«الجهاد الإسلامي» الفلسطينية.. السير وسط ألغام التناحرات الإقليمية

حاولت الحفاظ على مسافة واحدة من المختلفين لكن إيران وضعتها على المحك فخسرت الدعم المالي

شبان فلسطينيون يخضعون لدورة تدريبية في معسكر من تنظيم جماعة «الجهاد الإسلامي» في غزة (غيتي)
شبان فلسطينيون يخضعون لدورة تدريبية في معسكر من تنظيم جماعة «الجهاد الإسلامي» في غزة (غيتي)
TT

«الجهاد الإسلامي» الفلسطينية.. السير وسط ألغام التناحرات الإقليمية

شبان فلسطينيون يخضعون لدورة تدريبية في معسكر من تنظيم جماعة «الجهاد الإسلامي» في غزة (غيتي)
شبان فلسطينيون يخضعون لدورة تدريبية في معسكر من تنظيم جماعة «الجهاد الإسلامي» في غزة (غيتي)

بعد نحو 30 سنة على نشأة حركة «الجهاد الإسلامي» التي تعد واحدة من أبرز وأكبر 3 فصائل فلسطينية بعد حركتي فتح وحماس، تجد الحركة التي تستقطب الآلاف من الفلسطينيين ولديها جناح عسكري كبير، نفسها، في وسط أزمة مالية صعبة وخانقة وبلا مصادر تمويل بديلة أو حتى حلول في الآفاق. إذ لم تعتد الحركة خلال العقود الثلاثة الماضية على توقف أنبوب التمويل الذي كان يمتد من إيران إلى قطاع غزة، ما وضعها في موقف صعب أمام موظفيها وعناصرهم الذين لم يتلقوا سوى راتب شهر واحد من بين 6 شهور مستحقة، وهو ما يثير كثيرا من التساؤلات حول مستقبل الحركة في ظل المتغيرات الإقليمية الحالية التي باتت تخنق الحركات الفلسطينية التي لم تعط موقفا منحازا.

ربما كان اعتماد حركة «الجهاد الإسلامي» الفلسطينية على إيران فقط - أو أكثر من غيرها - بخلاف حركة حماس، أحد الأخطاء الذي تدفع الحركة ثمنه اليوم. إلا أن مصطفى إبراهيم، المحلّل السياسي والخبير في شؤون الحركات الفلسطينية والإسلامية، برّر هذه الاعتماد على إيران، بقوله: «هذه مشكلة الفلسطينيين عامة، ومن الصعب الحكم حول إن كانت الحركة أخطأت أم لا، فالثورة الفلسطينية في السابق وحتى الآن في موضوع تمويلها تقبع تحت ظل الواقع المعقّد إقليميًا وتخضع لحسابات التحالفات التي ترتبط بها. ولذا لم يكن هناك سبيل لـ(الجهاد) أو غيرها سوى إيران وسوريا اللتين قدمتا دعمًا سياسيًا. قضية الدعم كانت وما زالت معضلة تاريخية عانت منها الثورة سابقًا واليوم تعاني من الفصائل الإسلامية لأن مصادر التمويل شحيحة و(الجهاد) اضطرت للاعتماد على إيران إضافة إلى وجود رؤى سياسية مشتركة».
«الرؤى المشتركة»، التي يتحدث عنها إبراهيم، كانت حتى تفجّر الخلاف الشيعي - السنّي بشكل واضح لا يمكن تجاهله كما حدث في الأزمة السورية، حين وقفت فيها «الجهاد» بوضوح إلى جانب نظامي سوريا وإيران. ولكن مع بداية حرب التحالف العربي في اليمن ضد الحوثيين تغير كل شيء. فهنا لم تستطع «الجهاد» الخروج عن القاعدة السنّية التي تنتمي لها، فقطعت إيران التمويل مباشرة عن الحركة بعد رفضها إعلان موقف سياسي مناصر للحوثيين في اليمن أو مندّد بالتحالف، وتفاقم الأمر بعد رفض الحركة اتخاذ أي موقف بشأن الأزمة الإيرانية - السعودية الأخيرة.
مصادر قالت لـ«الشرق الأوسط» إن الإيرانيين بعد موقفي كل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحركة حماس، اللذين أيدا «الشرعية» في اليمن، كانوا يتطلعون إلى موقف فلسطيني مناهض لحملة «عاصفة الحزم» ضد الحوثيين، وطلبوا من «الجهاد» تصدير موقف بذلك مشابه لموقف حزب الله اللبناني، لكن «الجهاد» رفضت. ثم ازداد الطين بلة مع خروج مسؤول من «الجهاد» ونفيه ما نشرته وسائل إعلام إيرانية عن أن الحركة تؤيد الحوثيين، مؤكدا بشدة عدم التدخل في شؤون أي بلد عربي. إذ فاجأ موقف قيادة «الجهاد» هذا الإيرانيين الذين كانوا يعتقدون أنه يمكن للحركة أن تقف إلى جانبها في كل شيء، على غرار الموقف الذي اتخذته الحركة من الأزمة السورية.
كما سبقت الإشارة، اتخذت حركة «الجهاد الإسلامي»، بخلاف حماس، موقفًا مساندًا لنظام بشار الأسد ورفضت مهاجمته أو إعلان تأييدها للثورة السورية، كما فعلت حماس. ويذكر أنه بعد رفض «الجهاد» تأييد إيران في خلافاتها مع السعودية واليمن اتخذت حماس موقفًا مماثلاً خلال الأيام الأخيرة. فلقد حسمت حركة حماس موقفها نهائيًا من عرض إيراني على الحركة تضمّن تطبيع العلاقات ودعمًا ماليًا مقابل دعم الحركة للموقف الإيراني في مواجهة المملكة العربية السعودية، وقررت رفضه. وقالت مصادر في حماس لـ«الشرق الأوسط» إن خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي للحركة «هو الذي رفض العرض الإيراني، وهو يرفض كذلك التقرب من إيران في ظل الظروف الحالية خشية أن يفسّر أي تقارب كأنه دعم لإيران في أزمتها ضد السعودية أو في ملفات أخرى في سوريا وغيرها».
على أي حال، رفضت حماس القيام بأي دعم علني لإيران على الرغم من الأزمة المالية الكبيرة التي تمر بها الحركة، والتي وصلت إلى حد فرض اقتطاعات كبيرة على رواتب موظفيها وعناصرها في قطاع غزة. لكن أزمة حماس تظل مختلفة عن أزمة «الجهاد الإسلامي»، إذ تحصل حماس على دعم مختلف من عدة مصدر منها قطر وتركيا، وكذلك من مؤسسات إسلامية كبيرة محسوبة على الإخوان المسلمين أو السنة.
أما على صعيد علاقة حماس بـ«الجهاد» فإنها الآن علاقة جيدة إلى حد كبير، وإن كانت مرّت بكثير من المد والجزر وتخللها خلافات، بل وحتى اشتباكات مسلحة؛ إذ تحاول الحركتان، اللتان تعتبران من أبرز معارضي السلطة الفلسطينية، الحفاظ على مستوى تنسيق عالٍ ووحدة موقف داخلي، على الأقل، بعدما لم تتوحد مواقفهم من الخارج. وفشلت محاولة جدية للاندماج بين الحركتين في 2009 بعد مشاورات طويلة.
للعلم، كانت الحركتان قد ناقشتا بجدية مسألة توحيد مؤسسات الحركتين، وتشكيل هيئة قيادية موحدة مختصة في الشأن السياسي لتوحيد مواقف الحركتين، يتبعها انضمام عناصر «الجهاد» إلى الوزارات المدنية التي تديرها حماس، وتفريغ مسلحيها إذا شاءوا في الأجهزة الأمنية، لكن تباعد الرؤى حال دون الاتفاقات. ويومذاك، لم تتأثر «الجهاد» كثيرًا بذلك، خصوصًا، أن الدعم المالي الإيراني كان متواصلاً على الحركتين.
ولكن «الجهاد» اليوم تعيش أزمة حقيقية من دون دعم إيراني ومن دون اندماج مع حماس ومن دون أن تكون محسوبة أو قريبة على السلطة الفلسطينية، ومن دون علاقات قوية مع قطر وتركيا (أي مصادر التمويل المتعددة التي تدفع اليوم للفصائل الفلسطينية). ويثير هذا الواقع تساؤلات كثيرة حول مستقبل الحركة، وإذا ما كانت مهدّدة مع توسّع الخلافات الإقليمية.
إبراهيم يقول إنه لا يتوقع قطيعة طويلة من إيران للحركات السنّية في فلسطين، مضيفا «هناك تحالف ودعم كبير من إيران، وهي لم تغيّر من سياساتها تجاه الحركات السنية في فلسطين، لذا من الصعب الحديث عن أن (الجهاد) ستذوب أو تتأثر في ظل المتغيرات الإقليمية الأزمة المالية الحادة». وتابع «الجهاد الإسلامي تنظيم لديه حضوره واتصالاته، وكما قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي إيزنكوت: إيران لن تتخلى عن منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا حزب الله وفي غزة حماس والجهاد». ويرى إبراهيم «أن لإيران مصالح مع الحركات السنية في فلسطين».
إيران في الحقيقة بحثت طويلاً عن موطئ قدم في فلسطين، ويتضح اليوم أنها كانت تريد فصائل تابعة لها في المواقف السياسية. وتشير متابعات «الشرق الأوسط» فعلاً إلى أن القيادة في طهران فعلا لا تنوي التخلي عن الساحة الفلسطينية، على الرغم من وقف تمويلها لـ«الجهاد» وحماس. كما تقول مصادر فلسطينية مطلعة إن إيران ما زالت تموّل جماعات فلسطينية صغيرة في قطاع غزة والضفة، إما بشكل مباشر وإما عبر تنظيم حزب الله. وأكدت المصادر أن إيران ساعدت على تأسيس حركة «الصابرين» في قطاع غزة التي يعتقد على نطاق واسع أنها تنظيم متشيِّع. ويمكن القول إن الحركة الجديدة - أي «الصابرين» - نجحت في استقطاب عناصر مختلفة وأغدقت الأموال على محتاجيها وشكّلت جناحًا عسكريًا خلال وقت قصير بنتيجة الدعم المالي الإيراني.
الواقع أن حركة «الصابرين»، التي أسّسها أحد عناصر «الجهاد» سابقًا، كانت من أسباب الخلاف بين إيران و«الجهاد»، ولا سيما عندما بدأت سلطات طهران تخفّض الدعم عن «الجهاد» وتزيده للحركة الجديدة. ولا يبدو راهنًا في الأفق أي حل للأزمة التي تمر بها «الجهاد»، بل ويتوقع أن تتفاقم لدى حماس، وحالها حال منظمة التحرير الفلسطينية إبان حرب الخليج حين فقدت كثيرا من الدعم المالي لها، وحال السلطة الفلسطينية التي تتأزم ماليًا كذلك مع تراجع الدعم الخارجي.
ويقول مسؤولون فلسطينيون إنه ليس أمام الكل الفلسطيني إلا أن يتوحّد للوصول إلى دولة فلسطينية تكون مظلة الجميع.. وإلا فإن التشتت بشقيه الإنساني والمالي سيستمر إلى ما لانهاية ويهدد استمرار أو قوة الفلسطينيين فصائل منفردة وسلطة وشعبا.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.