أين المعارك الثقافية الكبرى في الحياة العربية؟ لماذا اختفت مع أن زمننا صار أكثر تركيبًا وتعقيدًا؟ واستخدام كلمة معارك هنا تجوزًا بالطبع، والمعنى المقصود تلك السجالات والحوارات الثقافية، التي قد تكون حادة أحيانًا، وجارحة أحيانًا، لكنها تتعلق بصلب العملية الثقافية، والقضايا الفكرية التي يطرحها التطور الثقافي والاجتماعي في فترة من الفترات، ربما بشكل كان غامضًا، أو ملتبسًا، وحتى محصورًا ضمن فئة معينة، اعتدنا أن نسميها النخبة. ولكن هذه النخبة (أو الفاعلين الحقيقيين فيها) ربما حتى فترة السبعينات، لم يحصروها ضمن الحدود الأكاديمية الضيقة، وإنما، بسبب التزامهم الفكري، وإيمانهم بدورهم الطليعي في التثقيف والتنوير خرجوا بها إلى الناس عبر الصحافة والمجلات الثقافية، التي كانت توزع عبر الوطن العربي كله، بسهولة نفتقدها الآن.
وهكذا، كانت مثل هذه السجالات، الساخنة وغيرها، تشغل الساحة الثقافية كلها، وبالتالي تحركها وتبث الحيوية فيها، مستولدة أفكارًا وقضايا جديدة.
كانت السجلات الأدبية والثقافية، على سبيل المثال، بين طه حسين وعباس محمود العقاد، والأخير مع مصطفى الرافعي وأحمد شوقي حول قضايا فنية وأدبية وتراثية وفقهية أيضًا، يصل صداها إلى اللبنانيين والعراقيين والسوريين والمغاربة في الوقت نفسه، فتصبح معاركهم أيضًا، لأنها تمس صميم شواغلهم واهتماماتهم. وفي نهاية الأربعينات، انشغلت الساحة الثقافية العربية كلها بمعركة الجديد والقديم في الشعر، التي بدأت في العراق، وامتدت إلى البلدان الأخرى.
وبسبب الجدال الثقافي الواسع، الذي اشترك فيه نقاد وكتاب وشعراء معروفون على صفحات الصحف والمجلات الثقافية، ولعل أبرزها «الرسالة» في مصر، و«لغة العرب» لصاحبها أنستاس ماري الكرملي في بغداد، و«الآداب» في لبنان، حصلت ثورة حقيقية في مفاهيمنا عن الشعر والنقد، والثقافة عمومًا، ساعدت على وضعنا في قلب العصر الأدبي الحديث الذي نعيش، وانتقلت بالشعر إلى آفاق أرحب لا تزال مفتوحة لحد الآن.
وقبل كل ذلك، كانت المعارك الفقهية والفكرية والأدبية وحتى القانونية التي أشعلها صدور كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق، و«في الشعر الجاهلي» لطه حسين. ما الذي نشهده الآن؟ على الرغم من التقدم العلمي والمعرفي الهائل، ومرور أكثر من قرن على ثورة جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده على الجمود الفكري، ودعوتهما لتكريس مفاهيم تواكب متطلبات العصر، يحاول الكثيرون للأسف أن يحيوا مرحلة الانحطاط في القرن الوسيط، فكريًا ولغويًا، بإثارتهم النعرات الإقليمية والإثنية والطائفية، مستندين لتاريخ وتراث هما محل خلاف واسع.
وقد يستمر هذا الخلاف لوقت طويل، ما لم تحصل ثورة فكرية كبيرة في العقول والنفوس. وبدلا من تضيق هذا الخلاف، على قاعدة «أن نعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه»، التي أطلقها فقهاء حتى في العصر الوسيط، رحنا نحفر في زوايا ماضينا لنستخرج منه ما يلائم أهواءنا، وبدلاً من أن نسلط الضوء على جوانبه النيرة، كما تفعل كل الأمم من أجل المستقبل، سلطنا الضوء على المفازات الموحشة فيه، التي تفتح أفواهها دائمًا، ولا تشبع أبدًا.
غياب السجالات في الثقافة العربية
غياب السجالات في الثقافة العربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة