من التاريخ : الثورة الصناعية الأولى والاقتصاد الدولي

جيمس وات
جيمس وات
TT

من التاريخ : الثورة الصناعية الأولى والاقتصاد الدولي

جيمس وات
جيمس وات

اطلعت منذ عدة أيام على مقال كلاوس شواب، مؤسس «المنتدى الاقتصادي الدولي»، حول ما سماه بـ«الثورة الصناعية الرابعة» التي يتأهب العالم اليوم لاستقبالها من خلال تطبيق نظريات تكنولوجيا «النانو» والتكنولوجيا الحيوية لعلم التحكم وغيرها من الاختراعات. وهي اختراعات بدأ العالم يستوعبها تدريجيًا بعد الثورة الصناعية الثالثة خلال النصف الثاني من القرن الماضي التي تمثلت فيما هو معروف بمعجزة «الثورة الرقمية».
وتقدير الكاتب أن «الثورة الرابعة» التي نحن على أعتابها ما كانت لتتحقق لولا الثورة الصناعية الأولى التي أدخلت الماء والبخار كعنصرين لـ«ميكنة» (أو «مكننة») الإنتاج. فنحن اليوم نعيش على القواعد التي وضعتها الثورة الصناعية الأولى في منتصف القرن الثامن عشر التي غيرت من شكل الحياة آنذاك، ووضعت اللبنة الأولى لتطوير حياتنا واقتصادياتنا على النحو الذي نعيشه اليوم.
لقد بدأت الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا في الحقبة السادسة من القرن الثامن عشر من خلال سلسلة من الاختراعات التي حوّلت مجرى وأنماط الإنتاج على مستوى القارة الأوروبية. إلا أن الأسباب الحقيقية وراء ذلك التطور ارتبطت بشكل وثيق بالثورة التجارية ونظام «الميركانتيلية» التي تابعناها على مدار الأسبوعين الماضيين، إذ دفعت زيادة وتيرة التجارة الدولية إلى السعي من أجل زيادة معدلات الإنتاج على مستوى الدول الأوروبية. وهو ما بات يحتاج إلى «ميكنة» النظم الصناعية، ولو بشكل بدائي، خاصة مع زيادة الطلب الدولي على المنتجات المصنعة، وذلك على ضوء وجود مستعمرات واسعة للغاية تبادلات تجارية كثيفة على المستوى الدولي. أما السبب الثاني فوقف وراءه ظهور الطبقة الرأسمالية التي ولّدتها الثورة التجارية التي كانت قادرة على الاستثمار في أعمال المخترعين والاستفادة منها رغبةً منها في إيجاد وسائل حديثة لزيادة الإنتاج وتطويره ومن ثم الربحية. ولقد كانت هذه الطبقة هي الوحيدة القادرة على تمويل مثل هذا التحرك. ومن ثم، لم يكن مستغربًا أن يرتبط كثرة من المُخترعين برجال أعمال عكفوا على تمويل أبحاثهم وتجاربهم للاستفادة منها على مستوى واسع. وكانت هنا بداية مفهوم «البحث والتطوير R&D» في غالبية الشركات الكبرى اليوم، فزواج رأسمال والفكر كان نسله الطبيعي الثورة الصناعية الأولى.
واقع الأمر أن الثورة الصناعية الأولى بدأت في بريطانيا دون غيرها من الدول الأوروبية الأخرى على الرغم من أنها لم تكن أكثر الدول تقدمًا مقارنة بدول أوروبية أخرى. عناصر ظهور هذه الثورة في بريطانيا توافرت لأسباب كثيرة، أبرزها: أن بريطانيا كانت أكثر الدول الأوروبية تطبيقًا للمفهوم البدائي للرأسمالية، فهي المستفيد الأول من الثورة التجارية في القرنين السادس والسابع عشر، واستطاعت أن تنظم اقتصادياتها على النحو المطلوب وهو ما سمح بعنصرين أساسيين: الأول، التراكم الرأسمالي المطلوب في أيدي طبقة جديدة بازغة. والثاني، التنظيم الجيد للدولة في هذا المجال. وبالتالي، الكل استفاد من الثورة التجارية من الدولة إلى المزارع البسيط، فضلاً عن وجود نظام بنكي وشركات مساهمة كبيرة متطورة، وكان دور الدولة يتمثل بضمان حرية المنافسة والاستقرار والانخفاض النسبي للفساد الحكومي مقارنة بدول أخرى مثل إسبانيا وفرنسا. لكل هذه الأسباب مجتمعة كانت الساحة معدة تمامًا لانطلاقة الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا، التي تبعتها باقي القارة الأوروبية فيما بعد، ولكن ليس قبل أن تقطف بريطانيا ذاتها ثمار هذه الثورة العظيمة أكثر من أي دولة أخرى في أوروبا والعالم.
لقد أخذت الثورة الصناعية الكثير من الأشكال، ولكن أهم عناصرها على الإطلاق كان التوسع في عملية «الميكنة» ومن ثم التصنيع. لقد كانت البداية في مجال الغزل فبعد اختراع عجلة الغزل (النول) التي سمحت بغزل ما يقرب من ثمانية خيوط في وقت واحد وسمّي هذا الاختراع باسم «ماكينة جيني» نسبة إلى زوجة المخترع، بدأت عمليات تطويرها إلى أن طوّر آخرون ماكينات تسمح بغزل أربعمائة خيط في وقت واحد، وهو ما كان يُعد معجزة صناعية في ذلك الوقت، ثم جرى تطوير الماكينات لتدخل مجال النسيج.
بعدها، باشر المخترعون العمل على بناء الماكينات البخارية لأغراض صناعية، ولكن نظرًا لكبر حجم هذه الماكينات كان من المستحيل أن تستمر عملية التصنيع في الورش الصغيرة Workshops، وصار من المطلوب التوسع في المرافق. هذا ما دفع المستثمرين لشراء الأراضي وبناء المصانع لاستيعاب هذه الماكينات أو الآلات الضخمة الحديثة، ومع ذلك وضعت طبيعة الماكينات حدودًا على عملها نظرًا لحاجاتها الكبيرة للتبريد لدفع عملها. وهنا كان الدور الرائد للمخترع جيمس وات الذي ابتكر وسائل للتبريد تسمح لهذه الماكينات بالعمل لمدد طويلة للغاية من دون التوقف للتبريد، ويعد مثال هذا المخترع تجسيدًا لمفهوم تزاوج العلم ورأس المال، إذ أفلس هذا العبقري بينما كان يصنّع اختراعاته ما دفعه لعقد شراكة مع أحد الرأسماليين البريطانيين. ولقد موّل هذا الأخير الاختراعات حتى استطاعا معًا تسجيل براءة اختراع أول ماكينة تعمل بالبخار والتبريد أيضًا، واستفادا منها استفادة عظيمة وباعا ما يقرب من ثلاثمائة ماكينة. وتواكب مع ذلك التوسع الكبير في استغلال الفحم كأداة للطاقة بدلاً من الخشب. لم يتأخر الأمر كثيرًا لنقل فكرة ماكينة البخار إلى المجالات المختلفة، إذ سرعان ما صنعت أول سفينة تسير بالطاقة البخارية. ولكن الفضل فيها هذه المرة لم يكن للبريطانيين، بل جرى تطويرها في الولايات المتحدة بعد استقلالها عن بريطانيا، وبالفعل أجريت تجربة أول سفينة يحركها البخار (باخرة) في نهر البوتوماك الذي يمر في العاصمة الأميركية واشنطن وشهد الاحتفال الزعيم الأميركي جورج واشنطن بنفسه.
وتوالى تطوير السفن البخارية على مدار العقود التالية إلى أن أصبحت أداة تجارية في أيدي الدول الكبرى؛ غير أنه لا حدود لحركة التقدم، إذ سرعان ما انتقلت الثورة الصناعية على الفور إلى اختراعات موازية فطور البريطانيون نظام المحركات البخارية لتصنيع أول سيارة غير أنها لم تكن اقتصادية فطبق هذا المفهوم لاختراع وسيلة جديدة للنقل السريع فكان اختراع العربات الحديدية التي تقطرها قاطرة تمشي على قضيبين أي القطار. وبدأت بريطانيا تتوسع في ربط مدنها بهذه الوسيلة الجديدة والمتطورة والتي توفر الجهد والوقت معًا، وسرعان ما انتشر هذا الاختراع إلى باقي الدول الأوروبية.
من ناحية أخرى، اخترع العالم صامويل مورس وسيلة لاستخدام الطاقة الكهرومغناطيسية للتواصل التلغرافي فرُبطت المدن الكبيرة بخطوط تلغرافية استخدمت ما هو معروف بـ«رمز مورس»
Morse Code عبر استخدام النقطة والشرطة للتواصل. ولقد وُضع أول خط بحري عبر المحيط الأطلسي بين الولايات المتحدة وبريطانيا في عام 1866. كذلك انتشرت الاختراعات في مجال الزراعة ما أدى إلى «ميكنة» وسائل الحصاد والتصنيع الزراعي بالإضافة إلى اختراع أسمدة كيميائية وعضوية جديدة ساهمت بشكل كبير للغاية في تطوير الأنظمة الزراعية وزيادة إنتاجها.
وبصفة عامة، وضعت الثورة الصناعية الأولى العالم على أعتاب انطلاقة حديثة غير محدودة للتطوير، وكانت انعكاساتها على النظام الاقتصادي الدولي هائلة غيّرت بشكل جذري طريقة الحياة، إذ أدت إلى «ميكنة» الزراعة والصناعة، ولو بشكل بدائي، إلى رفع الإنتاجية. كما أنها أدخلت مفهوم استخدام الطاقة في الحياة فطوّرت نظم الإنتاج ووضعت أساسيات نظام المصانع بدلاً من الورش الصغيرة. وأدت بشكل مباشر لسرعة التواصل والمواصلات سواء الداخلية أو الخارجية، ولئن اعتقد البعض أن هذا كان نهاية المطاف فحقيقة الأمر أنه كان مجرد بداية المطاف للثورات الثلاث التي أشار إليها كلاوس شواب في مقاله المشار إليه، فأصبح العالم يتأهب حقًا لاستيعاب الثورة الصناعية الثانية كما سنرى.



الفرص والتحديات وتوقّعات المستقبل من منظورَي الرياض وبكين

نيوم... مدينة المستقبل (الشرق الأوسط)
نيوم... مدينة المستقبل (الشرق الأوسط)
TT

الفرص والتحديات وتوقّعات المستقبل من منظورَي الرياض وبكين

نيوم... مدينة المستقبل (الشرق الأوسط)
نيوم... مدينة المستقبل (الشرق الأوسط)

تُعَدُّ الشراكة بين السعودية والصين فرصة كبيرة لتعزيز التعاون في مجالات حيوية عدة. إذ يوفر التعاون في الطاقة النظيفة والابتكار التكنولوجي فرصاً لدعم أهداف السعودية في تحقيق «رؤية 2030» وزيادة استخدام الطاقة المستدامة، كما أن الاستثمار في مشاريع كبرى مثل «نيوم» يفتح آفاقاً واسعة للتنمية المستدامة ويعزز من النمو المشترك.

في مجالات التكنولوجيا والابتكار، يعزّز التعاون في قطاعي الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية من قدرة السعودية على تحقيق أهدافها التكنولوجية، ويقوّي الروابط الاقتصادية بين البلدين، ومن جهة أخرى، يعزز التبادل الثقافي والتعليم من العلاقات الإنسانية ويزيد من التعاون بين الشعبين.

مع هذا، تواجه الشراكة تحدياتٍ قد تؤثر على العلاقات الثنائية، وتشمل هذه التحديات التوترات الجيوسياسية الدولية التي تتطلب مزيداً من الحكمة والروية من أجل درء تعارض المصالح، والتقلبات الاقتصادية العالمية التي قد تؤثر على حجم التبادل التجاري والاستثمارات. ولا شك أن الاختلافات الثقافية والسياسية تستوجب تعزيز الحوار والتفاهم، كما يتطلب تحقيق التنمية المستدامة التنسيق بين المشاريع المشتركة وضمان توافقها مع معايير البيئة.

مستقبلاً، يتوقع أن يزداد التعاون في الطاقة النظيفة - وتقف مشاريع مثل «نيوم» حافزاً كبيراً لتعزيز الاستثمارات الصينية في المملكة -، كذلك عبر تكثيف الفعاليات الثقافية والتبادلات التعليمية، يؤمل تمتين الروابط بين الشعبين، ويمكن أن يشمل التعاون المستقبلي المجالات الأمنية مثل مكافحة الإرهاب والأمن السيبراني لتعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي. وحقاً، من شأن دعم السعودية مبادرة «الحزام والطريق»، الإسهام في تعزيز البنية التحتية والنقل بين الصين والشرق الأوسط، مع الأخذ في الحسبان تكيّف الشراكة مع التحديات الاقتصادية والجيوسياسية العالمية باعتماد استراتيجيات مرنة.

إن العلاقات السعودية الصينية اليوم نموذج للشراكة الاستراتيجية المتكاملة التي تستند إلى المصالح المشتركة والرؤية المستقبلية، ومع مواصلة تطوير هذه الشراكة يتوقع أن تشهد العلاقات بين البلدين مزيداً من النمو في مختلف المجالات؛ ما يخدم مكانتيهما على الساحة الدولية. وأخيراً، إن الشراكة بين السعودية والصين لا تقتصر على تعزيز العلاقات الثنائية فحسب، بل تمتد لتسهم في استقرار الاقتصاد العالمي وتنميته بشكل عام. إذ تجسّد هذه الشراكة نموذجاً ناجحاً للتعاون الدولي القائم على تحقيق مصالح مشتركة؛ مما يساهم في تعزيز السلم والاستقرار العالميين. وهنا تبرز خصوصاً الرؤية الاستراتيجية عند البلدين والتزامهما بالابتكار والتعاون ليفتحا أبواباً جديدة للتنمية والتفاهم والتعاون بين مختلف الشعوب والثقافات.