تونس: الدوران في حلقة مفرغة

مع استفحال الأزمات السياسية والاقتصادية

شباب تونسيون يقطعون شارعا رئيسيا بحرق إطارات سيارات في مدينة القصرين احتجاجا على العطالة وقلة فرص العمل (أ.ف.ب)
شباب تونسيون يقطعون شارعا رئيسيا بحرق إطارات سيارات في مدينة القصرين احتجاجا على العطالة وقلة فرص العمل (أ.ف.ب)
TT

تونس: الدوران في حلقة مفرغة

شباب تونسيون يقطعون شارعا رئيسيا بحرق إطارات سيارات في مدينة القصرين احتجاجا على العطالة وقلة فرص العمل (أ.ف.ب)
شباب تونسيون يقطعون شارعا رئيسيا بحرق إطارات سيارات في مدينة القصرين احتجاجا على العطالة وقلة فرص العمل (أ.ف.ب)

بعد نحو أسبوع من توقف أعمال العنف والاحتجاجات الاجتماعية والشبابية غير المسبوقة في تونس، لم تنجح «خريطة الطريق» الجديدة التي عرضها رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، خلال نقاش مفتوح بالبرلمان في تطمين الـ300 ألف رجل أعمال تونسي ولا غالبية النقابات والأطراف السياسية. لقد تابعت وسائل الإعلام المعارضة والمستقلة والقريبة من الأحزاب المشاركة في الحكومة إبراز النقائص والسلبيات، وارتفعت من جديد الأصوات المطالبة بإحداث تغيير جوهري في المشهد السياسي.. بدءًا من الاستعاضة عن الحكومة الحالية بـ«حكومة إنقاذ وطني» قد تُعين على رأسها شخصية من رموز المعارضة العلمانية في عهد زين العابدين بن علي مثل أحمد نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر.
وتتزامن هذه التطورات مع الذكرى الخامسة لانتفاضة 2011، وإسقاط حكم بن علي، وتعمق الانشقاق والأزمة الداخلية في حزب نداء تونس، الحزب الذي أوصل الرئيس الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج ورفاقه إلى الحكم.
فإلى أين تسير تونس بعد بدئها العام السادس من ثورتها الشبابية بـ«تمرّد شبابي» جديد؟
على الرغم من تأكيد غالبية زعامات الأحزاب التونسية الأربعة المشاركة في حكومة رئيس الوزراء الحبيب الصيد، وقوفها إلى جانبه بعد مواجهات قوات الأمن مع عشرات الآلاف من الشباب العاطل عن العمل الذي نزل إلى الشوارع، فإن مؤشرات استفحال الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كثيرة جدًا.
ويعد ثلة من الخبراء السياسيين والاقتصاديين، مثل وزير المالية السابق حكيم حمودة، أن «الوقت قد حان ليفهم الساسة والاقتصاديون أن الأسباب العميقة لأزمات تونس السياسية والاجتماعية منذ سنوات هي انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 - 2009 عليها».
وفي الوقت الذي تحتاج فيه تونس إلى نسبة نمو اقتصادي عامة سنويًا لا تقل عن 7 في المائة حتى توفر مائة ألف موطن شغل جديد للعاطلين عن العمل، تراجعت تلك النسبة إلى أقل من 5 في المائة منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008، ثم إلى أقل من 3 في المائة بعد الإطاحة بحكم بن علي.
نسبة النمو في العام الماضي كانت قريبة من الصفر، وتوشك الأوضاع أن تستفحل هذا العام والعام المقبل ما لم ينتعش قطاع السياحة والخدمات مجددًا، على اعتبار أن مساهمته المباشرة وغير المباشرة مهمة في توفير موارد رزق مئات الآلاف من العائلات وآلاف المؤسسات الصناعية والزراعية والسياحية والخدماتية.
صعوبات أم ركود؟
وفي حين تعاقبت تصريحات التطمين الموجهة إلى الشعب الصادرة عن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ورئيس الوزراء الحبيب الصيد، وكذلك زعامات حزب حركة النهضة، فإن الخبراء والساسة المستقلين والمعارضين لا يخفون تخوّفاتهم من اندلاع انفجارات اجتماعية شبابية جديدة، احتجاجًا على عجز الحكومات الثماني التي تعاقبت على السلطة منذ «ثورة 2011» عن معالجة معضلتي البطالة والفقر.
وفي هذا السياق، يعد الخبير الاقتصادي والاجتماعي رضا الشكندالي أن «حصيلة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتعاقبة منذ 5 سنوات أن تونس انتقلت من مرحلة (الصعوبات) الاقتصادية قبل عام 2011 إلى مرحلة (الركود) الشامل اليوم». وحمّلت الخبيرة الاقتصادية والإعلامية جنات بن عبد الله مسؤولية هذا التطور السلبي إلى «حكومات ما بعد الثورة»، خصوصا الفريق الحكومي الحالي، وإلى «تقديم الولاء على الكفاءة والخبرة في التعيينات السياسية والإدارية».
«القنبلة الموقوتة»
في الوقت نفسه، حذّرت دراسات وتقارير أعدّها اتحاد نقابات العمال من انفجار «القنبلة الموقوتة» الشبابية والاجتماعية مجدّدًا، مهدّدة «المكاسب السياسية التي تحققت خلال السنوات الماضية، وعلى رأسها توسيع هامش الحريات وتنظيم انتخابات تعدّدية نزيهة والمصادقة على الدستور الجديد». ولقد حذّر عبيد البريكي، الأمين العام المساعد السابق لاتحاد نقابات العمال، من «تضخم نسب العاطلين عن العمل وتدهور أوضاع الطبقة الوسطى وتراكم مؤشرات الفقر».
في هذا السياق، يؤكد الخبير الاقتصادي شيحة قحة أن عدد العاطلين عن العمل ارتفع من 300 ألف قبل «ثورة يناير (كانون الثاني) 2011» إلى نحو 700 ألف حاليًا. ومن جانبه، قدّر وزير المالية السابق حكيم حمودة نسبة الفقراء اليوم في تونس - أي الذين يعيشون بأقل من دولار واحد يوميًا - بخُمس السكان في العاصمة والمناطق الساحلية وثُلث السكان في الجهات المهمّشة والحدودية مع الجزائر وليبيا، مثل القصرين والكاف وجندوبة ومدنين وتطاوين وقبلي.
خلل بين الجهات
وحسب تقرير أممي فإن الخلل في التوازن بين الجهات (أو الأقاليم) لا يزال خطيرًا في تونس بعد خمس سنوات من الثورة التي فجّرها شبابها. إذ بلغت نسب البطالة بين شباب المحافظات الداخلية نحو 50 في المائة مقابل نحو 6 في المائة فقط في محافظات الساحل السياحية مثل المنستير وسوسة اللتين هما موطن الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وغالبية وزرائهما ومستشاريهما.
وكشف التقرير نفسه فوارق جهوية مماثلة في مجالات التعليم والخدمات الطبية والصحية. فلقد بلغ الانخراط في التعليم بالنسبة للأطفال بين سن 6 و11 سنة نسبة 99.5 في المائة لمدينة تونس العاصمة وضواحيها، مقابل 92 في المائة في ولاية القصرين عام 2011.
وعلى الرغم من إقرار الحكومة الحالية والحكومات السابقة بهذه الحقائق، التي تفسّر عودة الاضطرابات والمواجهات التي تسببت في مقتل رجل أمن وإصابة مئات بجراح، فإن المعارضة لم ترحّب بـ«الوثيقة التوجيهية» الجديدة للتنمية التي قدّمها رئيس الوزراء الصيد أمام البرلمان.
كذلك تابع زعماء المعارضة اليسارية، مثل حمّة الهمامي زعيم «الجبهة الشعبية»، انتقاداتهم للفريق الحاكم وللائتلاف الحزبي الذي يدعمه بزعامة حزبي نداء تونس وحركة النهضة.
السير بين الألغام
لكن السؤال الذي يفرض نفسه في ظل هذه المزايدات: هل تعني ردود فعل قيادات اليسار ونواب المعارضة على الحكومة عودة للدوران في «الحلقة المفرغة»؟ أم ستكون مجرد مزايدات «سياسيوية» وتعبيرًا عن تحفّظات «شكلية» وليس على جوهر «خريطة الطريق» المقترحة؟
لعل من أبرز ما ينبغي التوقف عنده أن مضاعفات «الانتفاضة الشبابية الاجتماعية الجديدة» ليست اجتماعية فقط، بل تطوّرت إلى انتقادات سياسية بالجملة للحكومة. وشملت هذه الانتقادات أوضاع الحريات وحقوق الإنسان في البلاد و«ظاهرة عودة التعذيب»، ومن ثم وجد رئيس الحكومة نفسه مجددا، مطالبًا بـ«السير بين الألغام»، ومحاولة تقديم خطاب لا يستفزّ الشباب والعاطلين عن العمل ولا يغضب رجال الأعمال، مع محاولة التوفيق بين شركائه في الحكم وخصومه ومعارضيه.. عبر منهج «توافقي» و«براغماتي».
حتى متى؟
إلا أن من بين الأسئلة التي تفرض نفسها رغم ذلك: حتى متى ستستمر الأزمات الاجتماعية والقطيعة مع الشباب في بلد يفاخر بكون شبابه نظم قبل خمس سنوات «ثورة الشباب والكرامة»، وأنجز «تغييرًا سياسيًا سلميًا»؟ حتى متى سيقنع الشباب وأبناء الطبقات الاجتماعية الشعبية والفقيرة بـ«خطاب التطمين»، والوعود والإقرار بالنقائص وبشرعية مطالب المتظاهرين سلميًا مقابل اتهام بعض «الأطراف» (؟) بالتورّط في «الاندساس» و«التسلل» إلى التحركات السلمية ودفع جانب من المشاركين فيها نحو العنف والسرقة والاعتداء على رجال الأمن؟
لعل من بين التحديات هنا أن كثيرين من الجامعيين، على غرار عالم الاجتماع محمد الجويلي، يتحدثون عن «أزمة ثقة شاملة» تمرّ بها قطاعات واسعة من النخب والطبقة السياسية بمختلف ألوانها. و«أزمة الثقة» هذه ما عادت تقتصر على «الأقلية» و«بعض النخب»، بل توسّعت لتشمل غالبية السياسيين العلمانيين والليبراليين واليساريين والإسلاميين والقوميين.. إلخ. وهنا يعرب علماء النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع مثل عبد الوهاب محجوب وعبد الوهاب حفيظ عن تخوّفهم من العودة بالبلاد إلى «المربع السابق»، أي مربع تمييع مطالب الشباب العاطل والمهمّش والطبقات الشعبية والوسطى واختزال الأزمة في مزايدات من يوصفون بـ«المخربين» و«المنحرفين» و«المتآمرين» على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي. وقد بات المسكوت عنه أكثر من المصرح به.. بما في ذلك بالنسبة إلى كبار المسؤولين في حزب الرئيس السبسي وشركائه أحزاب الائتلاف الرباعي وللحكومة.
فوائد الدين
في الأثناء يلفت سياسيون وخبراء بارزون، مثل الناطق الرسمي باسم حزب العمال و«الجبهة الشعبية» المعارضة حمّة الهمامي، إلى أن «من بين أخطر التحديات التي تواجه البلاد اليوم وستواجهها خلال عامي 2016 و2017 حلول موعد تسديد فوائد الدين، التي تحوم حول سبع مليارات دولار، فضلا عن الخسائر التي ستلحق بالميزانية العامة للدولة وبمصالح الضرائب والجمرك، نتيجة الضربة الموجعة جدًا التي وجهت إلى قطاع السياحة في أواخر يونيو (حزيران) الماضي ثم إلى أعلى رموز الدولة (أي الحرس الرئاسي) من خلال هجوم 24 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي».
ومن جهته، يقول الخبير الاقتصادي، شيحة قحة، إن «مثل هذه المعضلات تزيد من تعقيد أوضاع الطبقات الشعبية والوسطى في مرحلة تراجعت معها إنتاجية الموظف والعامل إلى أدنى مستوياتها، وهذا مع تورّط الحكومات المتعاقبة منذ خمس سنوات في إعطاء أولوية للأجندات السياسية والحزبية و(الترضيات) والتعيينات وفق قاعدة (الأقربون أولى بالمعروف) وليس لمكافحة البطالة».
كذلك «أعطت الحكومات أولوية لتحسين أجور العمال، ترضية للنقابات وليس إلى التشغيل ومقاومة الفقر ضمن استراتيجية جديدة تبدأ بتحسن مناخ الأعمال والاستثمار بعيدًا عن الشعارات الفارغة»، كما أوضح الخبير الاقتصادي التونسي والدولي صالح جبنون.
فرص لا تعوّض
في المقابل، سجل إلياس فخفاخ، وزير السياحة والمالية السابق والقيادي في حزب التكتل، أن «الحكومة الحالية أمام فرص لا تعوض يفترض أن تساعدها على تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية». وفي هذا السياق لفت فخفاخ النظر إلى كون تونس كسبت نحو أربعة مليارات من الدنانير (مليارا دولار) بفضل تراجع أسعار النفط في وقت وجيز من نحو 120 دولارا إلى أقل من 30 دولارا.. بما خفّف أعباء الدولة في مجال دعم المحروقات. كذلك أشار إلى كون من بين «الفرص التي قد لا تعوّض» انخفاض سعر اليورو عالميًا مقارنة بالدولار، وهو ما يعني تخفيف أعباء حكومة تونس في مجال إرجاع الديون وتسديد فوائدها وخدماتها.
يضاف إلى كل ذلك أن العام المنقضي كان، مثلما أورد سعد الصديق وزير الفلاحة (الزراعة)، استثنائيًا من حيث مساهمته في ميزانية الدولة بفضل صادرات الزيوت والتمور والسمك التي ناهزت الملياري دولار. ما يبعث على التساؤل هل يعقل بعد كل هذا التمادي في تبرير «الإخفاقات في سياسات الحكومات المتعاقبة بالعوامل الأمنية فقط»؟ أوليس الإخفاق الأمني بدوره جزءا من فشل بعض المسؤولين الذين عينوا في مناصبهم على أساس قاعدة «الولاء قبل الكفاءة»؟
حكومة إنقاذ وطني
في مثل هذه الظروف قد يستسيغ كثيرون فكرة تشكيل «حكومة إنقاذ وطني» جديدة يتسابق أقطاب السياسة والمال في تونس على إعلان مرشحيهم لها مثل المهدي جمعة رئيس الحكومة السابق، والمنذر الزنايدي وزير التجارة والسياحة والنقل في عهد بن علي والمرشح السابق للانتخابات الرئاسية. لكن ثمة من يشكك فيما إذا كان الحل يكمن في إسقاط حكومة الصيد الثانية التي تشكلت قبل أسبوعين لا أكثر. ويتخوّف من أن يتسبب إسقاطها بشل مؤسسات الدولة التي تعاني أصلاً من عواقب غياب الاستقرار منذ مطلع 2011.
قد تتباين الآراء بين من يعطون أولوية للملفات السياسية ودعاة التفرغ للأولويات الاجتماعية والاقتصادية، بعيدًا عن أطماع «الزعماء» الذين يسيل لعابهم بعد كل أزمة عابرة من أجل الوصول إلى قصور السلطة.
«انتهازية» الساسة
الدكتور محسن الكوني، وهو أستاذ الفلسفة في ولاية القصرين، علق على انفجار الاحتجاجات الجديدة مجدّدًا في الوسط والمناطق المهمّشة بـ«الانتهازية» التي سادت النخب المثقفة والسياسية عندما لم تقدم معضلات البطالة والفوارق بين الجهات على أجنداتها السياسية وكل «الأولويات في البلاد». ولقد سبقه كثيرون، بينهم الجامعي قيس سعيد، الخبير في القانون الدستوري، فأكد مبكرا كون «الإصلاحات القانونية والدستورية ما كان لها أن تستنزف طاقات البلاد طوال الأعوام الماضية، ولا أن تشغلها عن أولوية الأولويات التي هي معالجة ملفات الفقر والبطالة واختلال التوازن بين المناطق المهمشة والجهات المحظوظة والمشكلات الهيكلية التي تنخر الاقتصاد والبلاد».
الثورة والثورة المضادة
في الأثناء تعمقت التناقضات داخل النخب السياسية والنقابية والثقافية بين من يدافعون عن «مكاسب الثورة» والمتهمين بخدمة «الثورة المضادة»، وأنصار إسقاط الائتلاف بين حزبي «النداء» و«النهضة» ومن يدعو إلى تعزيزه.. بين الذين يقدّرون حيادية رئيس الحكومة الحالي الحبيب الصيد واستقلاليته ونظافة يديه، ومن يتهمه بالفشل والإخفاق. وجاء «التطبيع» مع عدد من رموز النظام السابق وأصهاره ووزرائه ومستشاريه من دون مسار واضح للإنصاف والمصالحة الوطنية، ومن دون استرجاع ممتلكات الدولة وأموال الديوانة والضرائب، ليدعم مواقف «الشباب الثائر بطبعه ضد القديم والسلطة» كما يقول عالم الاجتماع عبد الوهاب محجوب.
وفي هذا السياق تطرح نقاط استفهام حول الأسباب الحقيقية التي أدت إلى توقيف مئات من السياسيين ورجال الأعمال دون غيرهم وحول ملابسات الإفراج عنهم وغلق ملفاتهم. ولئن اعتبر قسم من المتظاهرين في القصرين وسيدي بوزيد وتونس العاصمة «الإفراج في ذكرى الثورة عن صهر بن علي والتعهد بتسوية ملف صهر ثان قريبًا»، تكريسا لانتصار «الثورة المضادة»، فإن من بين الملاحظات التي يقدمها خصومهم أن «التطبيع مع غالبية أصهار بن علي ومع رجال الأعمال والوزراء المتهمين السابقين بالفساد المالي إنما تحقق في عهد (الترويكا)، ثم في عهد حكومة التكنوقراط برئاسة المهدي جمعة وفي ظل حكم حزب النداء».
وبالتالي، هل لا يزال مشروعًا الحديث عن قوى «الثورة» و«الثورة المضادة» بالنسبة إلى النخب السياسية والحزبية التي تتحكم في قوانين اللعبة منذ خمس سنوات، أم أن من حق الشباب أن يثور عليها جميعا باعتبارها متهمة بدرجات متفاوتة في الإخفاقات المتعاقبة بسبب عدم اعتمادها سياسة شفافة للإنصاف والمصالحة، وتورطها في «تسويات تحت الطاولة» و«عدالة انتقائية وانتقامية» وخيارات الابتزاز خدمة لمصالح شخصية وحزبية وجهوية وفئوية؟
الولاء قبل الكفاءة

على هذا الصعيد أيضًا تتباين التقييمات للخبرات التونسية في الإدارة ومؤسسات الدولة. ولا شك أن كثيرا من بين المسؤولين في الوزارات والإدارة المركزية والإدارات الجهوية والمحلية كانوا قبل الثورة يفتقرون إلى النزاهة أو الخبرة والكفاءة أو إلى الاثنين معًا. ثمة من يقول إنه آن الأوان الآن لكي تصبح الأولوية في معايير إسناد المسؤوليات إلى الكفاءة والخبرة من الولاء.

* إعلامي وكاتب تونسي



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.