثر أهمية، حيث غيرت تمامًا حياة الإنسان على وجه الأرض.
وإلى هذه الثورة الصناعية الثانية يُنسب شكل النظام الاقتصادي الدولي الذي نعيشه اليوم، فهي التي وضعت الأسس العلمية التي كفلت لنا حياة مختلفة تمامًا عن قرن ونصف القرن مضيا.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن هذه الثورة بدأت في حدود عام 1860 تقريبًا في بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا فيما بعد، ثم انتشرت في كل أوروبا بحلول العقود الأولى من القرن العشرين ثم إلى باقي العالم. ويمكن إدراج أهم ملامح هذه الثورة في اختراع وتطوير صناعة الصلب واختراع الموتورات المبنية على فكرة «الاحتراق الداخلي» Internal Combustion، واختراع الدينامو والتطورات الهائلة في المجال الكهرومغناطيسي والكهرباء.
لقد بدأت الثورة الصناعية الثانية من خلال عدد من الاختراعات التي سمحت بالتوسع في صناعات الصلب (الفولاذ) بدلاً من التركيز على الحديد فقط بعد تطويرها من خلال اكتشاف ضخ هواء نقي في الأفران لتنقية الحديد مهما كانت نوعيته ليتحول إلى صلب. هذا ساهم بشكل كبير في توسيع عمليات البناء في الغرب.
ثم جاء بعد ذلك مباشرة اختراع الدينامو، الذي بفضله استطاع العلماء تحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية. وعلى الرغم من أن فكرته ترجع إلى عام 1831 فإن تطبيقاته لم تدخل حيّز التنفيذ إلا في أواخر القرن نفسه، وهو ما سمح بالاستخدام الواسع للكهرباء باعتبارها مصدرا للطاقة التي باتت تدريجيًا أساسًا لأغلب إنتاج الطاقة في الدول الأوروبية بحلول القرن العشرين.
ولعل أهم إنجاز بعد استخدام الكهرباء كان اختراع أول محرّك (موتور) في عام 1876 يعمل على أساس الاحتراق الداخلي، وهو ما فتح المجال أمام صناعة السيارات والقطارات. ومن ثم أدخل العالم في «عصر الموتور» باستخدام منتجات البترول، باعتبارها أهم وسيلة للطاقة ولتوليد الكهرباء في الوقت الذي كانت استخدامات البترول فيه محدودة على استخراج الكيروسين للإنارة فقط. وينسب إلى ألمانيا هذا الاختراع من خلال سلسلة من العلماء ترتبط في حاضرنا اليوم بنوعيات السيارات التي نُسبت إليهم، فقد وضع غوتليب ديملر Daimler أول هذه المحركات، بينما اخترع كارل بنز Benz فكرة الشرارة الكهربائية، وينسب إلى فيلهلم مايباخ Maybach اختراع المفحم (الكاربُراتير)، وهو ما سمح بإنشاء أول سيارة تسير على أساس الاحتراق الداخلي، وقد طوّر بعد ذلك العالم الألماني رودولف ديزل Diesel فكرة الاحتراق الداخلي من خلال استخدام الخام الطبيعي - أو المازوت - الذي سرعان ما انتشر خصوصا في السفن التجارية، وإليه ينسب اسم «الديزل» أحد مشتقات البترول التي نعرفها اليوم.
وقد استمرت الثورة الصناعية في اختراعاتها تدريجيًا، فدخل العالم عصر الميكنة بشكل موسع للغاية، خصوصا بعد اكتشاف الخلايا الضوئية، وهو ما سهل عملية الإنتاج. وينسب إلى المستثمر والصناعي الأميركي هنري فورد فكرة حركة المصانع بوضع خطوط للإنتاج على أحزمة تتحرك عليها المعدات ويجري تركيبها من خلال العمال، ولقد انتقلت هذه الفكرة فيما بعد إلى خطوط إنتاج السيارات، حيث تم تجميع أول محرك سيارة في قرابة 93 دقيقة فقط، وهو ما سرّع من حركة الإنتاج بعد تطبيقه على كثير من الصناعات.
وصاحب هذا التقدم أيضًا دخول العلم بشكل كثيف في عملية التصنيع، خصوصا بعد تطور علوم الطبيعة والكيمياء، وأثرهما المباشر علي تصنيع منتجات الألياف والمطاط وغيرهما، كما صاحب هذه الفترة طفرة كبيرة في الصناعات الغذائية المصنعة فضلاً عن الحرير الطبيعي.
لعل أكثر الاختراعات التي أثرت على عالمنا اليوم كان اختراع اللاسلكي الذي استند إلى كثير من اختراعات الثورة الصناعية الأولى، لكن تطبيقاته تنسب إلى الإيطالي غوليلمو ماركوني Marconi الذي استند إلى اكتشافات هاينريش هيرتز Hertz - الذي ينسب إليه اسم الموجات المستخدمة في الراديو واللاسلكي اليوم - فقام بتصنيع أول لاسلكي. وكانت الفكرة الأساسية له تستند إلى إطلاق موجات كهرومغناطيسية واستقبالها من خلال أجهزة محددة، وقد استطاع ماركوني إجراء أول تجربة له لنقل رسالة من بريطانيا عبر بحر المانش إلى القارة الأوروبية، وطبقت التجربة ذاتها عبر المحيط الأطلسي عام 1901. ثم كان أول استخدام تجاري لها من خلال اختراع الراديو عام 1920، وتم تطبيق الفكرة نفسها على اختراع جديد هو التلفزيون في أربعينات القرن الماضي. وسرعان ما انتقل العلم لاختراع التليفون الذي سجلت براءته المخترع البريطاني ألكسندر غراهام بل Bell من خلال تطبيق مبادئ مشابهة لتسهيل الاتصالات عبر السلوك.
ولعل أكثر الاختراعات تأثيرا على المجتمعات كانت أيضًا الإنارة الكهربائية للبيوت والمصانع بدلاً من الشموع. وعلى الرغم من أن فكرتها ولدت في عام 1820، إلا أن تطبيقاتها العملية والتجارية بدأت في عام 1879 على أيدي المخترع الأميركي الشهير توماس إديسون Edison الذي اخترع اللمبة أداة للإنارة باستخدام الكهرباء.
لقد أدت الثورة الصناعية الأولى إلى كثير من النتائج المبهرة التي غيّرت أسلوب حياة كل المواطنين في العالم، ولا يوجد على كوكب الأرض من لم يستفد من هذه الاختراعات في حياته. ولكن هذه الثورة كانت لها آثارها الكبيرة على النظام الاقتصادي على المستوى القطري والدولي، فقد أدت إلى ظهور مفهوم «الرأسمالية الصناعية» بشكله الحالي، حيث وجهت استثمارات هائلة من إنتاج هذه الاختراعات على مستوى واسع وكبير. كذلك أدت هذه الثورة إلى هيكلة عملية التصنيع على الشاكلة التي هي عليها اليوم، وأسفرت عن إنشاء كيانات كبرى للغاية من خلال التوسع في إنشاء الشركات المساهمة، التي قامت بدورها بعملية مهمة للغاية في فصل الإدارة عن الملكية. إذ كانت ملكية هذه الشركات للمساهمين، بينما كانت الإدارة الفعلية في أيدي نخب معينة لإدارتها. وأسفرت هذه المتغيرات عن بزوغ نوعية جديدة من الممارسات التي كثيرًا ما يطلق عليها «الكارتل» التي كانت تهدف إلى التعاون بين مجموعة من الشركات المتخصصة في إنتاج منتج محددة لضرب المنافسة في الأسواق. وبدأ هذا المفهوم داخل الاقتصاد الواحد، ثم تحول مع مرور الوقت، ليصبح على المستوى الدولي عندما تحالفت شركات بعينها في دول مختلفة لضرب أي منافسة مستقبلية من خلال التحكم في أسعار المنتجات وأسرار التصنيع.
وأدت هذه التحولات المذهلة إلى متغيرات اجتماعية واسعة النطاق في النظم الرأسمالية، فعند تحوّل النظم الاقتصادية من الزراعة إلى الصناعة كان الأثر الاجتماعي الأول هو ظاهرة التحضّر التي أدت إلى ظهور طبقة العمال في كل الدول الصناعية، وذلك مقابل الطبقة الرأسمالية التي كانت تسيطر على وسائل الإنتاج. ومن هنا بدأت النظريات الاقتصادية الكلاسيكية لوضع أنماط التعامل الاقتصادي والاجتماعي بين هذه الفئات المختلفة، وعلى رأسها النظرية الماركسية التي هدفت إلى تمليك طبقة رجال الأعمال أدوات الإنتاج.
واقع الأمر أننا يمكن اعتبار الثورة الصناعية الثانية هي اللبنة التي وضعت الأرضية لشكل النظم الاقتصادية على مستوى العالم. وكل محاولات تغيير هذا المصير الرأسمالي باءت بالفشل الكامل، خصوصا بعد انهيار النظرية الاشتراكية أمام المتغيرات الدولية التي واكبت انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، .
وتعد الثورة الصناعية الثانية ونتائجها هي أساس النظام الاقتصادي الذي نعيش فيه اليوم وتمثل جذوره الحاضرة، فحتى مع ظهور الثورة الصناعية الثالثة في خمسينات القرن الماضي التي تمثلت في «الثورة الرقمية Digital Age»، فإن أسس قاعدة الإنتاج وأدواتها تنسب إلى عصر الثورة الصناعية الثانية التي أدت إلى متغيرات واسعة كما سنرى.



فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

ميرتس
ميرتس
TT

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

ميرتس
ميرتس

انتظر فريدريش ميرتس 23 سنة قبل تحقيق طموحه بأن يصبح المستشار الألماني؛ إذ كان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي قاد حزبه إلى الفوز بالانتخابات العامة الأحد الماضي، قد خسر معركة داخلية للسيطرة على الحزب أمام أنجيلا ميركل في عام 2002، بعدما تمكنت من تحييده والاستيلاء على زعامة الحزب. وانسحب ميرتس كلياً من السياسة عام 2009 ليعود بعد نهاية «حقبة ميركل» التي طالت حتى عام 2021. إلا أنه حتى عودته تلك لم تكن سهلة؛ ذلك أنه حاول الفوز بالزعامة 3 مرات، ولم ينجح إلا في المحاولة الثالثة بعد فشل الزعيمين السابقين اللذين فضلهما الحزب، آنغريته كرامب كرامباور وآرمين لاشيت، اللذين كانا مقرّبين من ميركل وينتميان لجناحها في الحزب. ولكن في عام 2022، نجح ميرتس أخيراً في كسب أصوات المندوبين للوصول في النهاية إلى مقر المستشارية وهو في سن السبعين. قصة ميرتس داخل حزبه تعكس شخصيته التي تثير انقسامات كبيرة، ليس فقط داخل حزبه، بل أيضاً على المستوى الوطني. فتحالفه مع حزب «البديل من أجل ألمانيا» لتمرير اقتراح داخل البرلمان عارضته كل الأحزاب الأخرى - ولم ينجح إلا جزئياً بسبب دعم الحزب اليميني المتطرف - أثار انقسامات كبيرة في ألمانيا، وكاد يكلفه طموحه الذي انتظر عقدين لتحقيقه. أما الآن وقد فاز حزبه بالانتخابات، ووقعت عليه مهمة تشكيل الحكومة الألمانية المقبلة، فسيتوجّب على الرجل الذي أمضى فترة «تقاعده» السياسي في عالم الأعمال، أن يقود ألمانيا التي تواجه تحديات كثيرة خلال الأشهر والسنوات الآتية.

يوصف فريدريش ميرتس، المستشار الألماني المكلّف، أحياناً بأنه «شعبوي» ويغازل قاعدة اليمين المتطرف. وهو صاحب عبارات اشتهرت وأثارت انتقادات كبيرة، بل رُميت أحياناً بـ«العنصرية»، كوصفه مرة طلاب مدارس من أصول عربية وتركية بأنهم «باشاوات صغار»، أو زعمه أن اللاجئين يأتون إلى ألمانيا لـ«إجراء عمليات تجميل لأسنانهم في حين أن الألمان عاجزون عن حجز مواعيد لدى أطباء الأسنان» (ادعاء نفته نقابة أطباء الأسنان التي قالت إن التأمين لا يغطي إلا العمليات الضرورية وليس التجميلية)، أو وصفه اللاجئين الأوكران الذين أتوا إلى ألمانيا في بداية الحرب مع روسيا بأنهم «لاجئون سيّاح»، قاصداً أنهم يأتون للاستفادة من التسهيلات المالية التي تقدمها لهم السلطات الألمانية.

فكر محافظ صريح

ميرتس هو أيضاً صاحب عبارة: «الثقافة الألمانية الطاغية» التي روّج لها منذ قبل «تقاعده الإجباري» المؤقت من البرلمان الذي دفعه إليه عصر ميركل. وبذلك كان يتعمّد انتقاد التعددية الثقافية التي لا يعتبرها «ألمانية»، مكرّراً «ضرورة» أن يتقبّل المهاجرون في ألمانيا «الثقافة الطاغية».

وفي صيف 2023، بعد انتخابه أخيراً زعيماً للديمقراطيين المسيحيين، وقف ميرتس أمام مجموعة من سكان غيلاموس، وهي بلدة صغيرة في ولاية بافاريا، قائلاً: «كرويتسبيرغ ليست ألمانيا. غيلاموس هي ألمانيا»، أمام هتافات الحاضرين وتصفيقهم. وللعلم، كرويتسبيرغ منطقة في برلين معروفة بتنوعها الثقافي، وتُعدّ معقل الجالية التركية في العاصمة الألمانية.

وأخيراً، في مطلع العام، قبل أسابيع من الانتخابات، كسر ميرتس قاعدة ذهبية تعتمدها الأحزاب الألمانية منذ هزيمة النازيين خوفاً من صعود اليمين المتطرف مرة جديدة ومنعاً لتكرار التاريخ... وهذه القاعدة غير المكتوبة تنص على رفض التعاون مع أحزاب يمينية متطرفة، في ما يُعرف ألمانيّاً بـ«جدار الحماية».

تشديد قوانين الهجرة

وفي الأسابيع التي سبقت الانتخابات، إثر تكرار الهجمات التي نفّذها لاجئون أفغان أو سوريون، خرج ميرتس غاضباً ليعلن طرحه اقتراحاً أمام البرلمان لتشديد قوانين الهجرة. ومع أن الاقتراح لم يكن مُلزماً للحكومة، قرّر ميرتس المضي بطرحه رغم اعتراض الأحزاب التقليدية عليه لمخالفته عدداً من القوانين الأوروبية، بحسب منظمات حكومية، مثل إغلاق الحدود مع «دول الشنغن»، ووقف استقبال اللاجئين غير الشرعيين. وأيضاً أصرّ ميرتس على طرح الاقتراح في «البوندستاغ» مع أن الحزب الكبير الوحيد الذي دعمه كان «البديل من أجل ألمانيا».

وحقاً، مرّ جزء من الاقتراح بفضل أصوات الحزب المتطرّف؛ ما أثار موجة من المظاهرات خرج فيها مئات الآلاف يصفون ميرتس بـ«الخائن». ومع إثارة ميرتس انقسامات داخل حزبه، توالت الدعوات من الأحزاب الأخرى له للانسحاب من السباق لمنصب المستشارية؛ لأنه «ما عاد مناسباً لقيادة ألمانيا». لكن الزعيم المحافظ سارع لاحتواء الأزمة والتعهد بأنه لن يتحالف مع «البديل» في حال فوز حزبه بالانتخابات. ورغم احتلال الحزب المتطرّف المرتبة الثانية في الانتخابات بـ20 في المائة من الأصوات ومضاعفته عدد مقاعده البرلمانية، رفض ميرتس الدخول في مباحثات لتشكيل الحكومة معه. واختار بدلاً منه الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) الذي حلّ ثالثاً بـ15 في المائة من الأصوات.

أهمية الملفات الدولية

وبسرعة بدا واضحاً، بعد فوز الديمقراطيين المسيحيين، أن زعيمهم الجديد يعي أهمية الملفات الدولية التي تنتظره؛ فهو قبل أن يبدأ المشاورات الرسمية لتشكيل حكومته، سافر إلى باريس في زيارة غير رسمية للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتناول العشاء معه لمناقشة ملفات لم يكشف عنها أي من الطرفين. وجاء اللقاء بُعيد عودة ماكرون من واشنطن حيث التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وبدا الاختلاف بينهما واضحاً حول التعاطي مع أوكرانيا.

ومع أن ميرتس من كبار مؤيدي «العلاقات عبر الأطلسية» والمروّجين لها، فإنه بدا متشكِّكاً في الأيام الماضية من إنقاذ العلاقة المتغيّرة. وهو انضم بعد مغادرته البرلمان عام 2009 إلى «أتلانتيك بروكيه» (أو الجسر الأطلسي)، وهي جماعة ضغط تروّج للعلاقات عبر الأطلسية.

نظرة إلى سيرته

ميرتس الآتي من عالم القانون؛ إذ درس المحاماة في جامعة بون، انخرط في عالم الأعمال خلال السنوات التي ابتعد فيها عن السياسة. وعمل في شركة «بلاك روك» الأميركية، وجنى ثروة من جلوسه كذلك في مجالس إدارة عدة شركات ومصارف، بل اعتقد كثيرون أن خلفية ميرتس هذه قد تقرّبه من ترمب الآتي من خلفية مشابهة؛ فهو رجل أعمال ثري يملك حتى طائرته الخاصة التي يقودها بنفسه أحياناً؛ كونه طياراً هاوياً تدرب على الطيران خلال السنوات الماضية، ثم إن أفكاره المحافظة حول الهجرة والإجهاض مثلاً، وأفكاره الليبرالية حول السوق، قريبة جداً من أفكار الجمهوريين؛ ما عزز توقعات اقترابه فكرياً من الرئيس الأميركي.

ويُذكر أنه رغم انتقاد كثيرين مهاجمة مؤيدي ترمب مقر الكونغرس بعد فوز الرئيس السابق جو بايدن، ظل ميرتس مؤمناً حتى بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض بأنه يمكن ترميم العلاقات المتدهورة مع واشنطن. ولكن خطابه إزاء واشنطن بدأ يتغيّر بعد كلمة نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في ميونيخ، وبدا وكأنه يُعدّ لعلاقة صعبة أساسها التركيز على تشكيل وبناء تحالفات أوروبية قوية. وبالفعل، انتقد ميرتس فانس لدعوة الأخير للأحزاب الألمانية إلى التعاون مع حزب «البديل»، مشدداً على أن هذا شأن داخلي.

بين روسيا وأوكرانيا

وكذلك، لم يتردّد ميرتس في انتقاد ترمب شخصياً بعد وصف الأخير للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ«الديكتاتور»؛ إذ اعتبر كلام ترمب «عكساً كلاسيكياً لرواية الجاني والضحية»، مضيفاً أن بوتين يصوّر الأمر بهذه الطريقة منذ سنوات، وأنه يشعر بـ«الصدمة» من استخدام ترمب الرواية نفسها اليوم.

ميرتس يُحسب من أشدّ المؤيدين لأوكرانيا، وكان يحثّ الحكومة الألمانية طوال السنوات الماضية على إظهار دعم أقوى لكييف، ودأب على انتقاد سلفه المستشار الاشتراكي أولاف شولتس لـ«تردده المتكرّر» في تزويد أوكرانيا بالمعدّات العسكرية التي كانت تطالب بها... وأكثر من هذا، ترك الباب مفتوحاً أمام أوكرانيا للانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي» (ناتو).

وأيضاً، يؤيد ميرتس زيادة الإنفاق العسكري لفوق 2 في المائة من الناتج الإجمالي، وهو ما تنفقه ألمانيا حالياً في تحوّل منذ الحرب في أوكرانيا. وفي إشارة إلى أن هذا الأمر أولوية بالنسبة له، عقد ميرتس لقاء مع شولتس بعد يوم على الانتخابات لمناقشة زيادة الإنفاق العسكري قبل تشكيل الحكومة الجديدة، وفق وسائل إعلام ألمانية. ومعلوم أن تشكيل الحكومة قد يستغرق شهرين على الأقل.

كذلك قد يكون ميرتس ناقش مع ماكرون أيضاً مسألة الضمانات العسكرية التي يمكن لأوروبا أن تقدّمها، وبخاصة أنه يؤيد طرح الرئيس الفرنسي حول إنشاء جيش أوروبي قوي، وهو ما يطالب به الرئيس الأوكراني أيضاً.

وعليه، فهنا يعتبر ميرتس «أوروبياً» بامتياز، مع أنه لا يؤيد السياسات الأوروبية المتعلقة بالهجرة، مفضلاً تشديدها، حتى إنه يروّج لخطوات تعتبر غير قانونية داخل الاتحاد الأوروبي، مثل إغلاق الحدود، ووقف استقبال طالبي اللجوء.

تحدّيات مستقبلية صعبة

من ناحية أخرى، فرغم تعهّد ميرتس بتشديد القوانين المتعلقة بالهجرة، فإنه ربما يواجه عراقيل قانونية تمنعه من ذلك، وقد يرفض «شركاؤه» الاشتراكيون التوقيع على بيان حكومي يتعهد باتخاذ إجراءات مشددة، كإغلاق الحدود وغيره. لكن المستشار المكلّف يعي أيضاً أنه سيكون عليه التعامل بجدّية مع مسألة الهجرة - التي كانت في طليعة اهتمامات الناخبين – من أجل الحد من شعبية حزب «البديل من أجل ألمانيا» التي تضاعفت على المستوى الوطني خلال 4 سنوات، بشكل أساسي، بسبب الهجرة.

وفي مقابلة قبل أيام، حذّر ميرتس من أن زيادة شعبية الحزب المتطرف هي «الإنذار الأخير» لنا. وللتذكير، كان الرجل نفسه من أشد منتقدي ميركل حين قررت السماح لمئات آلاف السوريين بالدخول إلى ألمانيا عام 2015، وحمّلها في السنوات التي تلت مسؤولية صعود حزب «البديل».

في أي حال، الحزب المحافظ الذي قادته ميركل طوال 20 سنة، يبدو الآن مختلفاً كلياً تحت قيادة فريدريش ميرتس، مع أن القائد الجديد نفسه لم يتغيّر أو يغيّر الكثير من أفكاره منذ «تقاعده» قبل أكثر من 16 سنة؛ فهو لا يخالف ميركل في مسألة الهجرة فحسب، بل تراه يؤيد أيضاً إبقاء العمل بالمفاعلات النووية التي كانت ميركل قد قرّرت إغلاقها بعد حادثة فوكوشيما للتسرّب الإشعاعي عام 2011. وهو كان أيضاً من منتقدي توسيع مشروع «نورد ستريم» لإيصال الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، وكان يدعو إلى إيقاف المشروع حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا.