رواية تتكئ على السيرة الذاتية

عبده وازن يستعيد «غرفة أبيه» بعدما أصبح أكبر منه

رواية تتكئ على السيرة الذاتية
TT

رواية تتكئ على السيرة الذاتية

رواية تتكئ على السيرة الذاتية

يحب الإنسان معرفة الآخر، وتحديدا خصوصياته، وما خفي من حياته. وقد تكون الكتابة عملية كشف للكثير من الأسرار وخبايا النفس. لكنها بكل تأكيد، سعادة تغمر كاتبها حين يخرج ما في نفسه من مشاهد أثرت فيه، وكمنت له في العميق من خصائص شخصيته وردود فعله وأسلوب حياته، فيتحول النتاج إلى سيرة شبيهة بالرواية، يعتمد ضمير «الأنا» مصدر الخبر والحدث، بأسلوب هو أقرب إلى المونولوغ، إلى محاكاة الذات ومقاربة العقل لفهم هذه «الأنا».
الماضي. ما الماضي؟ هل صحيح أنه ينتهي عند مرحلة معينة أم أنه يستمر ويكبر معنا، وكلما عرفنا منه شيئا، فرحنا. وكلما فككنا لغزا من ألغازه اقتربنا من أنفسنا أكثر وأكثر؟
الشاعر اللبناني عبده وازن، يسلك في «غرفة أبي» (منشورات ضفاف - منشورات الاختلاف)، روايته الجديدة، طريق الراوية السير - ذاتية أو الأتوبيوغرافية ليعود إلى البداية. لينطلق من ماضيه، من غرفة أبيه. يستمتع بالعثور على نفسه في هذه الذكريات الحية، التي لا تفارقه، أو هو الذي ليس بإمكانه مفارقتها. أما العناصر المساعدة، فهي لا تلبث أن تكون علبة خشب، في خزانة الوالد، مملوءة صورا وأوراقا وصكوكا. وهنا، تبدأ الرواية. ونبدأ معها عملية البحث عن تاريخ وفاة الوالد، لنتنقل بين الأحداث، ونعيش لحظات قاسية وأليمة، أبرزها فترة مرض شقيقته الفتية التي تألمت كثيرا، وماتت وهي في مقتبل العمر وسط معاناة غياب الأب: «كانت ترقب حلول الساعة يوما تلو يوم ثم ماتت مفتوحة العينين».
صندوق الصور بالأبيض والأسود، سعى عبده وازن، بأسلوبه الشائق، والمطعم بالسخرية، إلى بث ألوان الحياة فيه. وانعكست هذه الألوان على الكثير من المشاهد الخاصة والعامة، الأمر الذي مكن القارئ من عيشها. بدءا من عائلة الكاتب، وتاليا المعارف والأصحاب، وإن ظل غياب الأب المبكر، وكذلك الأخت، تلك الصورة التي لم تستطع ريشة الكاتب أن تلونها، بل بقيت ألوانها قاتمة، كما هي داخله.
لذلك، ربما، يروي عبده في هذه الرواية، سيرته، حرصا على لحظات جميلة من ماض لم يكن كله سعيدا. سيرة مزدوجة: سيرته الذاتية متقاطعة مع سيرة أبيه الذي يكاد يجهله، والذي يسعى إلى التعرف إليه ورسم صورة له، من خلال ذكريات الآخرين عنه ومروياتهم، ثم عبر الآثار الصغيرة التي تحكي عنه، ومنها الصور بالأسود والأبيض.
وخلال هذه السيرة الذاتية، وفي خط مواز للذكريات والأحداث الملمومة من ذاكرة أصدقاء الأب والأم، يبحث الراوي عن صورة الأب كما تجلت في نصوص روائية وسردية، عربية وعالمية، طالما شغلته، بما تحمل من ملامح مستعارة للأب المفقود والمفتقد. بدءا من كتاب «حب أول» للكاتب «صموئيل بيكيت»، الذي قصد قبر أبيه بحثا عن تاريخ وفاته، تاريخ وفاته تحديدا، لا تاريخ ولادته الذي يقول إنه لا يعنيه... وكذلك هاملت الذي يخاطب والده - الشبح. أو «كافكا»، الذي كتب رسالة إلى والده، ولم يتسن لهذا الأخير قراءتها. لقد بقيت بلا قارئ، حتى وإن تلقفها قراء لا يحصون في العالم. فما دام الوالد لم يقرأها فهي ظلت مجهولة لأنها أصلا رسالة إليه.
وتتقاطع سيرة الأب هنا مع سيرة المكان الذي هو بيروت وضاحيتها الشرقية منذ الستينات حتى الحرب الأهلية وما تلاها من مآس... فيأتي الكاتب على ذكر «ساحة البرج» التي كانت تضم في حقبتها الأولى برجا قديما سمي «البرج الكشاف»، ثم أطلق عليها لقب «ساحة الشهداء» غداة إعدام شهداء الاستقلال اللبناني في هوائها الطلق، بدءا من عام 1915. وكذلك يصور مشاهد من مرحلة دخول الراديو إلى المنازل: «ما زلت أذكر ذلك الراديو، وكيف كنت تجلس قربه محركا إبرته، متنقلا من إذاعة إلى أخرى، متسقطا الأخبار. علبة سحرية بأزرارها الكبيرة وقماشتها السميكة وخشبها البني المصقول والشاشة المستطيلة التي كتبت عليها أرقام وزيحت بخطوط صغيرة..». وكذلك التلفزيون: «أما التلفزيون، فكان علبتنا السحرية، التي نحلم بها في الليل كما في النهار. ولو أمكننا أن ننام قربه لما توانينا، فهو كان بمثابة حارسنا، حارس أحلامنا البريئة وأمانينا الصغيرة». ودور التلفزيون في مناسبات الحداد: «الحداد على الأب كان يطول والتلفزيون يجب أن يغطى بالقماش الرمادي، لئلا يبقى له أثر».
والراوي إذ يستعيد هذا الماضي، فإنما يمعن في رثائه ومديحه بصفته زمن الأب الغائب. إلا أن المفارقة تتبدى هنا في كون الابن أصبح أكبر من أبيه الذي رحل في ريعان شبابه: «الآن، أصبحت أكبر منك يا أبي. لقد انتصرت على الموت وانتقمت لك منه. الآن، أعيش حياتي وحياتك معا». إنه الآن الابن الذي يبحث عن أب بات أصغر منه عمرا. ليطرح قضية فقدان الأب في «غرفة أبي»، بعد أن كان قد كتب عن الموت في «قلب مفتوح». والسؤال: إلى أين يتجه عبده وازن في أدبه الروائي هذا؟
بدأ عبده وازن شاعرا ذا هموم خاصة في اللغة والأسلوب والرؤية، وبدا شعره الذي يتراوح بين الحسي والصوفي تجريبي الطابع، تحديثيا وذا خلفية ثقافية واسعة. فهو ناقد ومترجم وله في التحقيق «ديوان الحلاج» الذي خصه بمقدمة طويلة هي عبارة عن دراسة. ويأتي «غرفة أبي» الكتاب الثاني في فن السيرة بعد «قلب مفتوح» 2010. وقد كتبه إثر عملية جراحية للقلب أجريت له. هو سيرة ذاتية، لكن خطر هذه العملية، دفع به إلى التفكير في الموت، الذي أيقظ ذاكرة المؤلف وحمله على استحضار مراحل سابقة من حياته، ومخاطبة ذاته، متأملا، فاحصا، متسائلا، وقارئا كشاعر وباحث وأديب ما انطوت عليه طفولته ومراهقته من معاناة.
وترسيخا لهذا الاتجاه، أي سرد السيرة، يصدر الكاتب روايته «غرفة أبي»، ويعتمد فيها تقنيات مماثلة، تتجلى في الخطاب، المونولوغ، التقطيع المشهدي، السرد داخل السرد، وما سواها. وكلها يصب في إطار محاورة الذات... يقول عبده وازن في مستهل الكتاب: «ليس ما أكتبه رسالة إليك... هل ما أكتبه هو مما يسمى (مونولوغ) أم أنني أخاطبك حقا؟ لا أدري، أيها الأب. كأنني أكتب لنفسي، كأنني أنا الابن والأب...». ويقول في مكان آخر: «لا أعلم حقا إن كنت أكتب إليك أم أكتب لنفسي... إنني أحدث نفسي كما لو كنت أمام مرآة. إنني أكلم نفسي بصوت خافت. أنا المتكلم وأنا المخاطب. أنا من يتكلم وأنا من يسمع». ويظل كذلك حتى الصفحة الأخيرة من السيرة - الرواية: «هذه ليست رسالة لك، هذه ربما رسالة لي، أكتبها لنفسي لأنني أعلم أنني تأخرت في الكتابة إليك... هل تراني أكتب رسالة أم نصا أخاطب فيه نفسي، كما يحصل عادة فيما يسمى (مونولوغ)؟ كأنني أتخيل نفسي واقفا على خشبة ولكن لا أحد أمامي، كراسي فارغة، ستارة لا أعرف كيف ستغلق ومن سيغلقها».
أسدلت الستارة، وبقي وازن في غرفة أبيه، يخاطب نفسه في هذه الرواية، يسترسل، يتوقف، يروي، يتذكر، يسمع صدى أنفاسه تتصاعد من ماض أمسى حاضرا، من حاضر مضى ويمضي.
بين ذلك الزمن الماضي، والحاضر، يتقطع الزمن في الرواية. تارة من خلال تذكر الوالد عبر الصور، وطورا عبر اللحظة الراهنة، لحظة التذكر والذهاب إلى المكان - العنوان، إلى غرفة أبيه. زمن الأب هو زمن الأسود والأبيض، الزمن العاري أو المكشوف، الذي لا يخادع ولا يحابي. كان الراوي يحمل الصور تلك ويلونها، يضفي عليها ألوانا كما يحلو له، أو كما فرض عليه زمانه، أن يعيش تلك الألوان! لتتحول الأشياء إلى حقائق صارخة. يقول: «أتخيل لونا لقميصك (والده) ولونا للسترة وآخر للبنطلون. كنت أتخيل ألوانا للمشهد كله، للشارع، للرصيف، للواجهات التي في الخلف، للناس العابرين الذين يظهرون أحيانا... كنت أتخيل لون وجهك وعينيك... وكذلك ألوان فستان أمي، زوجتك.. هذا ما يمنح الأبيض والأسود سحره يا أبي. صور تفتح نافذة المخيلة فتروح تلون المنظر كما تشاء، تلون العالم كما تحبه أن يكون».
أما المكان، فهو غرفة الأب التي لا بد من العودة إليها ليشعر عبده - الفتى بالأمان: «كنت أكتفي بأن أقيم بهذه الغرفة لأشعر بالقليل من الطمأنينة. فظل الأب لا يغادر مهما شعر بالعزلة أو البرد. وفي ملامح هذا الظل كان على الحياة أن تكون أقل كآبة. احتللت الغرفة أعواما لكنني ظللت أسميها غرفة الأب. الابن لا يمكنه أن يستولي على غرفة أبيه فيسميها غرفته، قد يرث كل ما يملك أبوه وما لا يملك، لكنه يظل في حاجة إلى غرفة أبيه في هذا العالم».
يكتب عبده وازن، وهو يحاول أن يخرج من المكان، من غرفة أبيه. لكن عالمه الحاضر تحول إلى غرفة كبيرة، تعيده دائما إلى تلك الغرفة الآمنة وذلك الماضي الحي.
* كلية الآداب - الجامعة اللبنانية



«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية
TT

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

صدر العدد العاشر من مجلة «الأديب الثقافية - صيف 2024»، وهي مجلة فصلية عراقية تُعنى بـ«قضايا الحداثة والحداثة البعدية»، يرأس تحريرها الكاتب العراقي عباس عبد جاسم، وقد تضمّنت دراسات وبحوثاً ومقالات ثقافية مختلفة.

كتب رئيس التحرير «افتتاحية» العدد بعنوان «أسلمة العروبة أم عوربة الإسلام».

وتضمّن حقل «بحوث» ثلاث دراسات؛ «أدونيس بين النص والشخص» للشاعر والناقد والمترجم عبد الكريم كاصد، إذ «يكرّر أدونيس في حديث له أخير، ما قاله سابقاً في مناسبات كثيرة، وهو أن القارئ العربي غير معني بالنص قدّر عنايته بالشخص الذي يقرأ له، وبعبارة أخرى أنه يقرأ النص، فما يشغله هو الشخص ذاته كما يفهمه القارئ من خلال الصورة التي كوّنها عنه، الصورة التي قد تكون مفارقة تماماً للصورة الحقيقية للشخص».

والدراسة الثانية «الخطاطة المعرفية: المفهوم وتعدّد التسميات» للناقدة الدكتورة وسن عبد المنعم، وذلك من خلال تفكيك «المتوالية القصصية» للدكتور ثائر العذاري، وفيه تسعى إلى التوصل لمفهوم جديد للنقد المتفكّر بآركيولوجية معرفية، من منطلق ما يصطلح عليه بـ«الخطاطة المعرفية» من حيث المفهوم العابر للنقد الأدبي، بوصفها تمثّل أهم الثيمات المفصلية في التحولات المعرفية ما بعد الحداثية بأفق سوسيو ثقافي أوسع.ونشر الدكتور فاضل عبود التميمي «قراءة في ضوء الدراسات الثقافية» لـ«يوميات الطفولة في سيرة - أمواج» للناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم.

وتقدّم «الأديب الثقافية» محور «الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية» بأفق نقدي موسع، يضم دراسات لنقاد وأكاديميين عرب وعراقيين، منها: مشروعية ما بعد الأكاديمية في النقد العربي المعاصر - للدكتورة آمنة بلعلي من الجزائر/ ما بعد المنهج: مسارات النقد العربي المعاصر من التمثل إلى الكاوس - للدكتور فيصل حصيد من الجزائر أيضاً/ المفاتيح الإجرائية للمرحلة ما بعد الأكاديمية - للدكتور محمد سالم سعد الله/ النقد العربي ما بعد الأكاديمي (قفزة نوعية برهانات كبيرة) - للدكتور عبد العالي بوطيب من المغرب/ المقاربات البينية أفقاً للدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية - للدكتور عبد الحق بلعابد من جامعة قطر/ النقد وسلطة المؤسسة - للدكتور سامي محمد عبابنة من الأردن/ الممهدات النظرية والفكرية للدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية - للدكتورة إنصاف سلمان/ مقدمة في الفكر النقدي لما بعد النظرية النقدية - عباس عبد جاسم.

وفي حقل «ثقافة عالمية»، نشر المترجم والكاتب المغربي عبد الرحيم نور الدين ترجمة لـ«حوار بين المفكر الأميركي مايكل ساندل والفيلسوف الاستراقام إلى بيتر سينجر»، وتضمن مستويات متعدّدة من الفكر والفلسفة: «العدالة في العالم/ الأخلاق/ منطق السوق/ الثقافة النفعية». وفي حقل «نصوص» أسهمت الشاعرة والروائية العراقية المغتربة نضال القاضي بقصيدة حملت عنوان «يممت وجهي».

وفي حقل «تشكيل» كتب عبد الكريم كاصد مقالة بعنوان «تعبيريون: كاندنسكي، مونتر، والفارس الأزرق» عن معرض تشكيلي شامل.

وفي حقل «نقطة ابتداء»، تناول الدكتور عبد العظيم السلطاني «محنة قصيدة النثر»، إذ استتبع فيها العلامات الفارقة في تاريخ قصيدة النثر من حيث التنظير لها والمنجز منها، ابتداء من كتابها في مجلة «شعر» في بيروت مثل أدونيس وأنسي الحاج، وغيرهما، ومحمد الماغوط قبلهما، وتوقف عند النقاط المفصلية لمأزق قصيدة النثر ومحنتها في المرحلة الراهنة.

وتصدر «الأديب الثقافية» بطبعتين؛ ورقية وإلكترونية في آن واحد.