الإرهاب وطبيعة الدولة والمجتمع في الساحل وغرب أفريقيا

قراءة في العوامل المحلية والإقليمية والدولية

واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)
واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

الإرهاب وطبيعة الدولة والمجتمع في الساحل وغرب أفريقيا

واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)
واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)

أعادت الأحداث الإرهابية الأخيرة دول غرب أفريقيا لواجهة الأحداث الدولية باعتبارها منطقة جيوستراتيجية، تسعى المنظمات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة لبناء نفوذها بها. ويظهر أن هذه الحركات استطاعت ترجمة استراتيجيتها الجديدة بتجاوزها النوعي للطريقة التقليدية التي تتبعها الحركات الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا. وتعد العملية الأخيرة التي تمت يوم الأحد 17 يناير (كانون الثاني) 2016 على مطعم «كابتشينو» وفندق «سبلنديد» في مدينة واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، مؤشرا واضحا على مسار تطور الفعل الإرهابي من حيث اختيار الهدف وطريقة التنفيذ، ومن حيث ضحاياه. إذ أسفرت العملية عن قتل 29 شخصا وجرح 30 آخرين، لتشكل استمرارا طبيعيا للاعتداء الذي عرفه فندق «راديسون بلو» في باماكو عاصمة مالي، وأدى إلى سقوط 20 قتيلا بينهم 14 أجنبيا في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. كما يأتي هذا مع توالي عمليات الخطف التي تبناها تنظيم «المرابطين»، لكل من المواطن الروماني في منطقة تامباو يشمال بوركينا فاسو، والراهبة السويسرية يوم 8 يناير 2016.
وفي ظل ما يعيشه غرب أفريقيا والساحل، يمكن القول مع العديد من الخبراء والمتخصصين في علم دراسة المناطق والإرهاب، إن أسباب هذا التطور فيها ما هو موضوعي مرتبط بالبنية المجتمعية وطبيعة الدولة في الساحل وغرب أفريقيا؛ وما هو دولي عولمي يرتبط بالصراعات الدولية ذات الطبيعة الجيوستراتيجية.
تعيش دول غرب أفريقيا والساحل في ظل أنظمة سياسية هشة غير قادرة على تحقيق الوحدة الوطنية؛ وهو ما يسهل ظهور النزاعات الإثنية والحركات الانفصالية المسلحة ذات الطبيعة الهوياتية المدافعة عن اللغة والديانة الخاصة، مما يدخل البلدان في صراعات دينية - إثنية تتداخل مع الأجندات الخارجية للدول الكبرى.
ولقد ساعدت مجموعة من العوامل منذ تسعينات القرن العشرين في إحداث بعض التغيير على طبيعة التديّن الصوفي الطرقي - القادري، أو التيجاني المرتبط بالتصوف المغربي والموريتاني، وأخذت الاتجاهات المحافظة المتشدّدة تتوسع بشكل مثير للاهتمام. وانتقل الأمر في بداية الألفية الثالثة لوضع درامي بظهور الحركات الإرهابية المرتبطة بالتنظيمات الجزائرية والصومالية والنيجيرية.
وعلى الرغم من هذا التحول، فإن المسار العام للتديّن ما زال يكرس «الإسلام الشعبي الصوفي» في النيجر، حيث يمثل السكان المسلمون 60 في المائة ويلتزمون بالمذهب السنّي المالكي. والشيء نفسه ينسحب على بوركينا فاسو، حيث المسلمون مالكيو المذهب متصوّفون بطبيعتهم؛ حيث يلعب نظام «المشيخة» هناك دورا بارزا في النسق الاجتماعي المتكوّن من شعب (قبيلة) الموسي، وهو الأغلبية المسلمة، بالإضافة إلى الفولاني والماندينغ، وكذلك من السينوفو. ثم إننا نجد أيضا حضورا للعرق العربي والأمازيغي ذي الأصول المغاربية، في خريطة بشرية يشكل فيها المسلمون نحو 75 في المائة من مجموع السكان. ويبدو أن الدولتين أعلاه لا تتشاركان في طبيعة التديّن وحسب، بل كذلك في طبيعة تحديات الأغلبية المسلمة، التي تعتبر «الفرنكفونية» وما تسميه بـ«النخب العلمانية» التابعة لفرنسا.. خصما لها.
ومن جهة أخرى، تعرف الأنظمة السياسية لهذه المنطقة الممتدة بين ليبيا وتشاد ومالي والنيجر وبوركينا فاسو انتشارا للفساد وغيابا للديمقراطية وضعفا شديدا للحكم المؤسساتي. فمعظم هذه الدول لا تملك سيطرة فعلية على حدودها الجغرافية، بل وعلى معظم ترابها الوطني، مما يجعل منها «سلطة على العاصمة ونواحيها» فقط. وهذا، في الوقت الذي تعاني مجتمعات الساحل وغرب أفريقيا ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة جدا، وهذا بدوره أنتج ظواهر جديدة ترتبط بالإرهاب والجريمة المنظمة.
لقد استطاعت الجماعات الإرهابية خلق تشابك معقّد مع منظمات الجريمة الدولية، خاصة تلك الناشطة في جرائم الاتجار بالبشر والمخدرات وتهريب السلاح. واستغلت تنظيمات، مثل تنظيم القاعدة وتنظيم «المرابطين»، هذه الوضعية لتقوية مواردها المالية، والتزود بالسلاح، وساعدها في ذلك ما خلقته من تحالفات مع بعض الشعوب (الإثنيات) والقبائل المنتشرة في المناطق الصحراوية مثل الطوارق في مالي، وتلك القريبة من البحر في الصومال، أو البحيرة الكبرى في تشاد.
وهكذا استطاع تنظيم القاعدة، وأيضا تنظيم «المرابطين» خلق استقلالية مالية، تمكنهما من التجنيد ودفع الرواتب، واستمالة شباب من قبائل مهمة جغرافيا وإثنيا. وتشير منظمة الأمم المتحدة في أحد تقاريرها لخطورة هذا الوضع، حيث سجل «مكتب الأمم المتحدة لشؤون المخدرات والجريمة» أن عمليات الجريمة المنظمة التي تقوم بها الجماعات الإرهابية تدر عليها نحو ثلاثة آلاف وأربعمائة مليون دولار في السنة. وتتوزع بين مداخيل تهريب السلع والمخدرات والأسلحة ومبالغ الفدية مقابل إطلاق سراح الرهائن.
وممّا يقوّي شوكة المنظمات الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا الانتشار المهول لظاهرة التسلح؛ حتى أصبح السلاح لا يعرف بدوره الحدود ولا يخضع لسيطرة الدولة الوطنية. فمنذ منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة انتشرت ظاهرة جديدة غذّت مطامح التوجّهات الإرهابية، وهي ما أطلق عليها «تجارة النمل» (The Ant trade)، التي يجري بموجبها شراء السلاح بصورة قانونية في دولة واحدة، ثم يعاد توزيعه بطريقة غير قانونية تعتمد التهريب في دول أخرى.
وتتشابك هذه الأنشطة الخطرة مع التجارة العالمية للمخدرات، التي تعتبر كل دول غرب أفريقيا والساحل مسرحا لها. فإذا كانت تجارة السلاح تأتي عبر البحر لتجعل من بنين وتوغو منطلقا لها، فإن نحو 14 في المائة من الكوكايين يصل إلى أوروبا عبر غرب أفريقيا. والغريب أن تجارة المخدرات لا تعبر الصحراء والبحر فقط، بل إن مطارات واغادوغو وباماكو والعاصمة النيجرية نيامي، بجانب الجزائر العاصمة، تعتبر نقاطا لهذا النشاط.
لقد استفادت تنظيمات إرهابية مثل «القاعدة» و«المرابطين» من الجريمة المنظمة وتجارة السلاح الدولي، وكذلك من انهيار النظام الإقليمي بسقوط معمر القدافي ومنظومته الأمنية والعسكرية في ليبيت، وكذلك تفكك السلطة في مالي. وأدى هذا الوضع الجديد إلى تقوية شبكة الجماعات الإرهابية على مستوى شمال أفريقيا، خاصة في تونس وليبيا، وأيضا في منطقة الساحل من مالي إلى النيجر. ثم ازداد الأمر تعقيدا بحصول الجماعات الإرهابية على صواريخ مضادة للدروع، ولطائرات الهليكوبتر التي استعملتها هذه التنظيمات في مالي وغيرها.
ومع التغيرات التي شهدتها المنطقة منذ 2011، أصبحت الصراعات الدولية على المنطقة أكثر حدة خاصة بين فرنسا والولاية المتحدة الأميركية والصين. ففي ظل هذا التنافس الجيوسياسي، رفضت دول الساحل وغرب أفريقيا استضافة القيادة العسكرية الخاصة بأفريقيا (Africom)، في الوقت الذي تبنّت فيه الولايات المتحدة برنامج «بان الساحل» الخاص بمحاربة الإرهاب في كل من النيجر وتشاد وموريتانيا ومالي. وتوسع هذا البرنامج عام 2005 ليشمل تونس والمغرب والجزائر وبوركينا فاسو والسنغال ونيجيريا، وخصصت له نحو 100 مليون دولار، وتقوده قوة عسكرية تسمى «إنديورينغ فريدوم» (Enduring Freedom)، وتعمل هذه الوحدات على التدخل السريع لمواجهة التنظيمات الإرهابية في كل الغرب الأفريقي والساحل.
وفي عام 2014 وضعت الإدارة الأميركية برنامجا لتدريب قوات أجنبية على مواجهة الإرهاب. وتضمنت قائمة الدول المشار إليها الصومال ومالي، وعزّزت الولايات المتحدة تعاونها الأمني والعسكري مع عدة دول في الساحل وغرب أفريقيا، لتشمل الكاميرون وأنغولا. كذلك أكدت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) يوم الأربعاء 2014/5/28 أن الجيش الأميركي أرسل سفينة الإنزال البرمائي «يو إس إس باتان» إلى السواحل الليبية، وعلى متنها ألف جندي من مشاة البحرية «المارينز» في إطار مكافحة الإرهاب.
وتأتي هذه الخطوة وغيرها في إطار تقوية الدفاع عن المصالح الأميركية، وتعزيز الوجود العسكري في كل من القاعدة العسكرية في إثيوبيا وبوركينا فاسو، ودعم القوات الخاصة في الكونغو وتشاد وجيبوتي وتعدادها نحو 4 آلاف جندي وطائرات من دون طيار.
وبعد التطورات الأخيرة، في كل من بوركينا فاسو ومالي وليبيا، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما يوم الخميس الماضي أن بلاده مستعدة لملاحقة تنظيم داعش أينما وجد بما في ذلك فوق الأراضي الليبية. وهذا التطور يأتي لمواجهة التوسع الجديد لـ«داعش» في كل من ليبيا وتونس. وقال البيت الأبيض في ختام اجتماع عقده مجلس الأمن القومي برئاسة أوباما خصص لبحث الوضع في ليبيا، إن «الرئيس شدد على أن الولايات المتحدة ستواصل مهاجمة تنظيم داعش الإرهابي في أي بلد وجد به»، وأن «الرئيس طلب من فريقه للأمن القومي مواصلة جهوده الرامية لتعزيز الحكم الرشيد في ليبيا ودعم جهود مكافحة الإرهاب في ليبيا وفي الدول الأخرى حيث يسعى تنظيم داعش إلى تثبيت وجوده».
أما فرنسا فهي البلد الأوروبي الأكثر تأثرا بالخارطة الجديدة للإرهاب في الساحل وغرب أفريقيا. ولقد جسدت العمليات الأخيرة في عاصمتها باريس هذه الحقيقة التي أدركتها فرنسا منذ سنوات. وفي إطار صراعها مع الإرهاب بدول غرب وساحل أفريقيا، أعادت باريس في يناير 2014 نشر نحو ثلاثة آلاف من قواتها في منطقة الساحل الأفريقي تحت ذريعة محاربة الإرهاب، كما تستغل قاعدتها العسكرية «غير المعلنة» في تشاد كمنطلق لطائراتها وقواتها الجوية؛ بينما تتمركز أكبر قوة برية لها في بوركينا فاسو، وتخصّص قاعدتها العسكرية بساحل العاج للإمدادات والتموين الأساسية.
وللعلم، تلعب القوات الفرنسية المتمركزة في مالي منذ تدخلها يوم 11 يناير 2013 في هذا البلد تحت اسم «عملية سيرفال» (القط البري) التي عوّضت أفريقيا في يوليو (تموز) 2014 بعملية «برخان»، دورا كبيرا في مواجهة التنظيمات الإرهابية هناك. ولقد أعلنت القوات الفرنسية في مالي يوم 23 ديسمبر (كانون الأول) 2015 أنها قتلت 10 من «المرابطين» في منطقة مينكا بشمال شرقي مالي قرب الحدود مع النيجر.
بكلمة موجزة، يمكن القول إن الإرهاب أصبح أمرا واقعا في منطقة الساحل وغرب أفريقيا؛ وإن مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية الدولية تجعل منه تهديدا في طريقه للانتعاش وليس الانحصار.
ولا يخفى على راصدي الشأن الأفريقي ما يتسم به الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدول غرب أفريقيا من هشاشة، رغم غناها من حيث الثروات المعدنية والطاقية. ولقد باتت الجماعات الإرهابية تلعب على وتر مواجهة فرنسا التي تستنزف موارد المنطقة؛ ففرنسا، مثلا، منذ عام 1971 وهي تستحوذ على استخراج يورانيوم النيجر عبر شركة «أريفا» و«أريفا النيجر»، وتمد النيجر بذلك فرنسا بـ35 في المائة من احتياجاتها من الطاقة النووية، كما تسهم في 75 في المائة من الطاقة الكهربائية الفرنسية. وهذه الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة جعلت منها جزءا من الأمن القومي الفرنسي، كما جعلت منها منطقة الصراع بين الولايات المتحدة والصين وفرنسا، وهو صراع يخاض في إطار محاربة وتوظيف الإرهاب في تلك المنطقة.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.