تونس: الدوران في حلقة مفرغة

مع استفحال الأزمات السياسية والاقتصادية

شباب تونسيون يقطعون شارعا رئيسيا بحرق إطارات سيارات في مدينة القصرين احتجاجا على العطالة وقلة فرص العمل (أ.ف.ب)
شباب تونسيون يقطعون شارعا رئيسيا بحرق إطارات سيارات في مدينة القصرين احتجاجا على العطالة وقلة فرص العمل (أ.ف.ب)
TT

تونس: الدوران في حلقة مفرغة

شباب تونسيون يقطعون شارعا رئيسيا بحرق إطارات سيارات في مدينة القصرين احتجاجا على العطالة وقلة فرص العمل (أ.ف.ب)
شباب تونسيون يقطعون شارعا رئيسيا بحرق إطارات سيارات في مدينة القصرين احتجاجا على العطالة وقلة فرص العمل (أ.ف.ب)

بعد نحو أسبوع من توقف أعمال العنف والاحتجاجات الاجتماعية والشبابية غير المسبوقة في تونس، لم تنجح «خريطة الطريق» الجديدة التي عرضها رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، خلال نقاش مفتوح بالبرلمان في تطمين الـ300 ألف رجل أعمال تونسي ولا غالبية النقابات والأطراف السياسية. لقد تابعت وسائل الإعلام المعارضة والمستقلة والقريبة من الأحزاب المشاركة في الحكومة إبراز النقائص والسلبيات، وارتفعت من جديد الأصوات المطالبة بإحداث تغيير جوهري في المشهد السياسي.. بدءًا من الاستعاضة عن الحكومة الحالية بـ«حكومة إنقاذ وطني» قد تُعين على رأسها شخصية من رموز المعارضة العلمانية في عهد زين العابدين بن علي مثل أحمد نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر.
وتتزامن هذه التطورات مع الذكرى الخامسة لانتفاضة 2011، وإسقاط حكم بن علي، وتعمق الانشقاق والأزمة الداخلية في حزب نداء تونس، الحزب الذي أوصل الرئيس الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج ورفاقه إلى الحكم.
فإلى أين تسير تونس بعد بدئها العام السادس من ثورتها الشبابية بـ«تمرّد شبابي» جديد؟
على الرغم من تأكيد غالبية زعامات الأحزاب التونسية الأربعة المشاركة في حكومة رئيس الوزراء الحبيب الصيد، وقوفها إلى جانبه بعد مواجهات قوات الأمن مع عشرات الآلاف من الشباب العاطل عن العمل الذي نزل إلى الشوارع، فإن مؤشرات استفحال الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كثيرة جدًا.
ويعد ثلة من الخبراء السياسيين والاقتصاديين، مثل وزير المالية السابق حكيم حمودة، أن «الوقت قد حان ليفهم الساسة والاقتصاديون أن الأسباب العميقة لأزمات تونس السياسية والاجتماعية منذ سنوات هي انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 - 2009 عليها».
وفي الوقت الذي تحتاج فيه تونس إلى نسبة نمو اقتصادي عامة سنويًا لا تقل عن 7 في المائة حتى توفر مائة ألف موطن شغل جديد للعاطلين عن العمل، تراجعت تلك النسبة إلى أقل من 5 في المائة منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008، ثم إلى أقل من 3 في المائة بعد الإطاحة بحكم بن علي.
نسبة النمو في العام الماضي كانت قريبة من الصفر، وتوشك الأوضاع أن تستفحل هذا العام والعام المقبل ما لم ينتعش قطاع السياحة والخدمات مجددًا، على اعتبار أن مساهمته المباشرة وغير المباشرة مهمة في توفير موارد رزق مئات الآلاف من العائلات وآلاف المؤسسات الصناعية والزراعية والسياحية والخدماتية.
صعوبات أم ركود؟
وفي حين تعاقبت تصريحات التطمين الموجهة إلى الشعب الصادرة عن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ورئيس الوزراء الحبيب الصيد، وكذلك زعامات حزب حركة النهضة، فإن الخبراء والساسة المستقلين والمعارضين لا يخفون تخوّفاتهم من اندلاع انفجارات اجتماعية شبابية جديدة، احتجاجًا على عجز الحكومات الثماني التي تعاقبت على السلطة منذ «ثورة 2011» عن معالجة معضلتي البطالة والفقر.
وفي هذا السياق، يعد الخبير الاقتصادي والاجتماعي رضا الشكندالي أن «حصيلة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتعاقبة منذ 5 سنوات أن تونس انتقلت من مرحلة (الصعوبات) الاقتصادية قبل عام 2011 إلى مرحلة (الركود) الشامل اليوم». وحمّلت الخبيرة الاقتصادية والإعلامية جنات بن عبد الله مسؤولية هذا التطور السلبي إلى «حكومات ما بعد الثورة»، خصوصا الفريق الحكومي الحالي، وإلى «تقديم الولاء على الكفاءة والخبرة في التعيينات السياسية والإدارية».
«القنبلة الموقوتة»
في الوقت نفسه، حذّرت دراسات وتقارير أعدّها اتحاد نقابات العمال من انفجار «القنبلة الموقوتة» الشبابية والاجتماعية مجدّدًا، مهدّدة «المكاسب السياسية التي تحققت خلال السنوات الماضية، وعلى رأسها توسيع هامش الحريات وتنظيم انتخابات تعدّدية نزيهة والمصادقة على الدستور الجديد». ولقد حذّر عبيد البريكي، الأمين العام المساعد السابق لاتحاد نقابات العمال، من «تضخم نسب العاطلين عن العمل وتدهور أوضاع الطبقة الوسطى وتراكم مؤشرات الفقر».
في هذا السياق، يؤكد الخبير الاقتصادي شيحة قحة أن عدد العاطلين عن العمل ارتفع من 300 ألف قبل «ثورة يناير (كانون الثاني) 2011» إلى نحو 700 ألف حاليًا. ومن جانبه، قدّر وزير المالية السابق حكيم حمودة نسبة الفقراء اليوم في تونس - أي الذين يعيشون بأقل من دولار واحد يوميًا - بخُمس السكان في العاصمة والمناطق الساحلية وثُلث السكان في الجهات المهمّشة والحدودية مع الجزائر وليبيا، مثل القصرين والكاف وجندوبة ومدنين وتطاوين وقبلي.
خلل بين الجهات
وحسب تقرير أممي فإن الخلل في التوازن بين الجهات (أو الأقاليم) لا يزال خطيرًا في تونس بعد خمس سنوات من الثورة التي فجّرها شبابها. إذ بلغت نسب البطالة بين شباب المحافظات الداخلية نحو 50 في المائة مقابل نحو 6 في المائة فقط في محافظات الساحل السياحية مثل المنستير وسوسة اللتين هما موطن الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وغالبية وزرائهما ومستشاريهما.
وكشف التقرير نفسه فوارق جهوية مماثلة في مجالات التعليم والخدمات الطبية والصحية. فلقد بلغ الانخراط في التعليم بالنسبة للأطفال بين سن 6 و11 سنة نسبة 99.5 في المائة لمدينة تونس العاصمة وضواحيها، مقابل 92 في المائة في ولاية القصرين عام 2011.
وعلى الرغم من إقرار الحكومة الحالية والحكومات السابقة بهذه الحقائق، التي تفسّر عودة الاضطرابات والمواجهات التي تسببت في مقتل رجل أمن وإصابة مئات بجراح، فإن المعارضة لم ترحّب بـ«الوثيقة التوجيهية» الجديدة للتنمية التي قدّمها رئيس الوزراء الصيد أمام البرلمان.
كذلك تابع زعماء المعارضة اليسارية، مثل حمّة الهمامي زعيم «الجبهة الشعبية»، انتقاداتهم للفريق الحاكم وللائتلاف الحزبي الذي يدعمه بزعامة حزبي نداء تونس وحركة النهضة.
السير بين الألغام
لكن السؤال الذي يفرض نفسه في ظل هذه المزايدات: هل تعني ردود فعل قيادات اليسار ونواب المعارضة على الحكومة عودة للدوران في «الحلقة المفرغة»؟ أم ستكون مجرد مزايدات «سياسيوية» وتعبيرًا عن تحفّظات «شكلية» وليس على جوهر «خريطة الطريق» المقترحة؟
لعل من أبرز ما ينبغي التوقف عنده أن مضاعفات «الانتفاضة الشبابية الاجتماعية الجديدة» ليست اجتماعية فقط، بل تطوّرت إلى انتقادات سياسية بالجملة للحكومة. وشملت هذه الانتقادات أوضاع الحريات وحقوق الإنسان في البلاد و«ظاهرة عودة التعذيب»، ومن ثم وجد رئيس الحكومة نفسه مجددا، مطالبًا بـ«السير بين الألغام»، ومحاولة تقديم خطاب لا يستفزّ الشباب والعاطلين عن العمل ولا يغضب رجال الأعمال، مع محاولة التوفيق بين شركائه في الحكم وخصومه ومعارضيه.. عبر منهج «توافقي» و«براغماتي».
حتى متى؟
إلا أن من بين الأسئلة التي تفرض نفسها رغم ذلك: حتى متى ستستمر الأزمات الاجتماعية والقطيعة مع الشباب في بلد يفاخر بكون شبابه نظم قبل خمس سنوات «ثورة الشباب والكرامة»، وأنجز «تغييرًا سياسيًا سلميًا»؟ حتى متى سيقنع الشباب وأبناء الطبقات الاجتماعية الشعبية والفقيرة بـ«خطاب التطمين»، والوعود والإقرار بالنقائص وبشرعية مطالب المتظاهرين سلميًا مقابل اتهام بعض «الأطراف» (؟) بالتورّط في «الاندساس» و«التسلل» إلى التحركات السلمية ودفع جانب من المشاركين فيها نحو العنف والسرقة والاعتداء على رجال الأمن؟
لعل من بين التحديات هنا أن كثيرين من الجامعيين، على غرار عالم الاجتماع محمد الجويلي، يتحدثون عن «أزمة ثقة شاملة» تمرّ بها قطاعات واسعة من النخب والطبقة السياسية بمختلف ألوانها. و«أزمة الثقة» هذه ما عادت تقتصر على «الأقلية» و«بعض النخب»، بل توسّعت لتشمل غالبية السياسيين العلمانيين والليبراليين واليساريين والإسلاميين والقوميين.. إلخ. وهنا يعرب علماء النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع مثل عبد الوهاب محجوب وعبد الوهاب حفيظ عن تخوّفهم من العودة بالبلاد إلى «المربع السابق»، أي مربع تمييع مطالب الشباب العاطل والمهمّش والطبقات الشعبية والوسطى واختزال الأزمة في مزايدات من يوصفون بـ«المخربين» و«المنحرفين» و«المتآمرين» على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي. وقد بات المسكوت عنه أكثر من المصرح به.. بما في ذلك بالنسبة إلى كبار المسؤولين في حزب الرئيس السبسي وشركائه أحزاب الائتلاف الرباعي وللحكومة.
فوائد الدين
في الأثناء يلفت سياسيون وخبراء بارزون، مثل الناطق الرسمي باسم حزب العمال و«الجبهة الشعبية» المعارضة حمّة الهمامي، إلى أن «من بين أخطر التحديات التي تواجه البلاد اليوم وستواجهها خلال عامي 2016 و2017 حلول موعد تسديد فوائد الدين، التي تحوم حول سبع مليارات دولار، فضلا عن الخسائر التي ستلحق بالميزانية العامة للدولة وبمصالح الضرائب والجمرك، نتيجة الضربة الموجعة جدًا التي وجهت إلى قطاع السياحة في أواخر يونيو (حزيران) الماضي ثم إلى أعلى رموز الدولة (أي الحرس الرئاسي) من خلال هجوم 24 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي».
ومن جهته، يقول الخبير الاقتصادي، شيحة قحة، إن «مثل هذه المعضلات تزيد من تعقيد أوضاع الطبقات الشعبية والوسطى في مرحلة تراجعت معها إنتاجية الموظف والعامل إلى أدنى مستوياتها، وهذا مع تورّط الحكومات المتعاقبة منذ خمس سنوات في إعطاء أولوية للأجندات السياسية والحزبية و(الترضيات) والتعيينات وفق قاعدة (الأقربون أولى بالمعروف) وليس لمكافحة البطالة».
كذلك «أعطت الحكومات أولوية لتحسين أجور العمال، ترضية للنقابات وليس إلى التشغيل ومقاومة الفقر ضمن استراتيجية جديدة تبدأ بتحسن مناخ الأعمال والاستثمار بعيدًا عن الشعارات الفارغة»، كما أوضح الخبير الاقتصادي التونسي والدولي صالح جبنون.
فرص لا تعوّض
في المقابل، سجل إلياس فخفاخ، وزير السياحة والمالية السابق والقيادي في حزب التكتل، أن «الحكومة الحالية أمام فرص لا تعوض يفترض أن تساعدها على تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية». وفي هذا السياق لفت فخفاخ النظر إلى كون تونس كسبت نحو أربعة مليارات من الدنانير (مليارا دولار) بفضل تراجع أسعار النفط في وقت وجيز من نحو 120 دولارا إلى أقل من 30 دولارا.. بما خفّف أعباء الدولة في مجال دعم المحروقات. كذلك أشار إلى كون من بين «الفرص التي قد لا تعوّض» انخفاض سعر اليورو عالميًا مقارنة بالدولار، وهو ما يعني تخفيف أعباء حكومة تونس في مجال إرجاع الديون وتسديد فوائدها وخدماتها.
يضاف إلى كل ذلك أن العام المنقضي كان، مثلما أورد سعد الصديق وزير الفلاحة (الزراعة)، استثنائيًا من حيث مساهمته في ميزانية الدولة بفضل صادرات الزيوت والتمور والسمك التي ناهزت الملياري دولار. ما يبعث على التساؤل هل يعقل بعد كل هذا التمادي في تبرير «الإخفاقات في سياسات الحكومات المتعاقبة بالعوامل الأمنية فقط»؟ أوليس الإخفاق الأمني بدوره جزءا من فشل بعض المسؤولين الذين عينوا في مناصبهم على أساس قاعدة «الولاء قبل الكفاءة»؟
حكومة إنقاذ وطني
في مثل هذه الظروف قد يستسيغ كثيرون فكرة تشكيل «حكومة إنقاذ وطني» جديدة يتسابق أقطاب السياسة والمال في تونس على إعلان مرشحيهم لها مثل المهدي جمعة رئيس الحكومة السابق، والمنذر الزنايدي وزير التجارة والسياحة والنقل في عهد بن علي والمرشح السابق للانتخابات الرئاسية. لكن ثمة من يشكك فيما إذا كان الحل يكمن في إسقاط حكومة الصيد الثانية التي تشكلت قبل أسبوعين لا أكثر. ويتخوّف من أن يتسبب إسقاطها بشل مؤسسات الدولة التي تعاني أصلاً من عواقب غياب الاستقرار منذ مطلع 2011.
قد تتباين الآراء بين من يعطون أولوية للملفات السياسية ودعاة التفرغ للأولويات الاجتماعية والاقتصادية، بعيدًا عن أطماع «الزعماء» الذين يسيل لعابهم بعد كل أزمة عابرة من أجل الوصول إلى قصور السلطة.
«انتهازية» الساسة
الدكتور محسن الكوني، وهو أستاذ الفلسفة في ولاية القصرين، علق على انفجار الاحتجاجات الجديدة مجدّدًا في الوسط والمناطق المهمّشة بـ«الانتهازية» التي سادت النخب المثقفة والسياسية عندما لم تقدم معضلات البطالة والفوارق بين الجهات على أجنداتها السياسية وكل «الأولويات في البلاد». ولقد سبقه كثيرون، بينهم الجامعي قيس سعيد، الخبير في القانون الدستوري، فأكد مبكرا كون «الإصلاحات القانونية والدستورية ما كان لها أن تستنزف طاقات البلاد طوال الأعوام الماضية، ولا أن تشغلها عن أولوية الأولويات التي هي معالجة ملفات الفقر والبطالة واختلال التوازن بين المناطق المهمشة والجهات المحظوظة والمشكلات الهيكلية التي تنخر الاقتصاد والبلاد».
الثورة والثورة المضادة
في الأثناء تعمقت التناقضات داخل النخب السياسية والنقابية والثقافية بين من يدافعون عن «مكاسب الثورة» والمتهمين بخدمة «الثورة المضادة»، وأنصار إسقاط الائتلاف بين حزبي «النداء» و«النهضة» ومن يدعو إلى تعزيزه.. بين الذين يقدّرون حيادية رئيس الحكومة الحالي الحبيب الصيد واستقلاليته ونظافة يديه، ومن يتهمه بالفشل والإخفاق. وجاء «التطبيع» مع عدد من رموز النظام السابق وأصهاره ووزرائه ومستشاريه من دون مسار واضح للإنصاف والمصالحة الوطنية، ومن دون استرجاع ممتلكات الدولة وأموال الديوانة والضرائب، ليدعم مواقف «الشباب الثائر بطبعه ضد القديم والسلطة» كما يقول عالم الاجتماع عبد الوهاب محجوب.
وفي هذا السياق تطرح نقاط استفهام حول الأسباب الحقيقية التي أدت إلى توقيف مئات من السياسيين ورجال الأعمال دون غيرهم وحول ملابسات الإفراج عنهم وغلق ملفاتهم. ولئن اعتبر قسم من المتظاهرين في القصرين وسيدي بوزيد وتونس العاصمة «الإفراج في ذكرى الثورة عن صهر بن علي والتعهد بتسوية ملف صهر ثان قريبًا»، تكريسا لانتصار «الثورة المضادة»، فإن من بين الملاحظات التي يقدمها خصومهم أن «التطبيع مع غالبية أصهار بن علي ومع رجال الأعمال والوزراء المتهمين السابقين بالفساد المالي إنما تحقق في عهد (الترويكا)، ثم في عهد حكومة التكنوقراط برئاسة المهدي جمعة وفي ظل حكم حزب النداء».
وبالتالي، هل لا يزال مشروعًا الحديث عن قوى «الثورة» و«الثورة المضادة» بالنسبة إلى النخب السياسية والحزبية التي تتحكم في قوانين اللعبة منذ خمس سنوات، أم أن من حق الشباب أن يثور عليها جميعا باعتبارها متهمة بدرجات متفاوتة في الإخفاقات المتعاقبة بسبب عدم اعتمادها سياسة شفافة للإنصاف والمصالحة، وتورطها في «تسويات تحت الطاولة» و«عدالة انتقائية وانتقامية» وخيارات الابتزاز خدمة لمصالح شخصية وحزبية وجهوية وفئوية؟
الولاء قبل الكفاءة

على هذا الصعيد أيضًا تتباين التقييمات للخبرات التونسية في الإدارة ومؤسسات الدولة. ولا شك أن كثيرا من بين المسؤولين في الوزارات والإدارة المركزية والإدارات الجهوية والمحلية كانوا قبل الثورة يفتقرون إلى النزاهة أو الخبرة والكفاءة أو إلى الاثنين معًا. ثمة من يقول إنه آن الأوان الآن لكي تصبح الأولوية في معايير إسناد المسؤوليات إلى الكفاءة والخبرة من الولاء.

* إعلامي وكاتب تونسي



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.