ابن الهيثم .. والتحرر من سلطة النصوص

شكك في كتب الأقدمين وكشف النقص لدى أعمدة العلم اليوناني

ابن الهيثم .. والتحرر من سلطة النصوص
TT

ابن الهيثم .. والتحرر من سلطة النصوص

ابن الهيثم .. والتحرر من سلطة النصوص

عندما نقرأ للعالم ابن الهيثم (965 - 1041)، ننبهر ليس فقط بكشوفاته العلمية في مجال البصريات، المبثوثة في كتابه الخالد: «المناظر»، بل والأهم من ذلك، لمساته الابستمولوجية التي تثيرنا، خاصة تلك الواردة في مقدمة كتابه: «الشكوك على بطلميوس»، الذي حققه كل من الدكتور عبد الحميد صبرة، والدكتور نبيل الشهابي، وأصدرته مطبعة دار الكتب سنة 1971. فما هي الخطة المنهجية المتميزة، التي اشتغل بها العلم العربي عموما، وابن الهيثم خصوصا؟
ينطلق ابن الهيثم في مقدمة كتابه «الشكوك على بطلميوس»، من بيان أن الحق في العلوم الطبيعية مطلوب لذاته، والطريق إليه وعر وصعب، لأن الحقيقة منغمسة في الشبهات والأهواء، وبلغة العصر، هي غارقة في الذاتية، ناهيك عن أن الناس مولعون بالثقة وحسن الظن بالعلماء، فذاك جزء من طباعهم. ويكفي أن ينظر المرء في كتب المشهورين، ليصدق ما روجوه دونما تمحيص أو تدقيق. فهو يتماشى مع ما كتبوه ويعده الحق النهائي، مهملا أن العلماء بشر ليسوا معصومين من الزلل، وعلمهم ليس محميا من التقصير والزلل أيضا. إذ لو كانت العصمة لديهم لما اختلف العلماء قط، ولما تفرقت آراؤهم في حقائق الأشياء.
ويستمر ابن الهيثم في تحفته المنهجية ليقول: إن طالب الحق ليس هو فقط الناظر في كتب المتقدمين، المسترسل في حسن ظنه بالعلماء. بل طالب الحق هو المشكك والمتهم لحسن ظنه فيهم، والمتبع للحجة، لا قول العالم الذي هو إنسان والمجبول على الخلل والنقصان. فالباحث عن الحقيقة، وهو ينظر في كتب العلوم، عليه أن يجعل نفسه خصما لكل ما ينظر فيه. وفي الوقت نفسه، عليه أن يتهم نفسه عند خصامه، فلا يتحامل عليه. بكلمة واحدة، على الباحث أن يتهم الكاتب ويتهم نفسه. عليه أن يخاصم الكاتب ويخاصم نفسه. فالحق فوق الأفراد. وهذه كما يبدو، قمة النزاهة والحياد وإبعاد للذاتية، من حيث عواطفها ووجدانها. ويضيف ابن الهيثم، إن الناظر إذا ما سلك طريقه على النهج المذكور، ستنكشف له الحقائق، ويتضح له ما قصر فيه العلماء القدماء، أو اشتبه عليهم.
وطبعا لم يكن العالم ابن الهيثم يكتب مقدمته التحفة كوعظ، أو نصائح، دونما تطبيق. فمنهجه الذي قرره، سيلتزم به، وسيحاول تطبيقه على عالم شهير هو بطلميوس القلوذي. بل حتى كتابه واضح في ذلك: «الشكوك على بطلميوس». فمن هو بطلميوس؟
يعد بطلميوس (90 - 168)، خلاصة الفلك القديم، والنموذج المسيطر، مند القرن الثاني الميلادي، في الإسكندرية، بكتاب عنوانه «syntaxe mathematique» (أي مقال، أو رسالة، أو كتاب في الرياضيات) سيسميه العرب، لاحقا: «المجسطي»، وتعني «العظيم»، احتراما وتقديرا له. وستظل كلمة المجسطي متداولة عالميا إلى الآن. ٳنه الكتاب الذي سيلعب، في الفلك، دور كتاب الأصول لإقليدس في الرياضيات. سيقوم المسلمون بترجمته ترجمات كثيرة، بدأت غامضة وغير مرضية. لكن مع التنقيح والضبط، أصبحت واضحة ومهضومة. فكان الكتاب بمثابة الأساس الذي سيساعد على تطور علم الفلك عند العرب. فالنموذج البطليمي، اكتسب تفوقه في العالم العربي، حيث زود العلماء بالنظرية والمفاهيم ومناهج البحث. وقد عبر عالم الفلك «البتاني» (توفي 929)، عند ملتقى القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، عن توجه علماء الفلك في عصره، وذلك بقبولهم للنموذج البطلمي كمحدد أساسي للأنشطة الفلكية كافة، عندما أشار إلى المنهج الذي اتبعه هو نفسه، في صياغة زيجه المشهور (الزيج: جداول تحدد مسار ومواقع الأجرام السماوية)، والمسمى «الزيج الصابئ»، وهو الزيج الذي أثر في فلك عصر النهضة الأوروبي، وقال: «أجريت في تصحيح ذلك وإحكامه على مذهب بطلميوس، في الكتاب المعروف بالمجسطي، بعد إنعام النظر وطول الفكر والرؤية، مقتفيا أثره، متبعا ما رسمه. إذ كان قد تقصى ذلك من وجوهه، ودل على العلل والأسباب العارضة فيه بالبرهان الهندسي، والعددي، الذي لا تدفع صحته ولا يشك في حقيقته». من كلام البتاني، نستنتج أن بطلميوس صاغ صورة الحياة العلمية عند علماء الفلك العرب. فمند القرن التاسع للميلاد، ظهرت مجموعة من الأبحاث لعرض نتائج المجسطي، بطريقة مبسطة وتربوية، تسمح بتداوله ونشر مضمونه على نطاق واسع، يتجاوز الدائرة الضيقة لعلماء الفلك المتخصصين. فكتاب الفرغاني مثلا، نحو سنة 850. المسمى «جوامع علم النجوم والحركات السماوية»، ما هو إلا ملخص معدل ومصوب للمجسطي.
كان كتاب المجسطي إذن، من أهم المصادر الوافدة على العرب. وكان محط إعجاب وتقدير معظم الفلكيين منهم. بل إنهم اشتغلوا في ظله، وفي إطار ثوابته الأرسطية، التي يمكن تحديدها كالتالي:
- مركزية الأرض، والدوران الدائري للكواكب، ووجود عالمين مختلفين: عالم ما فوق القمر، ويتسم بالثبات والكمال، حيث تسود الحركة الدورانية، وعالم ما تحت القمر، ويتسم بالكون والفساد، حيث تسود حركة السقوط. باختصار، كان النسق البطلمي هو البراديغم (النموذج أو النمط) الذهني، المؤطر لاشتغال العلماء في القرون الوسطى برمتها.
ونجد ابن الهيثم، الذي نتخذه نموذجا هنا، لم يشتغل معزولا وبشكل فردي. بل جاء عمله مسبوقا بجهد جبار، جعل علم الفلك الإسلامي، يصل إلى مستوى من النضج يسمح بالنقد، وليس فقط الالتهام والاستهلاك. فبعد أن نقل العرب المؤلفات الفلكية إلى الأمم التي سبقتهم، صححوا بعضها، ونقحوا الآخر، وزادوا عليها. بل خرجوا إلى الميدان والرصد، قصد التأكد من دقة الحسابات. وبعد الجمع والتنقيح والإصلاح، بدأت مرحلة الشك ومحاولة ترميم هفوات نموذج بطلميوس المنطقية. فظهرت موجة نقدية قوية في العلم العربي عموما، وعلم الهيئة خصوصا. وتشكل ما يمكن تسميته بعصر الشك في المنظومة الموروثة عن اليونان. وبدأ الاهتمام بنقد الهيئة البطلمية. ليس فقط من ناحية ضبط الأرصاد هذه المرة، بل طال النقد الجوانب النظرية أيضا. وقد تجلى ذلك في كتاب ابن الهيثم: «الشكوك على بطلميوس»، إذ أصبحت مسألة الشك طاغية على المجمع العلمي، آنذاك. ومن الأمثلة الأخرى البارزة التي تظهر هذه الموجة، كتاب الرازي في الطب: «الشكوك على غالينوس»، وكذلك كتاب «الحكمة الشرقية» لابن سينا، الذي يعد بمثابة عصارة ما كشفه من خلاف مع أرسطو، إلى درجة يمكن أن نطلق عليه تسمية «الشكوك على أرسطو». هذا التوجه النقدي العام، لعب دورا في كشف النقص في أعمدة العلم اليوناني الثلاثة: غالينوس في الطب، وبطلميوس في الفلك، وأرسطو في الفلسفة.
وبالعودة إلى مقدمة كتاب الشكوك على بطلميوس، نجد أن ابن الهيثم يشيد به بداية، ويسميه بالرجل المشهور بالفضيلة، المتفنن في المعاني الرياضية، والمشار إليه في العلوم الحقيقية. فهو كتب كتبا بها علوم كثيرة، ومعانٍ غزيرة، وفوائد عظيمة. وهنا يبرز ابن الهيثم، أن العلم كوني وإنساني، تشارك فيه كل الشعوب. وأن الاستفادة من الغير مطلب أساسي. فمعظم علمائنا، خاصة في العلوم العقلية، كانت تغيب عندهم عقدة الاعتراف بما لدى الغير من منجزات. لكنه يقول بعد هذا التعظيم: لما خصمناه وتحرينا إنصافه وإنصاف الحق منه، وجدنا مواضع مشبهة، وألفاظا بشعة، ومعاني متناقضة، إلا أنها يسيرة بجنب ما أصاب فيه. ليؤكد في النهاية، على أنه لا ينبغي السكوت، أو الإمساك، أو ستر عيوب نسق بطلميوس. فذلك ظلم وهضم للحق، وتجن على اللاحقين من القراء. وهنا تبدو مسؤولية العلماء تجاه الأجيال المقبلة من الباحثين. فابن الهيثم فتح مشروعا مستقبليا للعمل. وهذا ما تحقق فعلا، مع مدرسة مراغة، التي أسسها نصير الدين الطوسي (1201 - 1274) في غرب إيران، وذلك سنة 1259. فهو من وضع مشروعا لإصلاح فلك بطلميوس. فكون مكتبة مختصة، واستقطب علماء مرموقين، من مناطق أخرى، للعمل المشترك كمؤيد الدين العرضي، ويحيى المغربي، وقطب الدين الشيرازي، ونظام الدين النيسابوري، الذي سيتوج في القرن الرابع عشر، بعمل هيئة تصحيحية قام بها الميقاتي بالجامع الأموي، ابن الشاطر، لينتهي كل هذا العمل الفذ، في يد كوبيرنيكوس، الذي قام بتحريك الأرض، مما أدى، ليس فقط إلى ترميم نسق بطلميوس، بل نسفه من أساسه. وبذلك كان الفلك العربي، هو المخاض الذي أنجب الثورة الفلكية الحديثة.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.