لم تكن الأحداث الأمنية الصعبة التي خاضها العراق - وما زال - مع تنظيم داعش الإرهابي خلال السنتين الماضيتين، واحتلال الأخير أراضي واسعة وتدميره البنية التحتية وتهجير السكان وترويعهم، ببعيدة عن تأثيراتها السلبية الخطيرة على واقع ومستقبل التعليم في البلاد، الذي زاده سوءا تدهور الظروف الاقتصادية والنقص الكبير في عدد المدارس والخدمات التربوية والتدريسية لاستيعاب الزيادة الحاصلة في السكان والتنقلات غير المنظمة بعد موجة النزوح الكبيرة، مما خلف مشكلات كبيرة وقع ثقلها على مستوى التعليم وتوجهاته أيضًا.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن المئات من الطلبة المسجلين اضطروا إلى التخلي عن مدارسهم بسبب موجة الاحتلال، ونزحوا إلى مناطق وسط وجنوب العراق، أو إلى محافظات إقليم كردستان، بينما عطلت الدراسة في سبع جامعات عراقية تقع تحت سيطرة «داعش» في محافظات نينوى وتكريت ومحافظة صلاح الدين، وجامعتي الأنبار والفلوجة.
وطفت على السطح مشكلة مدارس المناطق الساخنة والواقعة خارج سلطة الدولة، الأمر الذي سبب فوضى كبيرة وعدم قدرة المدارس في مناطق هجرتهم على استيعابهم، أو توفير متطلبات العملية التربوية لهم. ومع المحاولات المتواضعة التي تبذلها كل من وزارتي التربية والتعليم العالي العراقيتين لحل المشكلات، إلا أنها تصطدم عادة بضعف قدراتها على مواجهة الأزمات وموجة التقشف التي ضربت البلاد.
تقول المصادر التوثيقية لدى وزارة التربية العراقية، إن ملف الطلبة يعد من أصعب الملفات التي تواجه عملهم، وإن هناك المئات من النازحين في انتظار فرصهم في التعليم مقابل محاولات خجولة من الجهات الحكومية، لأجل تعويضهم ما فاتهم، وكذلك استمرارهم في مراحلهم التعليمية، وفي إيجاد مدارس بديلة وكادر تدريسي وتربوي مختص.
فقد أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية أنها تعد أساتذة وطلبة الجامعات في المناطق التي يسيطر عليها «داعش»، «في إجازة مفتوحة، إلى حين تحرير مناطقهم»، وأنها لن تمنح شهاداتها للطلبة الذين درسوا تحت سيطرة «داعش».. في حين تم اعتبار السنة الدراسية لطلبة تلك الجامعات لعام 2014 - 2015 سنة عدم رسوب وعدم نجاح في الوقت ذاته، أي تعطيل الدراسة لهم.
وقد أشارت مصادر إحصائية إلى أن مجموع الطلبة الدارسين في تلك الجامعات يبلغ أكثر من 116 ألف طالب وطالبة، بعضهم استطاع النزوح، وبعضهم الآخر اضطر - مرغمًا - إلى البقاء في المدن التي يسيطر عليها «داعش».
وعن آلية التعامل مع ملف الطلبة النازحين من وزارة التربية، قالت الوزارة عبر المتحدث الرسمي عنها: «لا يمكن تجاهل قول، إن ملف النازحين من أكثر الملفات صعوبة على الوزارة، فهناك الآلاف من النازحين الذين نزحوا من أكثر من محافظة، إلى ثلاث محافظات في الإقليم، وكذلك محافظات الوسط والجنوب، في حين أن الإمكانيات محدودة جدًا لاستيعابهم. لكننا مع ذلك قمنا باستقبالهم في عدد من المدارس، وافتتاح مدارس أخرى لهم، وقد اعتمدنا بداية الأمر تأجير الفنادق والبنايات والجملونات وتأجير الأراضي، أيضًا، وتأجير مدارس أهلية بأوقات دوام ثنائي وثلاثي، وأوصلنا الكتب والقرطاسية لهم خلال العام الماضي أو العام الجديد».
وكانت الوزارة قد أعلنت في وقت سابق أن العراق بحاجة إلى بناء عشرة آلاف مدرسة جديدة لتلبية حاجاته التربوية، بعدما تضرر كثير من منشآته التربوية جراء أعمال العنف في البلاد.
نازحون من بغداد وصلاح الدين ومدينة الموصل شكوا من صعوبة تسجيل أبنائهم في مدارس محافظة السليمانية الكردية بعد نزوحهم إليها، بسبب الزخم الحاصل فيها، مما أجبر بعضهم على تسجيل أبنائهم في مدارس كردية، لضمان استمرارهم في التعليم وعدم ضياع السنة الدراسية.
الأمر الذي حاول علاجه كل من وزارة التربية في حكومة إقليم كردستان والتربية الاتحادية، باللجوء إلى بناء كرفانات لحل أزمة الطلبة النازحين البالغ عددهم عشرة آلاف طالب وطالبة، وتدرس فيها مناهج الحكومة المركزية أو المناهج العربية في الإقليم، وتكون تكلفة إنشائها على نفقة الحكومة المركزية.
وبحسب المصادر الرسمية، فإن الإقليم يؤوي مليونًا ونصف المليون نازح، والذين توزعوا على مدنه الرئيسية والمخيمات التي تم تأسيسها بعد أحداث الموصل في العاشر من يونيو (حزيران) الماضي.
المتحدث الرسمي لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق، كاظم عمران، قال إن «الوزارة قامت بإجراءات عدة لأجل استيعاب أزمة النازحين في الدراسات الأولية والعليا، تركزت على استكمال الامتحانات النهائية للدور الأول، وإجراء امتحانات الدور الثاني للطلبة النازحين في جامعات المناطق الآمنة».
وأضاف أن «الإجراءات شملت، أيضًا، احتساب سنة عدم رسوب لجميع الطلبة للسنة الدراسية 2013 - 2014، وتأجيل دراسة الذين لم يتمكنوا من أداء الامتحانات لصعوبة الخروج من محافظاتهم، كذلك إعفاء الطلبة النازحين من أجور الدراسة المسائية في الجامعات كافة، وفتح باب تنسيب التدريسيين من جامعات الموصل ونينوى والحمدانية وتلعفر وتكريت والأنبار والفلوجة أو نقلهم إلى جامعات المناطق الآمنة، وإنشاء مواقع بديلة لهذه الجامعات في المناطق الآمنة».
لكنّ مراقبين يصفون تلك المبادرات بـ«الترقيعية»، كونها لم تستوعب حل كل مشكلات الطلبة الذين يعانون من التهجير ومن فقدانهم أوراقهم الرسمية، خصوصًا أن العراق يحتاج إلى بناء عشرة آلاف مدرسة جديدة لتلبية حاجاته التربوية، وإلى إعمار المدارس المتضررة بسبب الأحداث الأمنية واتخاذها مقرات للتنظيم الإرهابي داعش. والمثير أن المدارس الطينية لا تزال موجودة في بعض المحافظات الجنوبية. يقول محمد جمال، وهو تدريسي هرب من الموصل إلى بغداد بعد احتلالها من «داعش»: «المشكلة كبيرة بالنسبة للطلبة والمعلمين في المناطق المحتلة، فمعظم الطلبة عجزوا عن إيجاد مدارس بديلة تحتويهم أو حتى توفر الظروف الملائمة للانخراط في مدارس بديلة، لأن نصف عوائلهم ما زالوا داخل المناطق المحتلة». بينما تحدثت أم ياسر طويلاً عن المعاناة التي صادفتها لأجل تسجيل ولدها ابن الأعوام التسعة بعد أن رحلت عن محافظتها صلاح الدين، بسبب أن معظم المدارس في المناطق الآمنة استقبلت أعدادًا كبيرة منهم ولم تعد قادرة على استقبال مزيد. والحال مع مدارس العاصمة بغداد لا تختلف كثيرًا، إذ أضحت أزمة الأبنية المدرسية مشكلة تؤرق البنية التدريسية بلا أمل لعلاجها، وصار كثير من المدارس، خصوصًا في المناطق الشعبية المزدحمة بالسكان، يتبع نظام الدوام الثلاثي، أي يجري استقبال ثلاثة مدارس في اليوم الواحد، وبعضها يحصر طلبته في صفوف غير نظامية يزيد عدد الصف الواحد فيها على 70 طالبًا، في حين أن طاقته الاستيعابية فقط 30 طالبًا.
وفي أوقات الامتحانات، يلجأون إلى توزيع الطلاب في ساحة المدرسة لأداء الامتحان، وهم جالسون على الأرض.
أما بخصوص تحديث المناهج الدراسية لمواكبة التطور الحاصل في كل ميادين الحياة، فقد حصل أن خاض العراق مثله مثل كثير من الدول العربية تغييرًا في مناهجه الدراسية، وقد ظهر ذلك أولاً بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003.. لكنها لم تكن مدروسة، ووقع بعضها في فخ الطائفية عبر إضافات وتلميحات شكا منها التدريسيون وعزف بعضهم عن تدريسها للطالب، خصوصًا مناهج المراحل الابتدائية في مادتي التربية الإسلامية والتاريخ.
وبعد كل ما تعرض له قطاع التعليم في العراق، الذي تسبب في تسرب أعداد من الطلبة بغياب تطبيق فعلي لقانون إلزامية التعليم بعد عام 2003، صار هناك خطر من ظاهرة تفشي الأمية، حتى إن تقريرًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو)، صدر في سبتمبر (أيلول) 2010، كشف عن أن نسبة الأمية بين أطياف الشعب العراقي تقدر بنحو 20 في المائة، وأن النساء هن الأكثر تأثرًا، لا سيما في المناطق الريفية، وأن هنالك نحو مليون ومائتي طالب يتركون الدراسة كل ثلاث سنوات، بسبب ما وصفوه بضعف البنية التحتية للتعليم، والتدخل السياسي في الجامعات، وعدم وجود استراتيجية لقطاع التعليم العالي، مما ساعد على إبراز عوامل تبعث على «القلق الشديد» من تدني الواقع التعليمي في العراق.. فيما تحاول منظمات دولية أن تسد الثغرات التي حصلت، لكن مساعيها تعد ضئيلة أمام حجم المشكلة.
«الأمية» تهدد باجتياح {مهد الحضارات»
العراق: ضياع سنوات دراسية وتعطيل قانون إلزامية التعليم
مجموعة من طلاب المدارس في العراق.. حيث الفصول المكدسة وبعضها بلا مقاعد
«الأمية» تهدد باجتياح {مهد الحضارات»
مجموعة من طلاب المدارس في العراق.. حيث الفصول المكدسة وبعضها بلا مقاعد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
