الإرهاب وطبيعة الدولة والمجتمع في الساحل وغرب أفريقيا

قراءة في العوامل المحلية والإقليمية والدولية

واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)
واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

الإرهاب وطبيعة الدولة والمجتمع في الساحل وغرب أفريقيا

واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)
واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)

أعادت الأحداث الإرهابية الأخيرة دول غرب أفريقيا لواجهة الأحداث الدولية باعتبارها منطقة جيوستراتيجية، تسعى المنظمات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة لبناء نفوذها بها. ويظهر أن هذه الحركات استطاعت ترجمة استراتيجيتها الجديدة بتجاوزها النوعي للطريقة التقليدية التي تتبعها الحركات الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا. وتعد العملية الأخيرة التي تمت يوم الأحد 17 يناير (كانون الثاني) 2016 على مطعم «كابتشينو» وفندق «سبلنديد» في مدينة واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، مؤشرا واضحا على مسار تطور الفعل الإرهابي من حيث اختيار الهدف وطريقة التنفيذ، ومن حيث ضحاياه. إذ أسفرت العملية عن قتل 29 شخصا وجرح 30 آخرين، لتشكل استمرارا طبيعيا للاعتداء الذي عرفه فندق «راديسون بلو» في باماكو عاصمة مالي، وأدى إلى سقوط 20 قتيلا بينهم 14 أجنبيا في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. كما يأتي هذا مع توالي عمليات الخطف التي تبناها تنظيم «المرابطين»، لكل من المواطن الروماني في منطقة تامباو يشمال بوركينا فاسو، والراهبة السويسرية يوم 8 يناير 2016.
وفي ظل ما يعيشه غرب أفريقيا والساحل، يمكن القول مع العديد من الخبراء والمتخصصين في علم دراسة المناطق والإرهاب، إن أسباب هذا التطور فيها ما هو موضوعي مرتبط بالبنية المجتمعية وطبيعة الدولة في الساحل وغرب أفريقيا؛ وما هو دولي عولمي يرتبط بالصراعات الدولية ذات الطبيعة الجيوستراتيجية.
تعيش دول غرب أفريقيا والساحل في ظل أنظمة سياسية هشة غير قادرة على تحقيق الوحدة الوطنية؛ وهو ما يسهل ظهور النزاعات الإثنية والحركات الانفصالية المسلحة ذات الطبيعة الهوياتية المدافعة عن اللغة والديانة الخاصة، مما يدخل البلدان في صراعات دينية - إثنية تتداخل مع الأجندات الخارجية للدول الكبرى.
ولقد ساعدت مجموعة من العوامل منذ تسعينات القرن العشرين في إحداث بعض التغيير على طبيعة التديّن الصوفي الطرقي - القادري، أو التيجاني المرتبط بالتصوف المغربي والموريتاني، وأخذت الاتجاهات المحافظة المتشدّدة تتوسع بشكل مثير للاهتمام. وانتقل الأمر في بداية الألفية الثالثة لوضع درامي بظهور الحركات الإرهابية المرتبطة بالتنظيمات الجزائرية والصومالية والنيجيرية.
وعلى الرغم من هذا التحول، فإن المسار العام للتديّن ما زال يكرس «الإسلام الشعبي الصوفي» في النيجر، حيث يمثل السكان المسلمون 60 في المائة ويلتزمون بالمذهب السنّي المالكي. والشيء نفسه ينسحب على بوركينا فاسو، حيث المسلمون مالكيو المذهب متصوّفون بطبيعتهم؛ حيث يلعب نظام «المشيخة» هناك دورا بارزا في النسق الاجتماعي المتكوّن من شعب (قبيلة) الموسي، وهو الأغلبية المسلمة، بالإضافة إلى الفولاني والماندينغ، وكذلك من السينوفو. ثم إننا نجد أيضا حضورا للعرق العربي والأمازيغي ذي الأصول المغاربية، في خريطة بشرية يشكل فيها المسلمون نحو 75 في المائة من مجموع السكان. ويبدو أن الدولتين أعلاه لا تتشاركان في طبيعة التديّن وحسب، بل كذلك في طبيعة تحديات الأغلبية المسلمة، التي تعتبر «الفرنكفونية» وما تسميه بـ«النخب العلمانية» التابعة لفرنسا.. خصما لها.
ومن جهة أخرى، تعرف الأنظمة السياسية لهذه المنطقة الممتدة بين ليبيا وتشاد ومالي والنيجر وبوركينا فاسو انتشارا للفساد وغيابا للديمقراطية وضعفا شديدا للحكم المؤسساتي. فمعظم هذه الدول لا تملك سيطرة فعلية على حدودها الجغرافية، بل وعلى معظم ترابها الوطني، مما يجعل منها «سلطة على العاصمة ونواحيها» فقط. وهذا، في الوقت الذي تعاني مجتمعات الساحل وغرب أفريقيا ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة جدا، وهذا بدوره أنتج ظواهر جديدة ترتبط بالإرهاب والجريمة المنظمة.
لقد استطاعت الجماعات الإرهابية خلق تشابك معقّد مع منظمات الجريمة الدولية، خاصة تلك الناشطة في جرائم الاتجار بالبشر والمخدرات وتهريب السلاح. واستغلت تنظيمات، مثل تنظيم القاعدة وتنظيم «المرابطين»، هذه الوضعية لتقوية مواردها المالية، والتزود بالسلاح، وساعدها في ذلك ما خلقته من تحالفات مع بعض الشعوب (الإثنيات) والقبائل المنتشرة في المناطق الصحراوية مثل الطوارق في مالي، وتلك القريبة من البحر في الصومال، أو البحيرة الكبرى في تشاد.
وهكذا استطاع تنظيم القاعدة، وأيضا تنظيم «المرابطين» خلق استقلالية مالية، تمكنهما من التجنيد ودفع الرواتب، واستمالة شباب من قبائل مهمة جغرافيا وإثنيا. وتشير منظمة الأمم المتحدة في أحد تقاريرها لخطورة هذا الوضع، حيث سجل «مكتب الأمم المتحدة لشؤون المخدرات والجريمة» أن عمليات الجريمة المنظمة التي تقوم بها الجماعات الإرهابية تدر عليها نحو ثلاثة آلاف وأربعمائة مليون دولار في السنة. وتتوزع بين مداخيل تهريب السلع والمخدرات والأسلحة ومبالغ الفدية مقابل إطلاق سراح الرهائن.
وممّا يقوّي شوكة المنظمات الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا الانتشار المهول لظاهرة التسلح؛ حتى أصبح السلاح لا يعرف بدوره الحدود ولا يخضع لسيطرة الدولة الوطنية. فمنذ منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة انتشرت ظاهرة جديدة غذّت مطامح التوجّهات الإرهابية، وهي ما أطلق عليها «تجارة النمل» (The Ant trade)، التي يجري بموجبها شراء السلاح بصورة قانونية في دولة واحدة، ثم يعاد توزيعه بطريقة غير قانونية تعتمد التهريب في دول أخرى.
وتتشابك هذه الأنشطة الخطرة مع التجارة العالمية للمخدرات، التي تعتبر كل دول غرب أفريقيا والساحل مسرحا لها. فإذا كانت تجارة السلاح تأتي عبر البحر لتجعل من بنين وتوغو منطلقا لها، فإن نحو 14 في المائة من الكوكايين يصل إلى أوروبا عبر غرب أفريقيا. والغريب أن تجارة المخدرات لا تعبر الصحراء والبحر فقط، بل إن مطارات واغادوغو وباماكو والعاصمة النيجرية نيامي، بجانب الجزائر العاصمة، تعتبر نقاطا لهذا النشاط.
لقد استفادت تنظيمات إرهابية مثل «القاعدة» و«المرابطين» من الجريمة المنظمة وتجارة السلاح الدولي، وكذلك من انهيار النظام الإقليمي بسقوط معمر القدافي ومنظومته الأمنية والعسكرية في ليبيت، وكذلك تفكك السلطة في مالي. وأدى هذا الوضع الجديد إلى تقوية شبكة الجماعات الإرهابية على مستوى شمال أفريقيا، خاصة في تونس وليبيا، وأيضا في منطقة الساحل من مالي إلى النيجر. ثم ازداد الأمر تعقيدا بحصول الجماعات الإرهابية على صواريخ مضادة للدروع، ولطائرات الهليكوبتر التي استعملتها هذه التنظيمات في مالي وغيرها.
ومع التغيرات التي شهدتها المنطقة منذ 2011، أصبحت الصراعات الدولية على المنطقة أكثر حدة خاصة بين فرنسا والولاية المتحدة الأميركية والصين. ففي ظل هذا التنافس الجيوسياسي، رفضت دول الساحل وغرب أفريقيا استضافة القيادة العسكرية الخاصة بأفريقيا (Africom)، في الوقت الذي تبنّت فيه الولايات المتحدة برنامج «بان الساحل» الخاص بمحاربة الإرهاب في كل من النيجر وتشاد وموريتانيا ومالي. وتوسع هذا البرنامج عام 2005 ليشمل تونس والمغرب والجزائر وبوركينا فاسو والسنغال ونيجيريا، وخصصت له نحو 100 مليون دولار، وتقوده قوة عسكرية تسمى «إنديورينغ فريدوم» (Enduring Freedom)، وتعمل هذه الوحدات على التدخل السريع لمواجهة التنظيمات الإرهابية في كل الغرب الأفريقي والساحل.
وفي عام 2014 وضعت الإدارة الأميركية برنامجا لتدريب قوات أجنبية على مواجهة الإرهاب. وتضمنت قائمة الدول المشار إليها الصومال ومالي، وعزّزت الولايات المتحدة تعاونها الأمني والعسكري مع عدة دول في الساحل وغرب أفريقيا، لتشمل الكاميرون وأنغولا. كذلك أكدت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) يوم الأربعاء 2014/5/28 أن الجيش الأميركي أرسل سفينة الإنزال البرمائي «يو إس إس باتان» إلى السواحل الليبية، وعلى متنها ألف جندي من مشاة البحرية «المارينز» في إطار مكافحة الإرهاب.
وتأتي هذه الخطوة وغيرها في إطار تقوية الدفاع عن المصالح الأميركية، وتعزيز الوجود العسكري في كل من القاعدة العسكرية في إثيوبيا وبوركينا فاسو، ودعم القوات الخاصة في الكونغو وتشاد وجيبوتي وتعدادها نحو 4 آلاف جندي وطائرات من دون طيار.
وبعد التطورات الأخيرة، في كل من بوركينا فاسو ومالي وليبيا، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما يوم الخميس الماضي أن بلاده مستعدة لملاحقة تنظيم داعش أينما وجد بما في ذلك فوق الأراضي الليبية. وهذا التطور يأتي لمواجهة التوسع الجديد لـ«داعش» في كل من ليبيا وتونس. وقال البيت الأبيض في ختام اجتماع عقده مجلس الأمن القومي برئاسة أوباما خصص لبحث الوضع في ليبيا، إن «الرئيس شدد على أن الولايات المتحدة ستواصل مهاجمة تنظيم داعش الإرهابي في أي بلد وجد به»، وأن «الرئيس طلب من فريقه للأمن القومي مواصلة جهوده الرامية لتعزيز الحكم الرشيد في ليبيا ودعم جهود مكافحة الإرهاب في ليبيا وفي الدول الأخرى حيث يسعى تنظيم داعش إلى تثبيت وجوده».
أما فرنسا فهي البلد الأوروبي الأكثر تأثرا بالخارطة الجديدة للإرهاب في الساحل وغرب أفريقيا. ولقد جسدت العمليات الأخيرة في عاصمتها باريس هذه الحقيقة التي أدركتها فرنسا منذ سنوات. وفي إطار صراعها مع الإرهاب بدول غرب وساحل أفريقيا، أعادت باريس في يناير 2014 نشر نحو ثلاثة آلاف من قواتها في منطقة الساحل الأفريقي تحت ذريعة محاربة الإرهاب، كما تستغل قاعدتها العسكرية «غير المعلنة» في تشاد كمنطلق لطائراتها وقواتها الجوية؛ بينما تتمركز أكبر قوة برية لها في بوركينا فاسو، وتخصّص قاعدتها العسكرية بساحل العاج للإمدادات والتموين الأساسية.
وللعلم، تلعب القوات الفرنسية المتمركزة في مالي منذ تدخلها يوم 11 يناير 2013 في هذا البلد تحت اسم «عملية سيرفال» (القط البري) التي عوّضت أفريقيا في يوليو (تموز) 2014 بعملية «برخان»، دورا كبيرا في مواجهة التنظيمات الإرهابية هناك. ولقد أعلنت القوات الفرنسية في مالي يوم 23 ديسمبر (كانون الأول) 2015 أنها قتلت 10 من «المرابطين» في منطقة مينكا بشمال شرقي مالي قرب الحدود مع النيجر.
بكلمة موجزة، يمكن القول إن الإرهاب أصبح أمرا واقعا في منطقة الساحل وغرب أفريقيا؛ وإن مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية الدولية تجعل منه تهديدا في طريقه للانتعاش وليس الانحصار.
ولا يخفى على راصدي الشأن الأفريقي ما يتسم به الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدول غرب أفريقيا من هشاشة، رغم غناها من حيث الثروات المعدنية والطاقية. ولقد باتت الجماعات الإرهابية تلعب على وتر مواجهة فرنسا التي تستنزف موارد المنطقة؛ ففرنسا، مثلا، منذ عام 1971 وهي تستحوذ على استخراج يورانيوم النيجر عبر شركة «أريفا» و«أريفا النيجر»، وتمد النيجر بذلك فرنسا بـ35 في المائة من احتياجاتها من الطاقة النووية، كما تسهم في 75 في المائة من الطاقة الكهربائية الفرنسية. وهذه الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة جعلت منها جزءا من الأمن القومي الفرنسي، كما جعلت منها منطقة الصراع بين الولايات المتحدة والصين وفرنسا، وهو صراع يخاض في إطار محاربة وتوظيف الإرهاب في تلك المنطقة.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.