جون لوك: حرية الفرد تحدها الالتزامات والقواعد

ربط كمال الإنسان بالاستقلال عن الآخر

جون لوك
جون لوك
TT

جون لوك: حرية الفرد تحدها الالتزامات والقواعد

جون لوك
جون لوك

على وقع سيلٍ من الأحداث الكبرى التي تعصف في أوروبا ولد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (29 أغسطس «آب» 1632 - 28 أكتوبر «تشرين الأول» 1704)، وهي السنة التي ولد فيها الفيلسوف باروخ أسبينوزا. شهدت رنغتون ركضاته الأولى في إقليم سومرست، ليتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أكسفورد. اكتسب أهمية مضاعفة بعد تأييده لثورة 1688، إذ كتب مقالاتٍ تدور حول «الحكومة» وتتضمن نقداً لفيلمر، ولتوماس هوبز، الذي بنى رؤيته حول الثورة والحق الطبيعي بشكلٍ مخالفٍ لما ذهب إليه جون لوك، الأمر الذي دعاه إلى تشييد رؤيته حول السياسة الليبرالية، ومفهوم المواطن، ودور الملكية في الفرد. في هذه المساحة سأتناول طرفاً من رؤية لوك، مع الإشارة إلى مواضع النقد لها من قبل مجايليه من الفلاسفة والمفكرين آنذاك.
جامع رؤية لوك وجوهرها الدالّ عليها مفهوم «الحق الطبيعي» للفرد بحريته وبـ«الشخصية» المتفرّدة، وهي شخصية يجب أن تكون «أخلاقية»، و«الشخصية» للفرد سابقة للمجتمع المدني وشرط لمشروعية السلطة أو النظام القائم. يكتب: «إن الفرد ليس كائناً اجتماعياً من الأساس، لكنه يدخل في المجتمع بغية الظفر بحقوقه الطبيعية». ومن ثم يعتبر الملكية الفردية حقاً، ذلك أنها مرتبطة بـ«الحفاظ على الذات»، الأمر الذي يستدعي ملكية الذات والجسد لما بين يديه من أشياء. وهو يربط بالأساس بين الملكية والحرية باعتبار الأولى شرطاً للثانية، ومن دون هذا التلاقي المتراتب بين الاثنتين لم يكن للوك أن يؤسس نظريته السياسية بتلك الجذور العميقة. بقيت مفاهيم مثل: «الحق الطبيعي، الشخصية، الملكية، الفرد، السلطة، المشروعية»، متكررةً في ثنايا طروحاته ومقالاته وانتقاداته.
رأى لوك أن الملكية بالأساس ذات طابعٍ فردي، ويربط بين هدف إقامة السلطة والملكية. فـ«إذا كان هدف إقامة السلطة السياسية حماية ملك الفرد، فإن الحقوق السياسية والمدنية تحددها الملكية بالضرورة». هنا يضع لوك العلائق بين الفرد والسلطة، بين المؤسسة (الحكومة) والفرد (الأرض، الملكية اللامحدودة». لوك إذ يقرّ بالمساواة بين الأفراد في الحقوق الطبيعية فإنه يبرر عدم المساواة في مجالات الاقتصاد والسياسة المرتبطة بالحقوق، وبحسبه فإن: «الحقوق الطبيعية ومن بينها الحق في العمل والملكية والمراكمة اللامحدودة تقود بالضرورة إلى التفاوت في الحقوق المدنية والسياسية».
ينقض لوك «السلطة المطلقة» التي نظّر لها الفيلسوف توماس هوبز، ونعثر في كتابات لوك على هجوم شرسٍ لها، ذلك أنها قرين الطغيان، بل هي «عبارة عن ممارسة السلطة التي لا تستند إلى أي حقٍّ أبدا، والتي تستحيل أن تكون حقاً لشخصٍ ما، والطغيان استخدام السلطة من شخص لمصلحته الخاصة، لا من أجل منح الخير لعموم المحكومين، وتتجسد السلطة المطلقة حينما يجعل الحاكم إرادته قاعدةً للسلوك عوضاً عن القانون، وعندما تتجه أفعاله نحو أرضاء تطلعاته، أو شفاء غليله عوضاً عن المحافظة على مكتسبات شعبه».
ثم يصوغ لوك الفردانية بصيغٍ ضابطةٍ لها، فلا يكون الإنسان مكتملاً في إنسانيته إلا إذا كان حراً ومستقلاً عن إرادة الآخر، ومن ثم يسعى الإنسان الحر إلى تحقيق مصلحته الخاصة، والفرد ليس مديناً بشخصه وبملكياته الذاتية للمجتمع، وليس من حقّه أيضا أن يتنازل عن شخصه مفرقاً بين التنازل عن الشخص والتنازل عن العمل، ويقرر أن المجتمع هو مجموع علاقات السوق، كما أن حرية الفرد وإنسانيته تحد بالالتزامات والقواعد الضرورية التي تضمن للجميع الحرية والاستقلالية. هذه صياغة لوك للفردانية حسب تأويل مايكفرسون.
جلّ فلسفة لوك السياسية جاءت نقضاً لمبادئ هوبز، فمنطلق هوبز أن «الحالة الطبيعية» مرعبة، ذلك أنها مجال لتحويل الواقع إلى غابةٍ يأكل فيها الإنسان أخاه، وهي ميدان للفوضى والخراب والقتل والدمار، بينما يعتبرها جون لوك في كتاباته حول «الحكومة المدنية» اعتبر تلك الحالة مجالاً للسلام والمساواة، ومجالاً للملكية الذاتية الفردية. لوك يناقض هوبز الذي اعتبر «السلطة المطلقة» بيد فردٍ أو مجموعة أفراد تتوفر لديهم حقوق مطلقة وتلتزم بها الرعية، ويلتزم بها جميع المواطنين، بينما لوك رأى أن الدولة حين تقصّر في حماية «الثروة، والحرية» وجب تغييرها والثورة عليها.
بالنسبة للوك فإن الشعب هو صاحب السيادة ولكنه لا يحكم، بل يقوم بـ«التفويض» لأشخاص يأتمنهم ويعهد إليهم بمهمة تحقيق السلم والأمن، من خلال النظام الديمقراطي. غير أن نقّاد جون لوك انتقدوه على نظرية الحق الطبيعي المرتبطة بالفرد، ذلك أنها تصل في نهاية المطاف إلى نزع المشروعية عن جميع الحكومات القائمة.
كان جون لوك ناقداً لقبضة فلسفة هوبز على التداول السياسي النظري، ليجعل من طرحه المصبوغ بالنزعة الثورية منفذاً للإنسان من قبضة الطغيان، غير أن رؤيته هذه ستمر على انتقاداتٍ كبرى. لقد مرّ العقد الاجتماعي من خلال ثلاثة أيقوناتٍ فلسفية مهمة: «هوبز، لوك، روسو»، ليصل الآن إلى تعديلاتٍ وانتقاداتٍ كثيرة، والعودة إلى لوك يجب أن تكون نقدية محكومةً بظرفها الزمني، وبتاريخية تلك الرؤية، ولئن حاول البعض عصرنتها أو تبيئتها في المجال العربي غير أننا بحاجةٍ إلى نظرية «هوبز» السياسية أكثر من منافذ لوك، ذلك أننا أحوج ما نكون إلى الضبط في ظلّ هذا الصراع المحتدم في مناطق النزاع.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.