من التاريخ : الثورة الصناعية الأولى والاقتصاد الدولي

جيمس وات
جيمس وات
TT

من التاريخ : الثورة الصناعية الأولى والاقتصاد الدولي

جيمس وات
جيمس وات

اطلعت منذ عدة أيام على مقال كلاوس شواب، مؤسس «المنتدى الاقتصادي الدولي»، حول ما سماه بـ«الثورة الصناعية الرابعة» التي يتأهب العالم اليوم لاستقبالها من خلال تطبيق نظريات تكنولوجيا «النانو» والتكنولوجيا الحيوية لعلم التحكم وغيرها من الاختراعات. وهي اختراعات بدأ العالم يستوعبها تدريجيًا بعد الثورة الصناعية الثالثة خلال النصف الثاني من القرن الماضي التي تمثلت فيما هو معروف بمعجزة «الثورة الرقمية».
وتقدير الكاتب أن «الثورة الرابعة» التي نحن على أعتابها ما كانت لتتحقق لولا الثورة الصناعية الأولى التي أدخلت الماء والبخار كعنصرين لـ«ميكنة» (أو «مكننة») الإنتاج. فنحن اليوم نعيش على القواعد التي وضعتها الثورة الصناعية الأولى في منتصف القرن الثامن عشر التي غيرت من شكل الحياة آنذاك، ووضعت اللبنة الأولى لتطوير حياتنا واقتصادياتنا على النحو الذي نعيشه اليوم.
لقد بدأت الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا في الحقبة السادسة من القرن الثامن عشر من خلال سلسلة من الاختراعات التي حوّلت مجرى وأنماط الإنتاج على مستوى القارة الأوروبية. إلا أن الأسباب الحقيقية وراء ذلك التطور ارتبطت بشكل وثيق بالثورة التجارية ونظام «الميركانتيلية» التي تابعناها على مدار الأسبوعين الماضيين، إذ دفعت زيادة وتيرة التجارة الدولية إلى السعي من أجل زيادة معدلات الإنتاج على مستوى الدول الأوروبية. وهو ما بات يحتاج إلى «ميكنة» النظم الصناعية، ولو بشكل بدائي، خاصة مع زيادة الطلب الدولي على المنتجات المصنعة، وذلك على ضوء وجود مستعمرات واسعة للغاية تبادلات تجارية كثيفة على المستوى الدولي. أما السبب الثاني فوقف وراءه ظهور الطبقة الرأسمالية التي ولّدتها الثورة التجارية التي كانت قادرة على الاستثمار في أعمال المخترعين والاستفادة منها رغبةً منها في إيجاد وسائل حديثة لزيادة الإنتاج وتطويره ومن ثم الربحية. ولقد كانت هذه الطبقة هي الوحيدة القادرة على تمويل مثل هذا التحرك. ومن ثم، لم يكن مستغربًا أن يرتبط كثرة من المُخترعين برجال أعمال عكفوا على تمويل أبحاثهم وتجاربهم للاستفادة منها على مستوى واسع. وكانت هنا بداية مفهوم «البحث والتطوير R&D» في غالبية الشركات الكبرى اليوم، فزواج رأسمال والفكر كان نسله الطبيعي الثورة الصناعية الأولى.
واقع الأمر أن الثورة الصناعية الأولى بدأت في بريطانيا دون غيرها من الدول الأوروبية الأخرى على الرغم من أنها لم تكن أكثر الدول تقدمًا مقارنة بدول أوروبية أخرى. عناصر ظهور هذه الثورة في بريطانيا توافرت لأسباب كثيرة، أبرزها: أن بريطانيا كانت أكثر الدول الأوروبية تطبيقًا للمفهوم البدائي للرأسمالية، فهي المستفيد الأول من الثورة التجارية في القرنين السادس والسابع عشر، واستطاعت أن تنظم اقتصادياتها على النحو المطلوب وهو ما سمح بعنصرين أساسيين: الأول، التراكم الرأسمالي المطلوب في أيدي طبقة جديدة بازغة. والثاني، التنظيم الجيد للدولة في هذا المجال. وبالتالي، الكل استفاد من الثورة التجارية من الدولة إلى المزارع البسيط، فضلاً عن وجود نظام بنكي وشركات مساهمة كبيرة متطورة، وكان دور الدولة يتمثل بضمان حرية المنافسة والاستقرار والانخفاض النسبي للفساد الحكومي مقارنة بدول أخرى مثل إسبانيا وفرنسا. لكل هذه الأسباب مجتمعة كانت الساحة معدة تمامًا لانطلاقة الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا، التي تبعتها باقي القارة الأوروبية فيما بعد، ولكن ليس قبل أن تقطف بريطانيا ذاتها ثمار هذه الثورة العظيمة أكثر من أي دولة أخرى في أوروبا والعالم.
لقد أخذت الثورة الصناعية الكثير من الأشكال، ولكن أهم عناصرها على الإطلاق كان التوسع في عملية «الميكنة» ومن ثم التصنيع. لقد كانت البداية في مجال الغزل فبعد اختراع عجلة الغزل (النول) التي سمحت بغزل ما يقرب من ثمانية خيوط في وقت واحد وسمّي هذا الاختراع باسم «ماكينة جيني» نسبة إلى زوجة المخترع، بدأت عمليات تطويرها إلى أن طوّر آخرون ماكينات تسمح بغزل أربعمائة خيط في وقت واحد، وهو ما كان يُعد معجزة صناعية في ذلك الوقت، ثم جرى تطوير الماكينات لتدخل مجال النسيج.
بعدها، باشر المخترعون العمل على بناء الماكينات البخارية لأغراض صناعية، ولكن نظرًا لكبر حجم هذه الماكينات كان من المستحيل أن تستمر عملية التصنيع في الورش الصغيرة Workshops، وصار من المطلوب التوسع في المرافق. هذا ما دفع المستثمرين لشراء الأراضي وبناء المصانع لاستيعاب هذه الماكينات أو الآلات الضخمة الحديثة، ومع ذلك وضعت طبيعة الماكينات حدودًا على عملها نظرًا لحاجاتها الكبيرة للتبريد لدفع عملها. وهنا كان الدور الرائد للمخترع جيمس وات الذي ابتكر وسائل للتبريد تسمح لهذه الماكينات بالعمل لمدد طويلة للغاية من دون التوقف للتبريد، ويعد مثال هذا المخترع تجسيدًا لمفهوم تزاوج العلم ورأس المال، إذ أفلس هذا العبقري بينما كان يصنّع اختراعاته ما دفعه لعقد شراكة مع أحد الرأسماليين البريطانيين. ولقد موّل هذا الأخير الاختراعات حتى استطاعا معًا تسجيل براءة اختراع أول ماكينة تعمل بالبخار والتبريد أيضًا، واستفادا منها استفادة عظيمة وباعا ما يقرب من ثلاثمائة ماكينة. وتواكب مع ذلك التوسع الكبير في استغلال الفحم كأداة للطاقة بدلاً من الخشب. لم يتأخر الأمر كثيرًا لنقل فكرة ماكينة البخار إلى المجالات المختلفة، إذ سرعان ما صنعت أول سفينة تسير بالطاقة البخارية. ولكن الفضل فيها هذه المرة لم يكن للبريطانيين، بل جرى تطويرها في الولايات المتحدة بعد استقلالها عن بريطانيا، وبالفعل أجريت تجربة أول سفينة يحركها البخار (باخرة) في نهر البوتوماك الذي يمر في العاصمة الأميركية واشنطن وشهد الاحتفال الزعيم الأميركي جورج واشنطن بنفسه.
وتوالى تطوير السفن البخارية على مدار العقود التالية إلى أن أصبحت أداة تجارية في أيدي الدول الكبرى؛ غير أنه لا حدود لحركة التقدم، إذ سرعان ما انتقلت الثورة الصناعية على الفور إلى اختراعات موازية فطور البريطانيون نظام المحركات البخارية لتصنيع أول سيارة غير أنها لم تكن اقتصادية فطبق هذا المفهوم لاختراع وسيلة جديدة للنقل السريع فكان اختراع العربات الحديدية التي تقطرها قاطرة تمشي على قضيبين أي القطار. وبدأت بريطانيا تتوسع في ربط مدنها بهذه الوسيلة الجديدة والمتطورة والتي توفر الجهد والوقت معًا، وسرعان ما انتشر هذا الاختراع إلى باقي الدول الأوروبية.
من ناحية أخرى، اخترع العالم صامويل مورس وسيلة لاستخدام الطاقة الكهرومغناطيسية للتواصل التلغرافي فرُبطت المدن الكبيرة بخطوط تلغرافية استخدمت ما هو معروف بـ«رمز مورس»
Morse Code عبر استخدام النقطة والشرطة للتواصل. ولقد وُضع أول خط بحري عبر المحيط الأطلسي بين الولايات المتحدة وبريطانيا في عام 1866. كذلك انتشرت الاختراعات في مجال الزراعة ما أدى إلى «ميكنة» وسائل الحصاد والتصنيع الزراعي بالإضافة إلى اختراع أسمدة كيميائية وعضوية جديدة ساهمت بشكل كبير للغاية في تطوير الأنظمة الزراعية وزيادة إنتاجها.
وبصفة عامة، وضعت الثورة الصناعية الأولى العالم على أعتاب انطلاقة حديثة غير محدودة للتطوير، وكانت انعكاساتها على النظام الاقتصادي الدولي هائلة غيّرت بشكل جذري طريقة الحياة، إذ أدت إلى «ميكنة» الزراعة والصناعة، ولو بشكل بدائي، إلى رفع الإنتاجية. كما أنها أدخلت مفهوم استخدام الطاقة في الحياة فطوّرت نظم الإنتاج ووضعت أساسيات نظام المصانع بدلاً من الورش الصغيرة. وأدت بشكل مباشر لسرعة التواصل والمواصلات سواء الداخلية أو الخارجية، ولئن اعتقد البعض أن هذا كان نهاية المطاف فحقيقة الأمر أنه كان مجرد بداية المطاف للثورات الثلاث التي أشار إليها كلاوس شواب في مقاله المشار إليه، فأصبح العالم يتأهب حقًا لاستيعاب الثورة الصناعية الثانية كما سنرى.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.