هناك وجهتا نظر في الحملة المكارثية التي انطلقت في الأربعينات واستمرت لمعظم سنوات العقد التالي. الأولى تقول إن الولايات المتحدة كانت تدافع عن نفسها بالفعل حيال ارتفاع عدد المنضمين إلى الحزب الشيوعي الأميركي لنحو 75 ألف عضو وسيطرة اليسار على نقابات واتحادات العمّال في الولايات المتحدة، كما انتشاره في الأوساط الثقافية والفنية (المسرحية في نيويورك والسينمائية في هوليوود) ما شكّل خطرًا على النظام الأميركي نفسه.
الثانية تقول إن الخوف لم يكن مبررًا والمواجهة لم تكن ضد الشيوعيين فقط، بل ضد المثقفين عمومًا والليبراليين واليساريين على نحو شامل. بعض أصحاب هذا الرأي يضم اليهود كهدف آخر للمكارثية، لكن الحقيقة هي أن اليهود كانوا أصحاب استوديوهات وشركات كبرى وقفوا من الحملة موقفًا مؤيدًا لها، خصوصًا عندما بدأت المحاكمات الفعلية مع العلم أن الكثير من السينمائيين الذين تمت محاكمتهم كانوا من اليهود أيضًا. وجهة النظر هذه تؤكد أن الطريقة التي أقدم فيها السيناتور جوزف مكارثي والمحققون التابعون لـ«لجنة التحقيق الحكومية للنشاطات غير الأميركية» خرجوا عن الدستور الذي يضمن حرّية المعتقد.
شخصيات متعددة
فيلم ترشيحات الأوسكار الحالية «ترامبو» لجاي روتش، المخرج الذي عادة ما يقدم على تحقيق أفلام كوميدية سريعة، ليس الأول بين الأفلام الأميركية التي تعرّضت لهذا الموضوع الشاسع والذي يحتمل، ربما بطريقة مساوية، وجهتي النظر. بل إن «ترامبو» - الفيلم ليس الأول الذي دار حول شخصية كاتب السيناريو دالتون ترامبو (1905 - 1976). قبل هذا الفيلم بثمانية أعوام قام ابنه كريستوفر بكتابة سيناريو لفيلم وثائقي حول والده (سمّاه «ترامبو») أخرجه بيتر أسكين وقام بقراءة مقتطفات منه كل من دونالد سذرلاند ويليام نيسون وبول جياماتي ومايكل دوغلاس (شوهد في مهرجان تورونتو سنة 2007). حتى في ذروة الأزمة تم صنع فيلم حولها حمل اسم «ذا هوليوود تن»، حول السينمائيين العشرة الذين تم سجنهم بقرار حكومي تبعًا لمعارضتهم التحقيقات التي أجريت معهم. أخرج الفيلم جون بيري، وكان سينمائيًا شابًا وطموحًا (وربما معارضًا) وهو جمع مواقف السينمائيين العشرة المحكوم عليهم (من بينهم ترامبو وجون هوارد لوسون وألبرت مولتز ولستر كول وهربرت ج. بايبرمان) وخطبهم خلال التحقيق وجعلها مادة فيلمه ليفاجأ بصدور قرار بالتحقيق معه ما دفعه لحزم حقائبه واللجوء إلى فرنسا.
لم يكن وحيدًا في طلب اللجوء، إذ تسلل المخرج جول داسين إلى فرنسا ثم اليونان، وجوزف لوزاي إلى بريطانيا وحط تشارلي شابلن في سويسرا.
ما لا يذكره الفيلم، نظرًا لأنه كان سيأخذ وقتا طويلاً، هو أن ترامبو، بعد خروجه من سجن دام عشرة أشهر بتهمة «ازدراء المحكمة»، وبعد أن أخذ يقبل على مزاولة مهنته ككاتب سيناريو بأسماء مستعارة، لجأ إلى المكسيك لسنوات قليلة بعيدًا عن الأعين.
من التغييرات الأخرى التي كان لا بد من إجرائها هو خلق شخصية خيالية باسم أرلين هيرد (قام به لويس س. ك) الذي نراه في الفيلم أكثر إمعانًا من ترامبو (كما أداه برايان كرانستون) في مسألة الدفاع عن حقه كأميركي اعتناق المبدأ الذي يريد، وبل أيضًا معارضًا لما رآه تهاون ترامبو في مسألة العمل تحت جناح وتبعًا لمبادئه الشيوعية. شخصية أرلين كانت، في الواقع، حصيلة خمس شخصيات حقيقية ارتأى كاتب السيناريو، جون مكنمارا عن صواب، جمعها في جسد رجل واحد تجنّبًا لكثرة الشخصيات.
أما باقي الشخصيات، ومنها أفراد عائلة ترامبو، وفي مقدّمتها زوجته كليو (الموهوبة دوما دايان لين) كما المنتج فرانك كينغ (قام به جون غودمان) فهي حقيقية. طبعًا هناك زركشة في المواقف كالمشهد الذي يهاجم فيه المنتج فرانك أحد رؤساء الاستوديوهات مهددًا إياه عندما طلب منه ذاك التوقف عن التعامل مع ترامبو حتى باسم مستعار.
معسكرات متوالية
الأفلام التي تناولت تلك الحقبة متعددة.
أساسًا هناك تاريخ طويل من الإنتاجات صاحبت عاصمة السينما هوليوود معبّرة عن علاقة معقدة وأحيانًا ملتوية بينها وبين واشنطن.
قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، وإلى حين قررت الولايات المتحدة دخولها لجانب الاتحاد السوفياتي وبريطانيا، كانت هناك أفلام تخفي امتعاض هوليوود من النازية وذلك حتى لا تخسر السوق الألمانية. كان لألمانيا، كما ورد في بضعة كتب في هذا المجال، مكتب في هوليوود مهمته مراقبة أي مشروع يتعرّض لألمانيا. عندما دخلت أميركا الحرب وتم إقفال المكتب تحوّل الموقف إلى الهجوم على النازية والنازيين وتم تقديم الألمان في أميركا على أساس متعاونين وفريق خامس يعمل ضد المصالح الأميركية.
في الوقت ذاته خرجت بعض الأفلام التي تعتبر النظام الشيوعي صديقًا من خلال شخصياتها وأحداثها مثل «خاطئون في الفردوس»، 1938، و«الآنسة V من موسكو»، 1942، و«الرفيق الرقيق»، 1943. لكن الأمر توقف تمامًا بعد أن وضعت الحرب أوزارها وحال وجدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي نفسيهما على نقيض آيديولوجي كامل.
وإذ حطت الحملة المكارثية بكل ثقلها، خرجت الكثير من الأفلام المناوئة للشيوعية، وكثير منها في أزياء الخيال العلمي حيث الغزاة يريدون تقويض دعائم النظام والإنسان ومبادئه وحريته ويرمزون إلى خطر أحمر قادم عبر الأثير أو سيحط من كوكب قريب طمعًا في تطويع المجتمعات الحرّة وتقويضها. لكن كانت هناك أفلام معارضة للحملة من عام 1950 إلى عام 1960 من بينها «فيفا زاباتا» (1951) و«ظهيرة موقدة» (1952) و«ملك في نيويورك» (1957) التي وإن لم تتعاطى مباشرة مع المكارثية إلا أنها قاومت الصورة التقليدية لليمين الأميركي بوضوح. تلك التي عارضت المكارثية مباشرة كان عليها الانتظار لما بعد مرور السحابة الداكنة. وودي ألن قاد «الواجهة» سنة 1976 (أخرجه المتعاطف مارتن رِت) والمخرج إروين وينكلر حقق «مدان بالشبهة» سنة 1991 (فيلم حذر خفيف الوقع) و«تصبحون على خير وحظ سعيد» الذي أخرجه جورج كلوني سنة 2005 وانتقد فيه المكارثية وجهًا لوجه. حتى كلينت إيستوود (المعروف بانتمائه إلى اليمين) سخر من شخصية أحد أقطاب الفترة اليمينيين وهو إدغار ج. هوفر (رئيس الإف بي آي لعقود) في «ج. إدغار» (2011).