ميشال تورنييه.. المزج بين الأسطورة والتاريخ وبين الشعري والنثري

هل يمكن القول بأن ميشال تورنييه ظل طيلة حياته يحلم بجائزة نوبل حتى بلغ التسعين بل وتجاوزها دون أن ينالها؟ كلام مبالغ فيه، وربما غير لائق بحقه. الأصح أن نقول إنه كان من أكبر المرشحين لها منذ سنوات وسنوات، لكنها ذهبت إلى غيره وأخطأته. وربما ذهبت إلى من هو أقل منه أهمية. وهذه هي حال الجوائز فلا تمنح دائما لمن يستحقها. ثلث من أعطيت لهم «نوبل» لا يستحقونها وحتما هو أهم منهم.
على أي حال فليس هذا موضوعنا. فالرجل لم تنقصه الجوائز التشجيعية. ذلك أنه نال جائزة الأكاديمية الفرنسية عام 1967 على أول رواية يصدرها بعنوان: «جمعة أو تخوم الباسفيكي». وكانت ضربة معلم كما يقال. ثم أتبعها عام 1970 برائعته الكبرى «الغول أو ملك الرياح»، وعليها حاز جائزة غونكور الشهيرة. وهي ذات الجائزة التي نالها الطاهر بن جلون وأمين معلوف ومشاهير آخرون كثيرون. وميزتها أنها لا تشهرك فقط وإنما تغنيك ماديا بالفلوس. وهذا أهم شيء! وبالفعل فقد أصبح ميشال تورنييه ثريا بعدها وما عاد بحاجة إلى العمل لكي يعيش.
نقول ذلك وبخاصة أنه فشل مرتين في امتحان شهادة التبريز التي نالها سارتر وريمون آرون وجورج بومبيدو وميشال فوكو ومعظم عظماء فرنسا. والبعض يقول بأنه لم يقم من ذلك الفشل طيلة حياته كلها. لقد أثر عليه نفسيا إلى درجة أنه أقلع نهائيا عن مهنة التعليم وكفر بهذه الشهادات التي لا تذهب دائما أيضا إلى من يستحق.. وربما لم يصبح كاتبا كبيرا إلا لكي ينتقم من ذلك الفشل الذريع. وقد انتقم بالفعل شر انتقام. هكذا تلاحظون أن الفشل في الحياة قد يؤدي إلى النجاح في الأدب.. فلا تقنطوا أيها الكتاب ولا تيأسوا مهما عركتكم الحياة ومهما لقيتم من مصاعب وآلام وخيبات. ألم يقل دوستيوفسكي لكاتب شاب جاء يطلب نصيحته: ينبغي أن تتعذب يا صديقي. ينبغي أن تتعذب حتى لا يعود إلى العذاب من معنى. ينبغي أن تتعذب يا أخي وتذوق طعم المرارات قبل أن تسطر حرفا واحدا. تعذب، تعذب، تعذب. كررها ثلاث مرات. وبالتالي فمن يعتقد أن الأدب هو عبارة عن مزحة أو نزهة في وادٍ من الزهور عليه أن يقلع فورا عن عملية الكتابة. فلم تخلق له. على أي حال بعد ذلك الفشل راح يشتغل في الصحافة الأدبية والترجمة من الألمانية إلى الفرنسية ثم أصبح قارئا ومستشارا أدبيا لدى أشهر دار نشر فرنسية: «غاليمار». ولكن كما قلنا فبعد نيله جائزة «غونكور» لم يعد بحاجة حتى إلى عمل.. فمبيعات كتبه تكفيه وتزيد. هل نعلم بأن روايته الأولى حظيت بخمسة ملايين نسخة؟ شيء مخيف. نقول ذلك وبخاصة بعد أن بسطت وعممت على طلبة المدارس تحت عنوان مختلف قليلا: «جمعة، أو حياة الفطرة البدائية البسيطة». ومعلوم أن الكاتب في فرنسا يغتني من كتبه إذا ما نجح على عكس الكاتب العربي. وهي عموما مستوحاة من رواية روبنسون كروزو الشهيرة. إنها تعني اعتزال العالم الظالم المزعج وإلقاء نفسك في أحضان الطبيعة بعيدا عن ضجيج البشر. وهو ما طبقه ميشال تورنييه عمليا عندما انعزل في وادي الشيفروز المحيط بباريس، ولم يكتف بالتحدث عنه نظريا. أما روايته الثانية «ملك الرياح» فبيعت بأربعة ملايين نسخة! وبالتالي فالرجل أصبح قادرا على أن يعتزل العالم ويعيش ملكا متوجا على عرشه! وباريس تحت قدميه كلما شاء قحص نحوها قحصة.
لقد اشتهر ميشال تورنييه ببراعة المزج بين الأسطورة - والتاريخ، بين الخيال - والواقع، بين السماوي - والأرضي، بين النثري - والشعري. وهو ما اشتهر به غونتر غراس أيضا وكذلك غابرييل غارسيا ماركيز وآخرون. نضرب على ذلك مثلا رائعته الكبرى: ملك الرياح. ففيها يتحدث عن سعلاء أو غول شره يأكل لحوم البشر. وهي قصة مأخوذة عن غوته في الواقع، لكنه حورها وطورها وأسبغ عليها مسحة شخصية له. فهذا الغول الذي ظهر في منطقة بروسيا الشرقية استطاع إقناع الشبيبة الألمانية بالانخراط في الحرب التي بلعتهم وأكلتهم تماما كما فعل هتلر. بهذا المعنى فإن هتلر هو غول ألمانيا الذي دمرها بعد أن أغواها وأغراها وسحرها ومشى بها إلى حافة الهاوية.
هل نعلم بأن ميشال تورنييه درس الفلسفة في جامعة توبنغين؟ وهي ذات الجامعة التي درس فيها الثلاثي الشهير: هيغل وشيلنغ وهولدرلين. ثلاثة عباقرة في غرفة واحدة! وكانوا يغطون تحت اللحاف كتب كانط عن الدين عندما يمر عليهم الرقيب في ساعة متأخرة من الليل. وكذلك كانوا يفعلون مع كتب جان جاك روسو وفولتير وبقية فلاسفة الأنوار. كان اللاهوت المسيحي الظلامي لا يزال سائدا آنذاك وويل لمن تسول له نفسه قراءة الكتب المحرمة المهرطقة المزندقة المنحرفة عن «النهج القويم والصراط المستقيم». كل التفسير العقلاني التنويري للدين كان ممنوعا آنذاك. وحده التفسير المتزمت الطائفي كان شرعيا وطاغيا ومسموحا به بل ومفروضا بالقوة. وما كانوا يعتقدون بإمكانية وجود تفسير آخر غيره. ماذا يحصل في العالم العربي حاليا؟ وعلى ذكر كانط فقد ظل ميشال تورنييه طيلة حياته معجبا به. بل وكان يمتلك نسخة عن أعماله الكاملة بالألمانية، ويفتخر بأنه الفرنسي الوحيد الذي يمتلكها. وقد اشتراها قبيل الحرب العالمية الثانية. كان معجبا بألمانيا، لأنه ولد في عائلة مفعمة بالتأثيرات الألمانية. فوالداه كانا يتقنان لغة غوته ويعلمانها في المدارس الفرنسية. ولكن والده بعد أن جرح في الحرب العالمية الأولى ضد الألمان كره ألمانيا كرها شديدا وحقد عليها، إلى درجة أنه أصبح يكره لغتها. أما ميشال تورنييه فرفض أن يحقد على الثقافة الألمانية لمجرد أن ألمانيا غزت فرنسا وهزمتها مرتين أو ثلاث مرات. لقد عرف كيف يفرق بين الحرب من جهة، والفكر والثقافة من جهة أخرى. وهذا فضل يذكر له. ليت أن المثقفين العرب يفرقون بين العداء للاستعمار الغربي من جهة، والفتوحات الفكرية الرائعة لذات الغرب من جهة أخرى. ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟ إنهم يعتقدون أن كل مآسينا آتية من جهة الغرب، بل وحتى «داعش» يقولون بأنها صنيعة الغرب! وهكذا يرفضون الاعتراف بأي مسؤولية داخلية عن المرض العضال الذي ينهش في أحشائنا منذ قرون. والله ما دمنا بهذه العقلية لن نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة. أكبر مأساة في حياتنا الثقافية هي أننا لم نستطع القيام بمثل هذا التمييز فسقطنا في بحر من الأدلجة العمياء والشعارات الغوغائية التي لم نقم منها حتى اللحظة. لماذا لا نعتد بنيتشه؟ هل تعلمون أنه بعد انتصار ألمانيا الساحق على فرنسا عام 1870 راح يشتم بلاده ألمانيا ويثني على الثقافة الفرنسية ويعدها مثلا يحتذى؟ نقول ذلك على الرغم من أنه ساهم في تلك الحرب من الجهة الألمانية بطبيعة الحال.. فهو ألماني أيضا.. لكنه وجد في الثقافة الفرنسية أشياء أعجبته فلم يتردد عن الإشادة بها على الرغم من أن فرنسا هي العدو اللدود لبلده ألمانيا.. ولكن الثقافة شيء والعداوات العابرة شيء آخر.. والدليل على ذلك أن ألمانيا وفرنسا أصبحتا الآن دولة واحدة تقريبا من خلال الاتحاد الأوروبي. فهما النواة الصلبة لهذا الاتحاد، وأحيانا يعقدان مجلس وزراء مشترك لكلتا الحكومتين، إما في باريس وإما في برلين. من يصدق ذلك؟ هذا زمن المعجزات والأعاجيب.. لو قلت لشخص ألماني أو فرنسي هذا الكلام عام 1870 أو حتى عام 1940 لشك في قواك العقلية والنقلية ولطالب بإدخالك إلى العصفورية أو مستشفى المجانين.
على الرغم من أن ميشال تورنييه ولد وترعرع في باريس، بل وفي أجمل حاراتها المطلة على نهر السين (جزيرة القديس لويس) فإنه هجرها وفضل عليها قرية صغيرة لا تضم أكثر من 500 شخص.
وهي لا تبعد عن العاصمة أكثر من 27 كيلومترا وربما أقل. وأتذكر أنني كنت أسكن على نفس خط المترو المؤدي إليها وفي كل مرة كنت أقول سأكمل الطريق، لكي أراها ليس من أجل الكاتب (فما كنت أعرفه آنذاك)، وإنما من أجل الطبيعة الساحرة والرغبة العارمة في اكتشاف المجهول. ومرت السنوات دون أحقق هذا الحلم السهل الذي كان في متناول اليد. يذكرني ميشال تورنييه بالشاعر الكبير رينيه شار الذي هجر باريس أيضا وذهب إلى قريته الصغيرة الوادعة في الجنوب. هناك كتاب ينشدون الوحدة والعزلة والعيش في أحضان الطبيعة. ليس من الضروري أن تكون في قلب باريس لكي تصبح عبقريا.. ميشال تورنييه كان يقول: الذين يصرون على العيش في باريس مجانين! يكفي أن تخرج منها بمسافة قصيرة - نصف ساعة - لكي تجد نفسك في الجنة، في أحضان الطبيعة الغناء.
وهذا ما فعله جان جاك روسو في وقته فاتهموه بالجنون! هل يعقل أن تترك باريس عاصمة الدنيا وتذهب لكي تعيش مع الفلاحين البدائيين والوحوش؟ ولكن لو لم يفعل ذلك هل كان الإلهام سينزل عليه ويكتب مؤلفاته الخالدة؟ اهجروا العواصم والضجيج والعجيج وألقوا بأنفسكم في أحضان البساتين وما أكثرها في ضواحي باريس. شاتوبريان هجر باريس أيضا أو قل طرده نابليون فراح يسكن في «وادي الذئاب»، حيث سكنت أنا أيضا تقريبا.. ما أجملك يا وادي الذئاب! مرة ضعت هناك مع إحدى «الغزالات»، ولم يأكلنا أي ذئب، بل ربما كنت أنا الذئب الوحيد آنذاك.