رحيل الطيب الصديقي.. رائد المسرح المغربي

ها هم كبار الفن والأدب والفكر يرحلون تباعا عن المشهد المغربي، فبعد أن غيب الموت، خلال السنة الماضية، عددا من رموز الثقافة والفكر والأدب، أبرزهم المؤرخ عبد الهادي التازي، وعالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي، تأبى السنة الجديدة إلا أن تواصل مسلسل الوداع الحزين، برحيل الفنان المبدع والمسرحي الكبير الطيب الصديقي، مساء أول من أمس الجمعة، بالدار البيضاء، عن سن الـ79 عاما، بعد معاناة طويلة مع المرض.
وخلف رحيل الصديقي حزنا كبيرا في الوسط الفني والشعبي، على حد سواء. وجاء في «تعزية» الائتلاف المغربي للملكية الفكرية أن «رحيل قمة فكرية وثقافية بهذا الحجم والحضور يعد خسارة كبرى للجسم الثقافي والفني عموما والمسرحي على وجه التحديد، لما للفقيد من مكانة مرموقة في مسار الحركة المسرحية والثقافية ببلادنا منذ بدايات التأسيس الأولى لأبي الفنون، ولما اتصف به الرجل من عصامية وجد وكد واشتغال موصول على امتداد عقود من الزمن في سبيل التأسيس ثم التكريس ثم التميز والإشعاع الوطني والعالمي لتجربة إبداعية متفردة الأسلوب والأبعاد».
ووصف الممثل والمخرج المغربي عبد الكبير الركاكنة، في شهادة لـ«الشرق الأوسط»، الفنان الراحل بـ«الهرم» و«الرمز» و«المعلمة»، مشيرا إلى أنه «يبقى رائدا من رواد المسرح المغربي والعربي والعالمي، باعتبار قيمة تكوينه وعطاءاته المجددة ومساهماته التي جعلت منه مدرسة أعطت أعمالا رائدة في الكتابة والإخراج والتشخيص والرسم والسينما. فنان متعدد المواهب ومدرسة كونت أجيالا متنوعة، في الموسيقى والغناء والمسرح والسينما والتلفزيون، أغنت الساحة الفنية المغربية والعربية، وحتى العالمية، من قبيل تجربة مجموعة (ناس الغيوان). وهذا شيء يحسب له أكثر من غيره».
وسجل الركاكنة أن الصديقي «أعطى الكثير للمسرح المغربي من جوانبه التنظيمية»، منتهيا إلى أن «الراحل غادرنا جسديا، غير أنه سيبقى خالدا بيننا بأعماله وبامتداداته الفكرية والتكوينية في الأجيال التي تكونت على يديه».
وترك الفنان الراحل تراثا مسرحيا متميزا، كما راكم، على مدى مسيرته الفنية، التي تواصلت على مدى ستة عقود، الألقاب والجوائز وشهادات التقدير والاعتراف من الجميع: فهو «فارس الخشبة»، الذي يعتبر «أول من أوصل المسرح المغربي إلى العالمية»، و«المبدع المتعدد»، الذي «استفاد منه أكثر من جيل»، و«عنوان مراحل بأكملها من حياة مسرح المغرب»، «يلخص وحده تاريخ المسرح المغربي»، والذي «كان هاجسه الكبير منح المسرح المغربي هويته وخصوصيته التراثية من دون الاستغناء عن روح العصر».
ولد الصديقي سنة 1937 بالصويرة. وفي سنة 1956 سيبدأ أولى أعماله المسرحية بباريس، خلال مرحلة التكوين، ليبدأ، بعد ذلك، مسار التمثيل بتكوين فرقة «المسرح العمالي» سنة 1957. بالدار البيضاء. وفي سنة 1960. بعد عودته الثانية من فرنسا، سيكون فرقة المسرح البلدي، ويشتغل، بعد ذلك، على اقتباس عدد من الروائع المسرحية العالمية، قبل أن يعين، في سنة 1965، مديرا للمسرح البلدي، ويقدم عددا من الإنتاجات المسرحية الخالدة. كما اشتغل في السينما، فأخرج فيلم «الزفت»،، مثل في فيلم «الرسالة» لمصطفى العقاد، إلى جانب عدد من أشهر الممثلين العرب.
ويحسب للصديقي، بحسب عدد من الشهادات والكتابات التي تناولت حياته ومكانته في المشهد الفني العربي، بشكل عام، وعلى صعيد الممارسة المسرحية، بشكل خاص، مبدعا ومؤطرا وصانعا لأسماء أكدت قيمتها وجدارتها الفنية، لاحقا، أنه واكب الحركة المسرحية بالمغرب، منذ انطلاقتها بعد الاستقلال، وعايشها، عن قرب، عبر كل تحولاتها، وساهم في التعريف بالمسرح المغربي؛ كما شكلت تجربته مدرسة تخرج منها الكثير من المسرحيين الذين أغنوا الساحة الفنية المغربية، كما أفرزت ظاهرة المجموعات الغنائية، خاصة مجموعة «ناس الغيوان» الأسطورية، التي ترعرع معظم أفرادها في حضن مسرح الطيب الصديقي، ومنه أخذوا فكرة استلهام التراث، ليس مسرحيًا، فقط، بل موسيقيًا وغنائيًا.
وكتبت الفنانة ووزيرة الثقافة السابقة، ثريا جبران، تحت عنوان «الصديقي قطعة من أحلامي الفنية الصغيرة والكبيرة»: «أشهد أنني مدينة للطيب الصديقي بأشياء كثيرة. أهمها أنه علمنا أن مغامرة المسرح ليست فقط أداء الأدوار على الخشبات، لكنها أيضا اكتشاف أسرار هذه الخشبات، والإحاطة بانشغالات إنتاج العروض والترويج لها، إضافة إلى الامتداد العربي الذي منحنا إياه من خلال مشاركاتنا معه في عدد من المهرجانات العربية والدولية. كما يعود إليه الفضل في اكتشاف أقصى المساحات الكامنة في. إنه لا يلقن الممثلين المعرفة النظرية والتقنية فقط، بل يزرع فيهم الثقة بأن مغامرة المسرح هي مغامرة الحياة».
وختمت جبران شهادتها، قائلة: «الصديقي حالم كبير. إنه يستقي من الحلم مشاريعه وأفكاره وطرائفه وأسفاره في الأدب والمعرفة. لأجل ذلك كله كان دائما قامة كبيرة في فضاء الإبداع المغربي والعربي. لا يهمه مراكمة المال والامتيازات، بقدر ما تهمه مراكمة الأفكار والتجارب. ولأجل ذلك كله سنظل محتفظين له بحق الريادة، وبأفضاله الكثيرة على المسرح والمسرحيين المغاربة والعرب. إن التتلمذ على يد الصديقي وسام رفيع. وإني أفخر أنني كنت أحد تلامذته. مَنْ مِنَ المسرحيين المغاربة ليس فيه الكثير من الطيب الصديقي؟».
وكتب الناقد الروائي والمسرحي حسن بحراوي، تحت عنوان «الرجل الذي جاب بالمسرح المغربي كل الآفاق الممكنة والمتوقعة»، أن كل الأقلام، الوطنية والعربية، تشهد على «علوّ كعب هذا الفنان المسرحي العريق وتشيد بالتجربة العريضة التي خاضها من أجل ترسيخ هوية مسرح عربي يبحث عن أصالته المفتقدة وربطه بتطورات المسرح العالمي»، مشيرا إلى أن الصديقي «فنان عاش طوال حياته معتكفا في محراب المسرح، ساهرا تحت شجرة الإبداع بانتظار الإلهام، واستحق بذلك أن يوصف بأنه فقيه المسرح المغربي بكل امتياز».
ورأى الباحث المسرحي حسن المنيعي، تحت عنوان «الطيب الكبير»، أنه «لا يمكن الحديث عن المسرح العربي الحديث، وعن إنجازاته وتراكماته الفنية، من دون أن نذكر الطيب الصديقي، لأنه يعد علامة بارزة في ذاكرة هذا المسرح وتاريخه»؛ مشددا على أن الصديقي «فنان مسرحي بالمعنى الحقيقي للكلمة، لا يقلد أو ينسخ ما هو سائد في الغرب، وإنما يمارس المسرح».
وكتب الفنان المسرحي عبد الحق الزروالي، تحت عنوان «رسالة امتنان لمبدع قد لا يجود بمثله الزمان»، مخاطبا الصديقي: «أحببنا المسرح من خلالك.. ارتوَيْنا من نبع إبداعك.. وكُلُنا خرجْنا من معطفك. عُذرًا سيد العارفين، ما كُل مبدع يرقى إلى مرتبة الأسطورة.. تخطيت اللمسة.. وضعتَ البصمة.. ونِلْتَ الحكمة».
هكذا، يرحل الصديقي، فيفقد المغرب الفني والثقافي صوتا قويا واسما متميزا ومكونا متفردا: الصديقي الذي عرف بقوة شخصيته، بقدر قوة إبداعاته، وبحسه الإنساني وتفانيه في العطاء، هو الذي قال ذات حوار: «يضحكني فنان واحد هو شارلي شابلن، ويبكيني مشهد مسنين وعجزة مغلوبين على أمرهم»، مشددا على أنه يرفض أن يكون أنانيًا، مستشهدا بما قام به في الميدان الفني وما قدمه من تضحيات لإرساء كثير من القواعد الفنية في المسرح، سواء على مستوى تجذير الممارسة أو تكوين الأجيال، والمشاركة بأعمال لنفسه وللآخرين.