* يطرح كتاب «مشاركة في كل شيء» السؤال الأزلي: هل يبقي الصحافي السياسي على مسافة بينه وبين صناع القرار ليأخذ موقفا محايدا؟ أو ينشط داخل المؤسسة السياسية كحال مؤلف الكتاب، وهو صديق شخصي لكاميرون قبل أن يصبح زعيما للمحافظين في المعارضة قبل ثماني سنوات؟
* الكتاب رغم تخييبه لآمال الباحثين عن مؤامرة بريطانية تخطط للعرب فإنه مصدر معلومات بالغة القيمة عن كيفية اتخاذ القرارات داخل حكومة أعرق الديمقراطيات، ودرس لبلدان ما بعد الثورات في تشكيل الحكومة الائتلافية وموازنة التيارات المختلفة داخل مجلس الوزراء انطلاقا من مصلحة الأمة أولا.
لمن توقع كشف خطة سرية للمخابرات البريطانية لتهريب الكولونيل القذافي أثناء الحرب الأهلية الليبية، سيخيب أمله عند قراءة كاملة للكتاب الجديد «In It together» للزميل ماثيو دي أنكونا، الصحافي بالـ«صنداي تلغراف» ومجلة «الاسبكتاتور». الإشارة لتهريب القذافي إحدى نقاط الدعاية التي وزعتها دار النشر «بنغوين» للإثارة، لكن بعد دفع ما يساوي 40 دولارا لشراء الكتاب لا تجد خطة ولا يحزنون.
الترجمة المفهومية، لا الحرفية، لعنوان الكتاب تعني «مشاركة في كل شيء». وهو يحكي قصة ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر من خلافات أكثر منها اتفاقات داخل الائتلاف الحاكم بين المحافظين وبين الديمقراطيين الأحرار، وأيضا الصراع الداخلي بين أجنحة المحافظين أنفسهم، جناح ثاتشري تشرشلي (يزاوج بين مصالح بريطانيا الثابتة كالعلاقات مع أميركا والالتزام بحماية الحلفاء التاريخيين كالعرب وبلدان الكومنولث وبين مبادئ المحافظين الأساسية كحرية الفرد، والديمقراطية وحرية السوق الرأسمالية، مثل وزير الدفاع السابق الدكتور ليام فوكس ووزير المعارف مايكل غوف) بينما التحديثيون أكثر ميلا لأوروبا.
ذكر اسم القذافي، وأحيانا «الكولونيل» في سبع صفحات فقط (الكتاب 418 صفحة) وابنه سيف الإسلام ثلاث مرات في فصل فقط من مجموع 21 فصلا.
من عنوان الفصل «مراهنة في الصحراء: الحرب ضد القذافي» لا يترك المؤلف شكا في أن المزاج القومي، حكومة وبرلمانا ورأيا عاما (باستثناء صحافة اليسار التي تمثل أقل من 15 في المائة من مبيعات الصحافة)، هو إسقاط نظام القذافي لأسباب متعددة أهمها تقاربه مع رئيس الوزراء العمالي السابق توني بلير (شبح حرب العراق، وتوريط القوات البريطانية في أفغانستان واتهامات تضليل البرلمان كانت ثقلا معلقا في رقبة حكومة كاميرون عند اتخاذ أي قرار سياسة خارجية) وخطاب القذافي: «سنطاردكم من بيت لبيت ومن زنقة إلى زنقة»، وهجوم الدبابات على بنغازي رغم وعد ممثلي الكولونيل بالالتزام بوقف إطلاق النار حسب قرار مجلس الأمن 1973.
لم ترسم خطة حقيقة لتهريب القذافي - ليس حبا في شخصه وإنما لإنهاء الصراع. بحث رئيس الوزراء مع المخابرات البريطانية احتمالات الإسراع بحل الصراع بإقناع القذافي بقبول حل وسط.. «منفى داخلي» عند قبائل في الجنوب كان غير عملي لعدم إمكانية توفير الحماية للقذافي. والأكثر عمليا، لجوءه لبلد غير ملزم بتنفيذ طلب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (صدر أمر استدعائه وابنه سيف في 28 يونيو - حزيران 2011) مثل غينيا الاستوائية غير الموقعة على ميثاق المحكمة، لكن القذافي استمر في القتال. بداية الاتصال كانت غير مشجعة؛ فعندما استغاث سيف القذافي بوزير الخارجية ويليام هيغ تليفونيا رد الوزير البريطاني بهدوئه البارد المعتاد: «عليكم بالانفتاح الديمقراطي والإصلاح».
فصل «حرب ليبيا» قدمه المؤلف (صدر الكتاب مع انعقاد المؤتمر السنوي للمحافظين الأسبوع الماضي) كنموذج لتطور كاميرون من رئيس وزراء أولوياته الإصلاح الداخلي والاقتصاد والخروج من أفغانستان، إلى زعيم دولي في مغامرة خارجية مع الفرنسيين، وعن العلاقة مع أميركا وتردد الرئيس باراك أوباما وتقديم مخرج له بعدم إشراك أي قوات أميركية على الأرض (تولت القوات الخاصة البريطانية مساعدة الثوار الليبيين على الأرض).
الأهم سياسيا صراع كاميرون مع وزير الدفاع فوكس الذي أراد «تخليص الكائن السياسي البريطاني من الروح الشريرة التي لبسته، أي حرب العراق» بالتزامه أن تكون الخسائر البشرية الليبية لأي قصف بريطاني «صفرا» في برنامج كومبيوتر وزارة الدفاع لرسم خطط الحرب الجوية. وعدم رجوع فوكس لكاميرون أشعله غضبا (المرة الوحيدة التي استخدم فيها لفظا نابيا لوصف قرار فوكس)، فقد أطال أمد الحرب بتكرار إلغاء الطلعات الجوية كلما لاحت احتمالات خسائر بشرية ليبية. ورغم حنق كاميرون لم يستطع إلغاء الأمر، فتسريب المعلومة للصحافة يعني تهمته بالاستهتار بأرواح المدنيين.
لا ذكر لبلدان عربية في الكتاب، باستثناء سوريا وفلسطين اللتين جاءتا في موضعين: التهكم على نائب رئيس الوزراء زعيم الديمقراطيين الأحرار نيقولاس (نك) كليغ باسم سخرية «نائب مجلس العموم عن دائرة فلسطين»، ودعم فلسطين من جانب وزير التخطيط (لا يعرف معظم العرب أنه يهودي) أوليفر ليتوين «دائم التشكيك في نوايا إسرائيل تجاه الفلسطينيين».
«الأزمة السورية» ذكرت في آخر فصل، ويشمل هذا الفصل محادثات كاميرون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قي قمة الثمانية، وسوء حساباته باستدعاء البرلمان من الإجازة الصيفية ليخسر التصويت على المشاركة العسكرية مع أوباما.
الكتاب يطرح السؤال الأزلي: هل يبقي الصحافي السياسي على مسافة بينه وبين صناع القرار ليأخذ موقفا محايدا؟ أو ينشط داخل المؤسسة السياسية كحال مؤلف الكتاب، وهو صديق شخصي لكاميرون قبل أن يصبح زعيما للمحافظين في المعارضة قبل ثماني سنوات؟
الخيار الأول غير واقعي في بريطانيا، حيث يتوقع القارئ والمتفرج من الصحافي السياسي أن يكون داخل المؤسسة؛ فالمجموعة الصحافية السياسة في وستمنتستر - ومن ضمنها كاتب السطور - نحو مائة وأربعين صحافيا دائمي الحديث مع الوزراء، لأنهم بدورهم نواب برلمان، ومكاتبنا داخل مبنى البرلمان نفسه، ومن بيننا نحو أربعين (lobby correspondent) مرافقين دائمين لرئيس الوزراء في رحلاته ونلتقي مرتين يوميا بمستشاريه.
وهو فارق جوهري مع بلدان المنطقة، حيث نفر قليل (أو صحافي واحد في حالة مصر كمحمد حسنين هيكل مع الزعيم الراحل الكولونيل ناصر) على اتصال مباشر بالزعيم.
المجموعة المرافقة تتكون من صحافيي أربعين وكالة ووسيلة صحافية مختلفة، ووجودنا الدائم في البرلمان هو مراقبة ومحاسبة متبادلة. نراقب الوزراء والساسة، وبدورهم يلجأون لصحيفة منافسة لجريدة صحافي لإحراجه علنا إذا جاءت حساباته الشخصية قبل مصلحة قرائه.
وجود الصحافي السياسي داخل دائرة صنع القرار ليس فقط عبئا وواجبا ولا امتيازا فحسب، بل طبيعة حرية الصحافة وتقاليد التوازنات والضوابط، برلمانيا وصحافيا، تجعل من المستحيل أن يحتكر صحافي معلومات التأثير على الرأي العام أو الإيحاء بأنه صاحب تأثير على القرار كما حدث في مصر في الستينات.
الكتاب رغم تخييبه لآمال الباحثين عن مؤامرة بريطانية تخطط للعرب فإنه مصدر معلومات بالغة القيمة عن كيفية اتخاذ القرارات داخل حكومة أعرق الديمقراطيات، ودرس لبلدان ما بعد الثورات في تشكيل الحكومة الائتلافية وموازنة التيارات المختلفة داخل مجلس الوزراء انطلاقا من مصلحة الأمة أولا.
«In It Together: The Inside Story of the Coalition Government»
«مشاركة في كل شيء»
المؤلف:
ماثيو دي أنكونا
الناشر: بنغوين
2013
كيف سحب القذافي كاميرون إلى اقتفاء خطى بلير؟
كتاب بريطاني يحكي قصة ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر من خلافات أكثر منها اتفاقات داخل الائتلاف الحاكم
كيف سحب القذافي كاميرون إلى اقتفاء خطى بلير؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة