الإرهاب وطبيعة الدولة والمجتمع في الساحل وغرب أفريقيا

قراءة في العوامل المحلية والإقليمية والدولية

واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)
واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

الإرهاب وطبيعة الدولة والمجتمع في الساحل وغرب أفريقيا

واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)
واجهة الفندق الذي تعرض لهجوم من متطرفين ينتمون لـ{القاعدة} في عاصمة بوركينافاسو واغادوغو في الشهر الماضي (أ.ف.ب)

أعادت الأحداث الإرهابية الأخيرة دول غرب أفريقيا لواجهة الأحداث الدولية باعتبارها منطقة جيوستراتيجية، تسعى المنظمات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة لبناء نفوذها بها. ويظهر أن هذه الحركات استطاعت ترجمة استراتيجيتها الجديدة بتجاوزها النوعي للطريقة التقليدية التي تتبعها الحركات الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا. وتعد العملية الأخيرة التي تمت يوم الأحد 17 يناير (كانون الثاني) 2016 على مطعم «كابتشينو» وفندق «سبلنديد» في مدينة واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، مؤشرا واضحا على مسار تطور الفعل الإرهابي من حيث اختيار الهدف وطريقة التنفيذ، ومن حيث ضحاياه. إذ أسفرت العملية عن قتل 29 شخصا وجرح 30 آخرين، لتشكل استمرارا طبيعيا للاعتداء الذي عرفه فندق «راديسون بلو» في باماكو عاصمة مالي، وأدى إلى سقوط 20 قتيلا بينهم 14 أجنبيا في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. كما يأتي هذا مع توالي عمليات الخطف التي تبناها تنظيم «المرابطين»، لكل من المواطن الروماني في منطقة تامباو يشمال بوركينا فاسو، والراهبة السويسرية يوم 8 يناير 2016.
وفي ظل ما يعيشه غرب أفريقيا والساحل، يمكن القول مع العديد من الخبراء والمتخصصين في علم دراسة المناطق والإرهاب، إن أسباب هذا التطور فيها ما هو موضوعي مرتبط بالبنية المجتمعية وطبيعة الدولة في الساحل وغرب أفريقيا؛ وما هو دولي عولمي يرتبط بالصراعات الدولية ذات الطبيعة الجيوستراتيجية.
تعيش دول غرب أفريقيا والساحل في ظل أنظمة سياسية هشة غير قادرة على تحقيق الوحدة الوطنية؛ وهو ما يسهل ظهور النزاعات الإثنية والحركات الانفصالية المسلحة ذات الطبيعة الهوياتية المدافعة عن اللغة والديانة الخاصة، مما يدخل البلدان في صراعات دينية - إثنية تتداخل مع الأجندات الخارجية للدول الكبرى.
ولقد ساعدت مجموعة من العوامل منذ تسعينات القرن العشرين في إحداث بعض التغيير على طبيعة التديّن الصوفي الطرقي - القادري، أو التيجاني المرتبط بالتصوف المغربي والموريتاني، وأخذت الاتجاهات المحافظة المتشدّدة تتوسع بشكل مثير للاهتمام. وانتقل الأمر في بداية الألفية الثالثة لوضع درامي بظهور الحركات الإرهابية المرتبطة بالتنظيمات الجزائرية والصومالية والنيجيرية.
وعلى الرغم من هذا التحول، فإن المسار العام للتديّن ما زال يكرس «الإسلام الشعبي الصوفي» في النيجر، حيث يمثل السكان المسلمون 60 في المائة ويلتزمون بالمذهب السنّي المالكي. والشيء نفسه ينسحب على بوركينا فاسو، حيث المسلمون مالكيو المذهب متصوّفون بطبيعتهم؛ حيث يلعب نظام «المشيخة» هناك دورا بارزا في النسق الاجتماعي المتكوّن من شعب (قبيلة) الموسي، وهو الأغلبية المسلمة، بالإضافة إلى الفولاني والماندينغ، وكذلك من السينوفو. ثم إننا نجد أيضا حضورا للعرق العربي والأمازيغي ذي الأصول المغاربية، في خريطة بشرية يشكل فيها المسلمون نحو 75 في المائة من مجموع السكان. ويبدو أن الدولتين أعلاه لا تتشاركان في طبيعة التديّن وحسب، بل كذلك في طبيعة تحديات الأغلبية المسلمة، التي تعتبر «الفرنكفونية» وما تسميه بـ«النخب العلمانية» التابعة لفرنسا.. خصما لها.
ومن جهة أخرى، تعرف الأنظمة السياسية لهذه المنطقة الممتدة بين ليبيا وتشاد ومالي والنيجر وبوركينا فاسو انتشارا للفساد وغيابا للديمقراطية وضعفا شديدا للحكم المؤسساتي. فمعظم هذه الدول لا تملك سيطرة فعلية على حدودها الجغرافية، بل وعلى معظم ترابها الوطني، مما يجعل منها «سلطة على العاصمة ونواحيها» فقط. وهذا، في الوقت الذي تعاني مجتمعات الساحل وغرب أفريقيا ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة جدا، وهذا بدوره أنتج ظواهر جديدة ترتبط بالإرهاب والجريمة المنظمة.
لقد استطاعت الجماعات الإرهابية خلق تشابك معقّد مع منظمات الجريمة الدولية، خاصة تلك الناشطة في جرائم الاتجار بالبشر والمخدرات وتهريب السلاح. واستغلت تنظيمات، مثل تنظيم القاعدة وتنظيم «المرابطين»، هذه الوضعية لتقوية مواردها المالية، والتزود بالسلاح، وساعدها في ذلك ما خلقته من تحالفات مع بعض الشعوب (الإثنيات) والقبائل المنتشرة في المناطق الصحراوية مثل الطوارق في مالي، وتلك القريبة من البحر في الصومال، أو البحيرة الكبرى في تشاد.
وهكذا استطاع تنظيم القاعدة، وأيضا تنظيم «المرابطين» خلق استقلالية مالية، تمكنهما من التجنيد ودفع الرواتب، واستمالة شباب من قبائل مهمة جغرافيا وإثنيا. وتشير منظمة الأمم المتحدة في أحد تقاريرها لخطورة هذا الوضع، حيث سجل «مكتب الأمم المتحدة لشؤون المخدرات والجريمة» أن عمليات الجريمة المنظمة التي تقوم بها الجماعات الإرهابية تدر عليها نحو ثلاثة آلاف وأربعمائة مليون دولار في السنة. وتتوزع بين مداخيل تهريب السلع والمخدرات والأسلحة ومبالغ الفدية مقابل إطلاق سراح الرهائن.
وممّا يقوّي شوكة المنظمات الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا الانتشار المهول لظاهرة التسلح؛ حتى أصبح السلاح لا يعرف بدوره الحدود ولا يخضع لسيطرة الدولة الوطنية. فمنذ منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة انتشرت ظاهرة جديدة غذّت مطامح التوجّهات الإرهابية، وهي ما أطلق عليها «تجارة النمل» (The Ant trade)، التي يجري بموجبها شراء السلاح بصورة قانونية في دولة واحدة، ثم يعاد توزيعه بطريقة غير قانونية تعتمد التهريب في دول أخرى.
وتتشابك هذه الأنشطة الخطرة مع التجارة العالمية للمخدرات، التي تعتبر كل دول غرب أفريقيا والساحل مسرحا لها. فإذا كانت تجارة السلاح تأتي عبر البحر لتجعل من بنين وتوغو منطلقا لها، فإن نحو 14 في المائة من الكوكايين يصل إلى أوروبا عبر غرب أفريقيا. والغريب أن تجارة المخدرات لا تعبر الصحراء والبحر فقط، بل إن مطارات واغادوغو وباماكو والعاصمة النيجرية نيامي، بجانب الجزائر العاصمة، تعتبر نقاطا لهذا النشاط.
لقد استفادت تنظيمات إرهابية مثل «القاعدة» و«المرابطين» من الجريمة المنظمة وتجارة السلاح الدولي، وكذلك من انهيار النظام الإقليمي بسقوط معمر القدافي ومنظومته الأمنية والعسكرية في ليبيت، وكذلك تفكك السلطة في مالي. وأدى هذا الوضع الجديد إلى تقوية شبكة الجماعات الإرهابية على مستوى شمال أفريقيا، خاصة في تونس وليبيا، وأيضا في منطقة الساحل من مالي إلى النيجر. ثم ازداد الأمر تعقيدا بحصول الجماعات الإرهابية على صواريخ مضادة للدروع، ولطائرات الهليكوبتر التي استعملتها هذه التنظيمات في مالي وغيرها.
ومع التغيرات التي شهدتها المنطقة منذ 2011، أصبحت الصراعات الدولية على المنطقة أكثر حدة خاصة بين فرنسا والولاية المتحدة الأميركية والصين. ففي ظل هذا التنافس الجيوسياسي، رفضت دول الساحل وغرب أفريقيا استضافة القيادة العسكرية الخاصة بأفريقيا (Africom)، في الوقت الذي تبنّت فيه الولايات المتحدة برنامج «بان الساحل» الخاص بمحاربة الإرهاب في كل من النيجر وتشاد وموريتانيا ومالي. وتوسع هذا البرنامج عام 2005 ليشمل تونس والمغرب والجزائر وبوركينا فاسو والسنغال ونيجيريا، وخصصت له نحو 100 مليون دولار، وتقوده قوة عسكرية تسمى «إنديورينغ فريدوم» (Enduring Freedom)، وتعمل هذه الوحدات على التدخل السريع لمواجهة التنظيمات الإرهابية في كل الغرب الأفريقي والساحل.
وفي عام 2014 وضعت الإدارة الأميركية برنامجا لتدريب قوات أجنبية على مواجهة الإرهاب. وتضمنت قائمة الدول المشار إليها الصومال ومالي، وعزّزت الولايات المتحدة تعاونها الأمني والعسكري مع عدة دول في الساحل وغرب أفريقيا، لتشمل الكاميرون وأنغولا. كذلك أكدت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) يوم الأربعاء 2014/5/28 أن الجيش الأميركي أرسل سفينة الإنزال البرمائي «يو إس إس باتان» إلى السواحل الليبية، وعلى متنها ألف جندي من مشاة البحرية «المارينز» في إطار مكافحة الإرهاب.
وتأتي هذه الخطوة وغيرها في إطار تقوية الدفاع عن المصالح الأميركية، وتعزيز الوجود العسكري في كل من القاعدة العسكرية في إثيوبيا وبوركينا فاسو، ودعم القوات الخاصة في الكونغو وتشاد وجيبوتي وتعدادها نحو 4 آلاف جندي وطائرات من دون طيار.
وبعد التطورات الأخيرة، في كل من بوركينا فاسو ومالي وليبيا، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما يوم الخميس الماضي أن بلاده مستعدة لملاحقة تنظيم داعش أينما وجد بما في ذلك فوق الأراضي الليبية. وهذا التطور يأتي لمواجهة التوسع الجديد لـ«داعش» في كل من ليبيا وتونس. وقال البيت الأبيض في ختام اجتماع عقده مجلس الأمن القومي برئاسة أوباما خصص لبحث الوضع في ليبيا، إن «الرئيس شدد على أن الولايات المتحدة ستواصل مهاجمة تنظيم داعش الإرهابي في أي بلد وجد به»، وأن «الرئيس طلب من فريقه للأمن القومي مواصلة جهوده الرامية لتعزيز الحكم الرشيد في ليبيا ودعم جهود مكافحة الإرهاب في ليبيا وفي الدول الأخرى حيث يسعى تنظيم داعش إلى تثبيت وجوده».
أما فرنسا فهي البلد الأوروبي الأكثر تأثرا بالخارطة الجديدة للإرهاب في الساحل وغرب أفريقيا. ولقد جسدت العمليات الأخيرة في عاصمتها باريس هذه الحقيقة التي أدركتها فرنسا منذ سنوات. وفي إطار صراعها مع الإرهاب بدول غرب وساحل أفريقيا، أعادت باريس في يناير 2014 نشر نحو ثلاثة آلاف من قواتها في منطقة الساحل الأفريقي تحت ذريعة محاربة الإرهاب، كما تستغل قاعدتها العسكرية «غير المعلنة» في تشاد كمنطلق لطائراتها وقواتها الجوية؛ بينما تتمركز أكبر قوة برية لها في بوركينا فاسو، وتخصّص قاعدتها العسكرية بساحل العاج للإمدادات والتموين الأساسية.
وللعلم، تلعب القوات الفرنسية المتمركزة في مالي منذ تدخلها يوم 11 يناير 2013 في هذا البلد تحت اسم «عملية سيرفال» (القط البري) التي عوّضت أفريقيا في يوليو (تموز) 2014 بعملية «برخان»، دورا كبيرا في مواجهة التنظيمات الإرهابية هناك. ولقد أعلنت القوات الفرنسية في مالي يوم 23 ديسمبر (كانون الأول) 2015 أنها قتلت 10 من «المرابطين» في منطقة مينكا بشمال شرقي مالي قرب الحدود مع النيجر.
بكلمة موجزة، يمكن القول إن الإرهاب أصبح أمرا واقعا في منطقة الساحل وغرب أفريقيا؛ وإن مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية الدولية تجعل منه تهديدا في طريقه للانتعاش وليس الانحصار.
ولا يخفى على راصدي الشأن الأفريقي ما يتسم به الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدول غرب أفريقيا من هشاشة، رغم غناها من حيث الثروات المعدنية والطاقية. ولقد باتت الجماعات الإرهابية تلعب على وتر مواجهة فرنسا التي تستنزف موارد المنطقة؛ ففرنسا، مثلا، منذ عام 1971 وهي تستحوذ على استخراج يورانيوم النيجر عبر شركة «أريفا» و«أريفا النيجر»، وتمد النيجر بذلك فرنسا بـ35 في المائة من احتياجاتها من الطاقة النووية، كما تسهم في 75 في المائة من الطاقة الكهربائية الفرنسية. وهذه الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة جعلت منها جزءا من الأمن القومي الفرنسي، كما جعلت منها منطقة الصراع بين الولايات المتحدة والصين وفرنسا، وهو صراع يخاض في إطار محاربة وتوظيف الإرهاب في تلك المنطقة.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.