القوة الناعمة .. بديلا للسياسة

الإعلام والثقافة مفتاحا استراتيجية الصين للتواصل مع العالم العربي

القوة الناعمة .. بديلا للسياسة
TT

القوة الناعمة .. بديلا للسياسة

القوة الناعمة .. بديلا للسياسة

للتصنيف أهمية كبرى بالنسبة للراديو والتلفزيون الهادفين للربح، نظرا لأن حجم الجمهور يحدد سعر وقت البث الذي يقدمه الرعاة. لكن هل للتصنيف أهمية بالنسبة للإذاعات الأجنبية التي تدعمها الحكومات التي لا تعتمد على بيع الإعلانات؟

في واشنطن، تتلقى قناة «الحرة» التي تبث باللغة العربية وشقيقتها شبكة «راديو سوا»، تمويلا من الكونغرس الأميركي بهدف تقديم أميركا إلى العالم العربي. وتعمل كلتاهما على نشر تقرير سنوي لتقييم الأداء، يقيس نجاحهما بالاعتماد على «مدى الوصول الأسبوعي إلى الجماهير»، يقدر، حاليا، بنحو 35.5 مليون نسمة. وتستمد كلتاهما البيانات من شركة الأبحاث، منظمة غالوب، بالإضافة إلى التحليلات من مؤسسة نيلسون التي تقوم، أيضا، بمتابعة برنامج «صنداي نايت فوتبول» وعدد الأميركيين الذين يلعبون ألعاب الفيديو.

* إذاعة الصين الدولية
وعلى الأرجح لن تولي الشركات التي تجري الاستقصاءات، اهتماما بالبرنامج الوثائقي الذي يمتد لنحو 45 دقيقة، حول الفيلسوف الصيني القديم كونفوشيوس الذي أذيع العام الماضي، على القسم العربي للإذاعة الصينية «إذاعة الصين الدولية»؛ إذ ربما قارب من استمعوا إليه الخمسة آلاف مستمع، عبر الموقع الإلكتروني للإذاعة، بالإضافة إلى الكثير من المتحمسين الذين تمكنوا من التقاط الموجات القصيرة من مصدرها في ألبانيا. ووظف البرنامج موسيقى تصويرية باستخدام الآلات الإلكترونية، وسيناريو هزيلا، بالإضافة إلى لقاءات مع أساتذة لغة صينية في دولتين عربيتين، وفواصل موسيقية قدمها عازف {راب} من بكين، لم يترجم ما يقوله؛ حيث كان يلقي المقاطع باللغة الصينية، وإجمالا لم يقدم البرنامج تقريبا أي معلومات حول كونفوشيوس.
لكن تقييم برنامج «إذاعة الصين الدولية» من خلال المعايير التي تعتمد عليها مؤسسة مثل نيلسون، يفتقر إلى الدقة؛ فقد طورت الحكومة الصينية استراتيجية للتواصل الثقافي مع العالم العربي، لا تعني بتصنيف البرنامج بقدر ما تولي اهتماما لمن يستمع، حيث يأتي تقديم المحتوى في الراديو أو التلفزيون ضمن جهود أوسع لجذب عدد أكبر من العرب في البلدان ذات الأهمية الاستراتيجية لبكين، الذين سوف يعملون بأنفسهم كموفدين وممثلين لوسائل الإعلام وللمجتمع بأسره. وبمساعدتهم، تسعى الصين إلى الوصول إلى قطاع أوسع من الجماهير عبر قنوات البث الأصلية في المنطقة التي لا تستطيع القنوات الأجنبية منافستها. وتدعم تلك التجربة بدورها حملة «قوى ناعمة» لتعديل النسيج الثقافي للمنطقة بما يخدم المصالح الصينية.

* نافذة على المشاهدين
في 21 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، حققت وسائل الإعلام الصينية نجاحا غير مسبوق في التواصل مع الشرق الأوسط، من خلال تقديم مسلسل درامي كوميدي صيني يتكون من 40 حلقة، جرت دبلجته باللغة العربية، وإذاعته على القناة الثانية بالتلفزيون الرسمي لجمهورية مصر العربية. ويروي مسلسل «حياة سعيدة»، قصة طبيب من بكين، يتحدر من أصول ريفية متواضعة، يقع في حب فتاة من الطبقة الراقية، فيما يعارض أهلها ذلك الحب. وجاء قرار بث حلقات المسلسل في مصر، بعد توقيع بروتوكول بين الحكومة الصينية واتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري التابع لوزارة الإعلام. وكان الغرض المعلن لهذا البروتوكول، هو توفير أرضية شعبية لتحالف أقوى بين البلدين. وتمنح الصين اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، الحق في بث المسلسل مجانا، كما أنها غطّت تكاليف الترجمة والدوبلاج.
وأدلت وزيرة الإعلام المصرية، درية شرف الدين، بحديث إلى الإذاعة الصينية، خلال زيارتها سفارة الصين في القاهرة، للاحتفال بالعرض، فقالت: إن حكومتها تأمل أن يعزز ذلك التواصل الشعبي مع الصين، مما يساهم في تعزيز الروابط السياسية والاقتصادية، مضيفة أن «الإعلام أصبح صانعا للسياسات والأحداث بعدما كان ناقلا لها».
وكان هذا الإنجاز المهم الذي حققه المسلسل بالنسبة لبكين، يجري الإعداد له منذ سنوات؛ حيث سبقته سلسلة طويلة من المكاسب المحدودة على مستوى التواصل مع البلدان العربية، لا يمكن الاعتداد بأي منها، إذا ما جرى النظر إليها بمعزل عن الأخرى. ولكن إذا ما جرى فحص عدد من تلك الخطوات معا، أمكن رصد نمط مركب من التفكير والتخطيط، يعبر عن قوى عظمى حديثة ذات تقاليد عريقة، تحاول التواصل مع مجتمع عريق آخر يعج تحت وطأة النزاعات.
الكثير من الخبراء الغربيين في مجال القوى الناعمة، بما في ذلك مبتكر المصطلح جوزيف ناي، الأستاذ بجامعة هارفارد، قللوا من شأن الدبلوماسية الصينية على مستوى العالم؛ حيث وصفها بأنها غير فعالة. ولكننا إذا ما نظرنا بشكل أعمق إلى الجهود التي تبذلها القوة الناشئة في الشرق الأوسط، سوف نكتشف أن الحديث عن إخفاقها في جذب العقول والقلوب العربية، أمر مبكر للغاية. وأن هناك الكثير من الدروس التي يمكن لأي من القوى الإقليمية والدولية الاستفادة منها في التجربة الصينية.

* معهد كونفوشيوس
أذيع البرنامج الوثائقي حول كونفوشيوس، ويمتد نحو 45 دقيقة في سبتمبر (أيلول) 2013، ضمن المجلة الإخبارية الأسبوعية التي تبث باللغة العربية، تحت عنوان «بانوراما» على الإذاعة الصينية. وبعد بثه بأربعة أشهر، ما زال البرنامج يتمتع بالمتابعة على مواقع التواصل الاجتماعي. يبدأ البرنامج بمذيعة تتحدث بلهجة عربية سليمة، وإن كانت ذات إيقاع صيني، حول الفيلسوف كونفوشيوس، قائلة إنه ولد قبل 2564 عاما، مشيرة إلى التأثير الكبير الذي تركه على الصين وشعبها منذ ذلك الحين. ثم تنتقل المذيعة على نحو مفاجئ إلى حديث آخر قائلة: «لقد شهدت الأعوام الماضية، تأسيس الكثير من معاهد كونفوشيوس التي تنشر أفكار الكونفوشيوسية القديمة وفلسفتها في جميع أنحاء العالم، وأصبحت منارات لنشر الثقافة الصينية».
ويعالج باقي البرنامج مؤسسات كونفوشيوس وليس الفيلسوف نفسه، وهي عبارة عن شبكة من المؤسسات التعليمية التي تدعمها الحكومة في بكين، وتروج للتعليم والتدريب في الصين، بالإضافة إلى برامج التبادل التعليمي والثقافي. ورغم وجود فروع للمؤسسة في الكثير من الدول العربية، إلا أن البرنامج يولي اهتماما خاصا بمصر وتونس. ويقول محمد علي الزيات، الذي يترأس قسم اللغة الصينية بجامعة قناة السويس بمصر، وفي هذا السياق يقول إن بعض الطلاب المصريين يلتحقون بالقسم حبا في اللغة الصينية، فيما يلجأ القطاع الأكبر لدراسة اللغة بحثا عن فرص أفضل للعمل في الكثير من المصانع والشركات الصينية في مصر، التي تحتاج إلى عاملين يتحدثون الصينية، مضيفا أن كلا من مصر والصين تمثلان حضارتين عظيمتين، مؤكدا أن تعاليم كونفوشيوس تتواءم تماما مع مصر، حتى إنه يتذكر أن أبيه كان يعتقد أن مصر الحديثة كانت لتصبح قوة عظمى على غرار الصين ما لم تتعرض لضغوط القوى الأجنبية. وعلى غرار أبيه، يؤمن الزيات، بأن على مصر أن تنأى بنفسها عن الغرب، وأن تتجه إلى الصين التي يعدها أفضل شريك لها، لأن العلاقات تعتمد على تبادل المصالح بدلا من أن تصب المصالح فقط لصالح أحد الأطراف. وتتضمن خططه للمستقبل، برنامجا رياديا حول الصين يقدم للمدارس المصرية، يتمنى أن يصبح خطوة صوب تقديم الدراسة الصينية كلغة ثانية في المدارس.
وفي تونس، تشير مسؤولة بمعهد كونفوشيوس في مدينة صفاقس إلى أهمية الحوار، وتعبر عن آراء تماثل الآراء الشخصية والسياسية حول الصين لزميلها، كما تتذكر السنوات السعيدة التي قضتها في بكين أثناء الدراسة. كذلك ضيفة البرنامج الأخيرة، وهي طالبة مصرية عادت أخيرا من هناك. وتلمح تلك الأصوات إلى أن هناك الكثير الذي ينتظر المستمع العربي الراغب في أن يكون جسرا بين بلده وبين الصين.
ورغم أن البرنامج يخرج تماما عن الإطار الإخباري، وله قيمه ترفيهية محدودة، فإنه يضرب تماما على الوتر فيما يتعلق بالغرض المحدود الذي من المفترض أن يحققه، وهو تشجيع الشباب المصري والتونسي على الالتحاق بمعاهد كونفوشيوس، حيث يستمعون إلى رسالة مفادها، أنهم يستطيعون دراسة اللغة الصينية مجانا وتعزيز فرص حصولهم على العمل إلى حد كبير.
ويستطيع ضيوف البرنامج، أن يتخذوا ردود أفعال استباقية تجاه العقلية القومية التي يمكن أن تستفزها، مثل تلك المحاولات من قوى أجنبية؛ حيث يطمئنون المستمعين بأن مصر أيضا، دولة ذات حضارة عظيمة، وأنها لم تتخلف عن اللحاق بركب الصين إلا بسبب لتعرضها لتاريخ طويل من استغلال الغرب لها؛ مشيرين إلى أن اتخاذ خطوة صوب الصين يعد خطوة نحو الحرية والتقدم. ويجري تقديم بكين كوجهة مضيافة للدراسة في الخارج، بالإضافة إلى كونها مكانا يقدر ضيوفه ويرفض الصور النمطية المعادية للعرب المنتشرة في أوروبا والولايات المتحدة. وبالطبع يبدأ بعض المستمعين ذوي الإمكانات المتواضعة، في التساؤل عما إذا كان التبادل التعليمي تموله الدولة المضيفة أم لا، وللحصول على إجابة يجب على السائل أن يزور المعهد بنفسه.
أما بالنسبة للفيلسوف كونفوشيوس، فإن اسمه ذكر مرات عدة على خلفية موسيقية هادئة، من دون التطرق إلى سيرته الذاتية أو أعماله؛ حتى يبدو وكأن البرنامج يستخدمه كاستعارة أو كوصفة سحرية للصين، وإكسير يحتاجه العرب لاستعادة مجدهم القديم.

* من يستمع لتلك الإذاعات؟
بخلاف إذاعة «سوا» الأميركية، وإذاعة «بي بي سي» اللندنية، لا تتوافر الإذاعة الصينية على الموجات المحلية في المنطقة. ومن جهة أخرى، يمكن مشاهدة إعلانات الإذاعة في الأماكن التي من المرجح أن يتجه إليها العرب المهتمون بالصين، مثل موقع السفارة الصينية في القاهرة الذي يحتوي على رابط على موقعه الرئيس، كما يشجع الملحق الثقافي بالسفارة، الشباب الذين يلتقي بهم على الاستماع إليها. كما أن بعض معاهد كونفوشيوس، تروج لتلك الروابط لدى الطلاب المحتملين كنوع من الإعلانات الصوتية.
وتتضمن الطرق الأخرى لنشر الإذاعة، الاستعانة بمواطنين عرب يعملون كرسل لبكين في إطار ما يطلق عليه «مجتمعات تقدير المستمعين»؛ وهي نوادٍ اجتماعية للشباب يبدو أنها تكونت عفويا في البداية، لكنها استمرت في النمو بفضل دعم الصين لها. فعلى سبيل المثال، هناك «النادي الدولي لأصدقاء الإذاعة الصينية» في مدينة خريبكة؛ وهي مدينة صغيرة وسط المغرب، تعد مركزا مهما لاستخراج الفوسفات، حيث يجري تصدير جانب كبير منه إلى الصين. ووفقا لموقعه الإلكتروني، أنشأ النادي، شاب مغربي عاشق لرياضات المصارعة الآسيوية اكتشف الإذاعة وبدأ المشاركة في مسابقاتها التي تبث على الهواء مباشرة. ومنحته الإذاعة فرصة زيارة محافظة سيشوان؛ حيث انضم إلى مجموعة من المستمعين للإذاعة من تركيا والسنغال وكمبوديا والمجر وغيرها، من الشباب الذين أسسوا، أيضا، نوادي في بلدانهم. وخرج كل شخص برفقة شخص من الشبكة الإذاعية، عمل معه كمترجم ومرشد بدوام كامل. وكتب المشارك المغربي تقريرا حول الزيارة أفاد فيه: «لقد كنا نتناول العشاء والوجبات الخفيفة في أفضل المطاعم بالصين كما لو كنا ملوكا. ولا أستطيع أن أصف مدى إحراجي من المذيعة المحترمة التي رافقتني طوال الرحلة، والتي لم تبدِ أبدا تعبا أو مللا من ترجمة كل كلمة». فقد كانت تعاملني بحنو أم، مشيرا إلى طاقم العمل في الإذاعة، بأنه «كأفراد الأسرة الأعزاء».
يعمل النادي الدولي لأصدقاء الإذاعة الصينية بإذن من وزارة الداخلية المغربية، لتزويد الإذاعة بتقارير عن المستمعين، والتعاون مع السفارة الصينية في محاولتها التقارب مع المغرب، ولعقد صفقات تعاون بين المؤسسات المغربية ونظيراتها الصينية. وبالنسبة لأعضاء النادي، فإن اتفاق القاهرة الذي أفضى إلى بث المسلسل الصيني على التلفزيون المصري هو نموذج يجب التطلع إليه. وقد حقق نادي خريبكة خطوة في هذا الاتجاه، في أكتوبر (تشرين الأول) 2013، بافتتاح مهرجان الفيلم الصيني الذي امتد لأسبوع كامل.
وتعد تلك المشروعات، تجليات {القوة الناعمة} للصين، وهي القدرة على جذب الآخر بدلا من استعدائه؛ حيث قوبلت بعض المساعي المماثلة من قبل الولايات المتحدة، على مدار سنوات، بعداء حاد، تمظهر في اعتداءات وقعت على المكتبات الأميركية والمنشآت التعليمية الإنجليزية في الكثير من الدول العربية. كما تعرض بعض العاملين في المبادرات الأميركية للشكوك، أو حتى للاتهام بالتجسس بخلاف نظرائهم الصينيين. ولإدراك التناقض، يمكن تخيل الانتقادات التي يمكن أن تتعرض لها مجموعة من الشباب العربي في بغداد أو غزة، إذا ما أطلقت على نفسها «نادي أصدقاء الإذاعة الأميركية» التي تعمل على تقديم تقارير مستمعين لهيئة أميركية للمحكمين في واشنطن، والتعامل مع السفارة الأميركية لتأسيس «اتفاقيات تعاون» مع السكان. وتنبع المعاملة القاسية التي سوف يتعرض لها هؤلاء الشباب، إلى حد كبير، من الوضع الأميركي في الشرق الأوسط، في أعقاب سنوات من السياسات التي لم تلق قبولا لدى الجماهير العربية. وعلى النقيض، لم تحتل الصين، من قبل، أي دولة عربية، كما أنها لا تواجه اتهامات تتعلق بالانحياز لصالح إسرائيل ضد الفلسطينيين.

* السياسة الصينية
ومن جهة أخرى، تبنت الصين مؤخرا عددا من السياسات التي أثارت استياء معظم أنحاء المنطقة اليوم ودفعت ثمن ذلك في مستوى شعبيتها؛ فقد ضخت البلاد المليارات في ليبيا عبر عقود البترول في عهد القذافي، ورفضت مساندة الحملة للإطاحة به. وبالتالي نأت عنها الحكومة الانتقالية فيما بعد القذافي ومعظم الشعب الليبي. وقد أصبحت الأغلبية السنية المأزومة في سوريا تشعر بالكراهية تجاه الصين؛ نظرا لأنها تقف إلى جانب نظام بشار الأسد وسط الحرب الأهلية الدموية المستمرة هناك. وهناك الكثير من المظالم الاقتصادية تجاه الصين أيضا؛ فعلى سبيل المثال يلقي قطاع من نخبة القطاع الخاص في مصر باللوم على شركائهم الصينيين في إعادة جانب كبير من الأرباح من المشروعات التي تقام على أراضيهم إلى الصين حتى إن القدر المتبقي للاقتصاد المحلي لا يمثل مكاسب عادلة وذلك وفقا لما يقوله جون الترمان مدير برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن. وفي سبتمبر تعرضت الصين لأول هجمة إرهابية ضد واحدة من سفاراتها في الشرق الأوسط عندما جرى إلقاء قذيفة هاون على سفارتها في دمشق انتقاما من دعم بكين للأسد.
ورغم أن تقرير بيو للآراء الدولية يلحظ وجود تراجع لشعبية الصين، فإنه يؤكد أنها ما زالت أكثر شعبية من الولايات المتحدة في المنطقة؛ مشيرا إلى أن الشباب العربي يحبون الصين أكثر مما كان يفعل آباؤهم. فقد بدأت جهود القوة الآسيوية طويلة المدى للدبلوماسية الشعبية للتو تؤتي ثمارها كما يتضح من الصفقة الصينية مع التلفزيون المصري.
ولكن هل تحرز جهود الصين تقدما في الشرق الأوسط فيما تتراجع مستويات نظيراتها الأميركية؟ كلما تعمقنا في فحص جهود التواصل الأميركية، اتضح لنا أنها تعاني من نفس الاتهامات التي كانت تتعرض لها. ومن جهة أخرى، فإن للمقاربة التي تتبعها الولايات المتحدة خصائصها الفريدة وربما هو ما يساعد الصين على تجنب نفس المصير.
وعلى غرار جهود الدبلوماسية الشعبية الأميركية في العالم العربي، يواجه معهد كونفوشيوس (أي المؤسسات التعليمية الصينية التي كان يروج لها في البث العربي للإذاعة الصينية) معارضة في بعض البلدان التي له وجود بها. ولا يأتي الانتقاد أكثر شيء من البلدان النامية وإنما من الدول الثرية، فقد كان أكثر الاتهامات حدة التي وجهت للمعهد هو أنه يعمل كآلة تجسس للجيش الصيني. وتقر الاستخبارات الكندية بأنها فحصت فروع المنظمة على أرضها. ورغم الكثير من الانتقادات الأميركية وجود أشخاص مشتركين بين بعض فروع المعهد في الولايات المتحدة وقيادة شركة هيواي؛ وهي شركة اتصالات صينية تدور حولها شكوك بشأن تجسسها على منافسيها الأميركيين.

* الحرية الأكاديمية
ثم هناك اعتراض آخر يتعلق بأن المعهد يعرقل الحرية الأكاديمية في الجامعات التي يؤسس فرعا بها؛ حيث يلجأ الكثير من الجامعات المتعثرة ماديا، مما يحد من حركة النشاطات الجامعية ضد ما يزعم أنه انتهاكات حقوق الإنسان في الصين، وهو ما أسفر عن إلغاء زيارة للدالاي لاما، على سبيل المثال، خوفا من أن يغلق المعهد أبوابه احتجاجا. وقد دعت المعارضة المنظمة بجامعة شيكاغو وجامعة ملبورن بالإضافة إلى عدد من الجامعات في أوروبا وآسيا إلى إلغاء تلك المعاهد برمتها، استنادا إلى عدد من الحجج منها أن المعهد يعد بوقا فعالا للحزب الشيوعي الصيني، رغم أنه يقدم نفسه في أوروبا والأميركتين باعتباره المعادل الصيني لمعهد غوته الألماني والمعهد البريطاني اللذين يتمتعان بالاستقلالية السياسية من الحكومتين الداعمتين لهما. وعلى النقيض من ذلك، وكما يقول لي شنغ شون، أحد كبار الأعضاء باللجنة الدائمة للمكتب السياسي في حوار مع مجلة «إيكونوميست» فإن المنظمة أسستها بكين كجزء مهم من الدعاية الصينية بالخارج. وقد وصف الكثير من الدارسين بمعهد كونفوشيوس بالغرب معلميهم بالمعهد بأنهم يستخدمون موقعهم لتعزيز موقف الحكومة الصينية في نزاعها مع تايوان وجماعة فالون غونغ المعارضة وأحداث ميدان تيانانمن ونشطاء الاستقلال في التبت.
وربما تندرج مثل تلك الاتهامات على معهد كونفوشيوس في البلدان الفقيرة مثل مصر التي تعاني فيها الجامعات من صعوبات مالية، ومن ثم فإنها بالضرورة ستصبح أكثر امتنانا للمتبرعين الأجانب. ولكنك إذا ما تفحصت وسائل الإعلام المصرية بحثا عن أي انتقاد للمؤسسة، حتى وإن كان تفنيدا للمزاعم الغربية، سوف تخرج خاوي اليدين. بل إنك بدلا من ذلك يمكنك مشاهدة جولة إرشادية مدتها 30 دقيقة داخل فرع المعهد بجامعة القناة جرى بثه على قناة «الجزيرة مباشر» في مايو (أيار) الماضي، وحوار مدته 20 دقيقة مع مصرية محبة للثقافة الصينية تترأس فرع المعهد في دبي جرى بثه على قناة «المصرية»، بالإضافة إلى الكثير من التقارير الصحافية التي جرى تناقلها حرفيا في الصحف المصرية حول تزايد أعداد المصريين الذين يجيدون الصينية، فيما أرجعت هذه التقارير الفضل للمعهد.
ويبدو أن هذه التغطية الإيجابية للغاية تعود إلى مزيج من العوامل بعضها تفتقر إليه القوى الغربية المنافسة للصين؛ فمثلا ينظر الشرق الأوسط إلى الدول الغربية على أنها «أطفال» من منطلق التاريخ وعلى مبعدة عدة قرون من الحصول على التوقير الذي تكتسبه الحضارات القديمة والعريقة مثل الصين. كما أن الدول الغربية لم تحظ بما حظيت به الصين في التراث العربي: (اطلبوا العلم ولو في الصين). ولا يعود شعور أحد المغاربة المحبين للإذاعة الصينية بالامتنان لشعب محافظة سيشوان إلى برنامج الحكومة المخصص لتشكيل مثل تلك الصلة، بل إنه نتاج طبيعي للتفاعل بين أعضاء المجتمعات التقليدية التي لديها نفس القيم والبنى العائلية والصلات المدنية ونفس الدعابة القديمة. ومن ثم، فإن تلك العوامل المشتركة هي ما تجعل البطل في مسلسل «حياة سعيدة» مميزا بالنسبة لملايين المصريين الذين يعيشون في الحضر؛ حيث إنهم هم شخصيا انتقلوا إلى الحضر عبر الهجرة من الريف ويتذكرون صدمة الانتقال المفاجئ من الريف إلى الحضر. ومن ثم فمن المرجح أن تتمتع الصين لسنوات طويلة مقبلة بأفضلية في البلدان العربية مقارنة بالقوى العظمى الأخرى.
كما أن مقاربتها الإعلامية والتي يقلل من شأنها خبراء القوى الناعمة الأميركيون عتيقة الطراز أيضا ويمكن تلخيصها بمصطلح اشتهر في العالم العربي وهو مصطلح الكر والفر. ففي إطار مساعي واشنطن للحصول على تصنيف عالٍ لدى «غالوب» تعاملت مع المنطقة دفعة واحدة - وذلك بالاستعانة بجهود على مدار اليوم من الدبلوماسية الشعبية تغطي نحو 3200 ميل عبر الموجات العربية - وهي الاستراتيجية التي كانت أثارت اعتراضات واسعة مما دفعها في النهاية إلى تعديل استراتيجيتها. فيما كانت الصين تتسلل بهدوء وتتواصل مع عدد محدود من الجماهير، وتراكم انتصارات صغيرة وتحصل على مناصرين جدد. فعندما تقوم بتجربة تكون المخاطر محدودة، وعندما تشن حملة طموحة تكون لديها خطة مدروسة جرى اختبارها مسبقا، وهي مقاربة يمكن لأي منافس أن يستعين بها خاصة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط التي تمتاز بالتنوع الشديد ومن ثم لا يمكن تلخيص رسالة القوى الأجنبية في رسالة واحدة لكافة المناطق.
وبالنسبة لقدرة الصين الباهرة على تجنب الانتقادات الصحافية - على الأقل حتى الآن - فإنها تنبع من حقيقة أنه بعد ثلاث سنوات من بداية الثورات العربية، لا تزال معظم وسائل الإعلام الكبرى في المنطقة، تخضع مباشرة لهيمنة الدولة أو تذعن لها. وبدورها، تعمل الصين باستمرار، على طمأنة الحكومات العربية بأنها ليست لديها أي خطط تجاه أنظمتها السياسية. كما أنها تسعى للشراكة مع الإذاعات المحلية وليس التنافس معها. وبهذه الطريقة، تمكنت من تجنب صدور أوامر بتشويه مؤسساتها أو تطلعاتها.
وبالطبع، ستثير فكرة تقديم تطمينات مماثلة لدولة عربية، حتى وإن كانت حليفة، انزعاج الكثير من الأميركيين أخذا في الاعتبار التقليد الأميركي المعتمد على تصدير الديمقراطية وطرق التفكير حول وسائل الإعلام عبر «لعبة التصنيف». ولكن الملابسات الحالية في المنطقة تقتضي طرقا جديدة لتطبيق القيم الأميركية على سياستها. فعندما تحقق الحركات المتطرفة العابرة للقوميات خطوات صوب إضعاف الدول والقضاء على حدودها، يجب منعهم من النجاح والتركيز على دعم مؤسسات الحكومة التي تعدها واشنطن حليفة. بالإضافة إلى أنه عبر المشاركة في مجال وسائل الإعلام، تستطيع أي قوة سواء كانت الولايات المتحدة أو غيرها أن تفوز بمقعد على الطاولة وفرصة للتفاوض حول كيفية تقديمها في وسائل الإعلام ومن ثم الحصول على فرصة للتفاوض حول معاملة خصومها.

* كاتب أميركي متخصص في شؤون الشرق الأوسط



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.