ندوة «جهود الظاهري في خدمة الأدب والفكر والتراث».. وفاء واعتراف بعراقة وأصالة سيرة الشخصية المكرمة

الظاهري لـ («الشرق الأوسط») : الجنادرية أعادت شبابي وذكّرتني ما كنت ناسيًا من منسي الهوى

فعاليات «قرية الجنادرية» (تصوير: خالد الخميس)
فعاليات «قرية الجنادرية» (تصوير: خالد الخميس)
TT

ندوة «جهود الظاهري في خدمة الأدب والفكر والتراث».. وفاء واعتراف بعراقة وأصالة سيرة الشخصية المكرمة

فعاليات «قرية الجنادرية» (تصوير: خالد الخميس)
فعاليات «قرية الجنادرية» (تصوير: خالد الخميس)

جاءت ندوة «جهود أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في خدمة الأدب والفكر والتراث»، بمزاج أدبي رفيع، حشدت الكثير من مضامين الوفاء والامتنان والاعتراف بعراقة وأصالة سيرة الشخصية المكرمة بالمهرجان الوطني للتراث والثقافة 30 على لسان المشاركين في هذه الندوة، ضمن الفعاليات الثقافية للمهرجان أمس في الرياض.
أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري قال لـ«الشرق الأوسط»: «إن ما سمعته وعشته بين ثنايا هذه الندوة، التي تطرقت لجهود شخصي الضعيف، غمرتني بإحساس وانطباع لا يوصف، إذ شعرت بأن مقدمي الندوة والمحاورين ومشاركات الحضور، جاءوا وأعادوا إلى شبابي عشرين عاما وذكّروني ما كنت ناسيا من منسي الهوى».
وفيما إذا كان الجيل الجديد يتمتع بقدرة نقل وخدمة الأدب بالمستوى الذي خدمه به الرعيل الأول من مثله، قال الظاهري: «الجيل الجديد ولا سيما من شعر الحداثة، والتأرجحات الأدبية، هم موقنون اليوم، بتجلية الأدب الحداثي وإبداعه نموذجا وتأصيلا هم أولى من أبناء جيلي والذين قبلهم، لأنهم تفرغوا لهذه الحرفة، ومن تردد في شيء أعطي حكمته».
وعن تقييمه لخدمة الأدب على الورق المكتوب على أيامه، مقارنة بخدمته في العصر الحديث عبر وسائل التواصل بنفس النكهة دون الخشية عليه من التلاشي أو الضياع أو الركاكة والضحالة، قال الظاهري: «الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي هذه فائدة كبرى وعظيمة إذا أنت تبحث عن شيء في ذهنك ينقل لك في لحظات وتتأمله، ولكن إذا لم يكن في ذهنك شيء كنت مكتشفا، وبالتالي أعتقد أنه لا يغني شيء عن الكتاب لأنه في أثناء قراءتك له يبدو لك شيء لم يكن على بالك، وتحتفل به».
واستطرد بالقول: «ألا ترى أن أبا محمد علي بن العقيل الحنبلي رحمه الذي توفي في آخر القرن الرابع ألف كتابه (ألف نون) ووصفه الباحثون بأنه 40 مجلدا ضخما ووجدنا منه الآن مجلدا وطبع وإذا استلقى على فراشه عنّت في رأسه فكرة فقام ودونها ثم بلورها وتكون من هذا النموذج مجلدين ضخمين من خلال 40 مجلدا.. هذا من أين أتى خاصة أنه لم يعش عصر الإنترنت وليس لديه وسائل تواصل اجتماعي؟ هذا كان نتاج القراءة بالعين ومتابعة الأسطر والشرح مع علماء الأموات».
وأخذ الظاهري ينشد مآثر الكتاب من خلال أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي في بعض أشعاره حين قال: أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ *** وخير جليسٍ في الزمانِ كتابُ
وتابع الظاهري قوله: «لا يبلى العلم ولا يطلع درره مثل القراءة الحرّة أما الإنترنت فإنه يمثل طفرة نوعية كبيرة في عالم الاتصال والتواصل ومسهل للقراءة والكتابة والطباعة».
وشارك في ندوة «جهود أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في خدمة الأدب والفكر والتراث»، والتي جاءت حول الشخصية الثقافية المكرمة، كل من الدكتور أحمد بن علي آل مريع وحمد القاضي والدكتور عبد اللطيف الحميد والدكتور محمد العوين، حيث أدار الندوة، عبد الرحمن إسماعيل.
الدكتور أحمد آل مريع عميد كلية المجتمع بجامعة الملك خالد بأبها ورئيس مجلس إدارة نادي أبها الأدبي، استعرضت ورقته جهود أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في خدمة الأدب والفكر والتراث.
وقال آل مريع: «اخترتُ أن تكون الورقة في منطقة إشكالية بعض الشيء، وهي منطقة (كتابة الذّات) وفيما يتصل بأدب السيرة الذاتية. والوجه الإشكالي من هذه الزاوية المقاربة لجهوده في خدمة الفكر والأدب، يكمن في عدّة أمور بعضها يمس الكتابة الذاتية نفسها، وبعضها يمس تلقيها، وبعضها الثالث يتصل بالمجتمع الذي ما زال يتوجس من الكتابة عن الذّات، وبعضها يتصل بشخصية الكاتب الشيخ أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وخياراته الفكرية والشرعية والأدبية وشخصيته وما عرف عنه من مشاركة علمية وتحقيق في عدد من العلوم والمعارف».
وفي هذه الورقة حاول آل مريع، الوقوف على تجربة كتابة السيرة الذاتية عند الشيخ الظاهري من خلال الوقوف على بعض العوامل التي تهيأت له وجعلت من تجربته هذه غنية تستحق العناية والاهتمام، من خلال الإحساس القوي بالذات والوعي النظري.
وقال آل مريع: «تميزت تجربة أبي عبد الرحمن بن عقيل بإحساس قوي بالذات، ونزوع إلى الاستقلالية على مستوى الشخصية وعلى مستوى الخيارات، وهذا انعكس على اختياراته الفقهية التي يرى فيها (التقليد) في مسائل الفقه مرجوحًا، وأن على العالم أن يحرر المسائل ويجتهد إن كان مستطيعا».
والسيرة الذاتية وتدوين الذات وفق آل مريع، لا يكون إلا عن وعي عميق بها، ولذلك ذهب جورج ماي إلى أن السيرة الذاتية شكل من أشكال التعبير تختص به الثقافة الغربية، حرّضت عليه البيئة الثقافية الغربية وما فيها من تطور للفردانية.
وتابع: «الكتابة الذاتية - السيرة الذاتية وما شاكلها لا تتوافر عادة إلا لمن كان إحساسه بفرديته واستقلاليته كبيرًا، لأن الذين يستهلكهم السائد والعام، يفشلون في تقديم تجاربهم الذاتية لأن البحث عنها لا ينتهي لإثبات شيء خاص تمتاز به يستحق أن يحكى ويكتب عنه، أو لعجزه عن رؤية ذاته من مستوى الاستقلالية فهو لا يملك ذلك المنظور الذي يكثف فيه تجاربه ويجمع أجزاءها».
وأضاف آل مريع: «هذا الإحساس القوي بالذّات الذي يجعل من شؤونها ومن حياة صاحبها مادة مغرية بالكتابة، اقترن عند شيخنا الجليل بالوعي النظري النقدي بكتابة السيرة الذاتية وبقراءة واسعة لأشهر أعمالها العالمية والعربية». ولفت إلى أن خبرة الظاهري، بالتراث العربي واطلاعه على صيغ عديدية من كتابة الذّات في التراث العربي كالفهارس والأثبات والمشيخات، وسير العلماء الذين دونوا بأنفسهم تجاربهم جعله على معرفة دقيقة بخيارات التدوين الذاتي ومناهج السيرة الذاتية وتباينها واقعًا وباعثًا بين الشرق والغرب.
حمد القاضي تناول في ورقته عن الشخصية المكرمة، عدة جوانب، قائلا: «لعل أول ما أبدأ به موقف أو (معركة التباريح)، التي كان السلاح فيها الحروف والزنابق، وليس الرماح وأبطالها أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، والدكتور غازي القصيبي رحمه الله»، مشيرا إلى أنه كانت بين الشيخ بن عقيل والوزير إبراهيم العنقري، رحمه الله، علاقة حميمة امتزجت فيها رابطة العمل مع آصرة الأدب.
من جهته، قال والدكتور محمد العوين: «ضيفنا وهو يزحف نحو الثمانين، أناشده التفرغ الكامل لكتابة سيرته الذاتية بتوسع واستفاضة، وإسهاب متوخيا التدوين للتاريخ وللأجيال وناظرا إلى ما كتبه من مقالات متفرقات منجمات للصحافة والمجلات ليست إلا نتفا لا تقيم سيرة ذاتية مكتملة الأركان عامرة البنيان».
وقال العوين: «إن سيرة أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري الكاملة الوافية ستكون وثيقة أدبية، وفكرية وتاريخية وشاهدا على العصر، وستتحدث بها الركبان وتغرد بها الأفنان ويشرد بها الأصحاب والندمان».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)