«الجنادرية»: متحف التراث والثقافة

من حقنا عليه أن يكون أكثر إثراء لحياتنا الثقافية والاجتماعية

من مهرجان الجنادرية (تصوير: خالد الخميس)
من مهرجان الجنادرية (تصوير: خالد الخميس)
TT

«الجنادرية»: متحف التراث والثقافة

من مهرجان الجنادرية (تصوير: خالد الخميس)
من مهرجان الجنادرية (تصوير: خالد الخميس)

«الجنادرية»، أو المهرجان الوطني للتراث والثقافة، الذي يقيمه الحرس الوطني بالمملكة العربية السعودية كل عام، حدث كبير ومهم وفريد من نوعه في المنطقة. لكنّ له جانبين أود التطرق إليهما فيما يلي:
الجانب الأول، دلالة لا يُلتفت إليها كثيرًا، إن التُفت إليها أصلاً. في احتفالات الجانب التراثي من «الجنادرية»، الجانب المتعلق بالفنون والحرف الشعبية، نلمح ما أسميه السمة المتحفية، السمة المتمثلة في أن ما يُحتفى به لم يعد، في واقع الأمر، جزءًا أصيلاً أو فاعلاً مؤثرًا في حياتنا الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. الاحتفاء به دلالة على أهميته من دون شك، لكنه أيضًا، دلالة على تراجعه عن الحياة اليومية، لا انتهاؤه تمامًا، وإنما تحوله إلى ما يشبه التاريخ، انزواؤه في ركن قصي من الثقافة بمعناها الشامل، ذهابه إلى المتحف، حيث يحفظ ويلمّع، ثم نزوره في المناسبات القليلة عندما نشتاق إلى ذواتنا الغاربة، أو حين نحتاج إلى التباهي به أمام الغرباء.
حين تأتي الفرق الغنائية الشعبية والراقصون، ويؤدون بعض ما تفيض به مناطقهم وتاريخها الثري بالفلكلور، وحين يتوافد أهل الحرف الشعبية من مختلف أنحاء المملكة، ليعرضوا ما لديهم أمام الناس، سواء أكان ممارسة أو منتجات، فإن ذلك كله، أو مجمله، دليل ساطع على تحول ما يُعرض أمام الناس إلى موروث، ومجرد وصفه بذلك، أي بأنه موروث، يعني أنه صار جزءًا من ماضٍ قد لا يكون توارى بالكامل، لكنه في طريقه إلى ذلك. والاحتفاء به لون من استعادته، وسعي من الثقافة للحفاظ على بعض مكوناتها، وصراعها ضد الاندثار، وتشبثها بالحياة وإن كانت مؤقتة. ولعل من أبرز الدلائل على تحول الفنون الشعبية الغنائية والراقصة إلى طبيعة متحفية، هو أنها تؤدى أمام جمهور وبطريقة ممسرحة، في حين أنها، في الأصل، ممارسة جماعية أو مفتوحة للآخرين إن أرادوا المشاركة فيها. أما المصنوعات اليدوية فدلالة متحفيتها هي أنها لم تعد ذات قيمة عملية في الغالب، ودورها الرئيسي هو تزيين الجدران والرفوف، لتكون شواهد على ماضٍ لا نكاد نحتفظ منه سوى بتلك التذكارات الجميلة.
هذا كله قد لا يسترعي انتباه كثير ممن يهمهم «الجنادرية» وقد لا يهمهم. قد يرون أن «الجنادرية»، في جانبه الثقافي الفكري، جانب الندوات والمحاضرات، أهم، وأن ذلك الجانب هو ما يجب تسليط الضوء عليه، والتساؤل عما إذا كان قد أصيب هو الآخر بنوع من الجمود أو المتحفية. ذلك هو بالفعل الجانب الثاني الذي أود الإشارة إليه.
كثير من المتابعين يرون أن الجانب الفكري من «الجنادرية» الذي عرف قبل ثلاثين عامًا، أو في السنوات الأولى، لم يعد قائمًا. إن الندوات والمحاضرات فقدت بريقها وحيويتها وتكلست. والحق، أن ندوات «الجنادرية» ومحاضراته لم تتوقف عن طرح قضايا مهمة على مدى العقود الثلاثة الماضية. وتعد مبادرة الحرس الوطني في دعوة ما سمي «لجنة مشورة» لتحديد القضايا التي تطرح للحوار، مبادرة مميزة. ولا شك أن مسؤولي الحرس أرادوا الاستفادة من الرأي العام، رأي أهل العلم والثقافة بشكل خاص، لكي ينهضوا بمستويات الحوار من ناحية، ويبعدوا اللوم عنهم من ناحية أخرى. وقد فعلوا خيرًا. لكن الملاحظ، أنه على الرغم من ذلك، ظلت المتحفية تلاحق هذا النشاط، وظل في عزلة إلى حد بعيد، وظل كثير من المعنيين بالشأن الثقافي ومنتجي الثقافة، من كتاب وباحثين، يعزفون عن الحضور. فإذا كانت القضايا التي تطرح مهمة، فهل السبب في ذلك نوع المتحدثين أم أنه السقف الذي يشعر المتحدثون أو بعضهم بصعوبة تجاوزه؟
من المشكلات التي تعاني منها المؤسسات الثقافية، ليس في المملكة وحدها وإنما في أماكن كثيرة من العالم، خوفها من التغيير وقلقها من الجديد، سواء أكان من القضايا أو من الأشخاص المتحدثين. لذلك تميل القضايا إلى أن تكون «آمنة»، مهمة، لكنها مأمونة الجانب، كبيرة لكنها على قدر عالٍ من العمومية والضبابية (العولمة، علاقة الشرق بالغرب، أثر الإسلام.. إلخ). ومع أن مثل تلك القضايا يمكن أن تحفز على أطروحات عميقة وأصيلة، فإن ذلك يعتمد على المتحدثين: أهميتهم، الحدود التي رسموها لأنفسهم أو رُسمت لهم، رغبتهم في طرح ما هو مهم. ما يحدث أحيانًا، إن لم يكن غالبًا، هو أن الأطروحات تتسم بالمجاملة وبمراعاة الحدود، إلى حد أن المتحدث لا يقول جديدًا أو مهمًا. ما يهم البعض، ولا أقول الكل، هو أن يتلقوا الدعوة وأن يحصلوا على مكافأة مالية، وإن كانوا من خارج المملكة، أن تتاح لهم زيارة الأماكن المقدسة. يضاف إلى ذلك أن قائمة المدعوين من خارج المملكة - بل ومن داخلها - صارت متحفية هي الأخرى، فهي تضم عادة أشخاصًا بعينهم كل عام. وهؤلاء ليس لديهم، في الغالب، أكثر من الإشادة بـ«الجنادرية» وبالمنجزات. قد يراوح بين الأشخاص، لكن الغالب هو تكرارهم. وأنا أتحدث من موقع المشارك، أحيانًا، والمتابع غالبًا، لهذا الجانب من نشاط المهرجان منذ بداياته، حين كان المدعوون يشملون أسماء مثل محمد عابد الجابري، وشكري عياد، وأحمد عبد المعطي حجازي، وغيرهم من الأسماء المهمة.
أخيرًا، مما أسهم في «تكليس» النشاط الفكري في الجنادرية، وإضعاف مساهمة المهرجان في دعم الحياة الثقافية في المجتمع السعودي، طريقة التعامل مع نصف المجتمع، مع المرأة. لقد اتسم ذلك التعامل، في الغالب، بإضعاف دور المرأة وعزلها عن الرجل. وهو ما يختلف مع توجهات مؤسس المهرجان، الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله، الرجل الذي وقف مع المرأة بكل ما يستطيع، ودعّم حضورها حيثما أمكن. مثلما أنه يختلف عن التوجه الحالي، في عهد الملك سلمان حفظه الله، وهو داعم كبير آخر للمرأة. ففي العام الماضي، فرض على النساء أن يجلسن في قاعة منفصلة بعد أن كان يسمح لهن بالجلوس في القاعة الرئيسية للمحاضرات، الأمر الذي يتناقض مع الوضع القائم في أماكن أخرى، أبرزها مجلس الشورى، حيث تجلس العضوات مع الأعضاء في قاعة واحدة، ومن دون فصل. فهل سيستمر «الجنادرية» في توجهه الحالي أم سينتفض من جديد، ليقدم قضايا ووجوهًا وأسقفًا أكثر ارتفاعًا في الحوار والمشاركة، تكرس تأثيرها المجتمعي؟ من حق المهرجان علينا أن نقدم له الرؤية الناقدة، وأن نتمنى له الاستمرار والرقي، ومن حقنا عليه أن يكون أكثر إثراء لحياتنا الثقافية والاجتماعية، لكي لا ينتهي به الأمر جزءًا من تراث متحفي.

* عضو مجلس الشورى السعودي



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.