الهوية «الجهادية» للنظام الإيراني

من البيعة إلى تصدير الثورة

اية الله الخميني مؤسس الجمهورية الاسلامية  الايرانية الراحل أثناء إلقاء خطبة أمام رجال دين وقوات الحرس الثوري في طهران عام 1982 (غيتي)
اية الله الخميني مؤسس الجمهورية الاسلامية الايرانية الراحل أثناء إلقاء خطبة أمام رجال دين وقوات الحرس الثوري في طهران عام 1982 (غيتي)
TT

الهوية «الجهادية» للنظام الإيراني

اية الله الخميني مؤسس الجمهورية الاسلامية  الايرانية الراحل أثناء إلقاء خطبة أمام رجال دين وقوات الحرس الثوري في طهران عام 1982 (غيتي)
اية الله الخميني مؤسس الجمهورية الاسلامية الايرانية الراحل أثناء إلقاء خطبة أمام رجال دين وقوات الحرس الثوري في طهران عام 1982 (غيتي)

لن تصح قراءة النظام الإيراني، خطابا وممارسة، دون استحضار هويته الحاكمة كـ«نظام ثوري إسلامي»، يتماهى ويلهم الجماعات المتطرفة والاحتجاجية الدينية ويلتقي معها، ويحركها كما تحركه مفاهيم الخلافة والإمامة واستعادتها، كما تحفزه شعارات المقاومة العالمية ومبادئ الولاء والبراء، ومنطق الصحة والأحادية والرسالية، وممارسات التوسع وتصدير الثورة والدعوة وما شابه. وهذا الخطاب «الأصولي» والممارسة المتطرفة قد «تلطفهما» قليلا مساحيق الدبلوماسية والالتزام بالاتفاقات.
فضلا عن خطأ بعض المراقبين والخبراء الغربيين عن حصرهم مفهوم «الجهاد» في الطائفة السنية فقط! أو «الأصولية» في إطارها، يكشف ويجيب استجلاء الهوية «الجهادية» والآيديولوجية لنظام الولي الفقيه عن عدد كبير من الأسئلة. أهم هذه الأسئلة احتفاظه المستمر بعلاقات وطيدة مع كل الحركات «الأصولية» في المنطقة، وتأييدها له في كثير من ممارساته، التي كان آخرها الخلاف السعودي الإيراني بعد اقتحام السفارة وإعدام نمر النمر. هنا لاحظنا انحراف بعض الجماعات «السنية»، منها جماعات في لبنان مؤيدة للموقف الإيراني، وكذلك «حركة الصابرين» المنشقة عن حركة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين.
تكشف سيرة وخطاب مرشد الثورة الإيرانية آية الله الخميني عن إعجابه الشديد وتقديره لعلماء السنة الأتراك الذين واجهوا ثورة مصطفى كمال أتاتورك، وتأثره بكتابات الإسلام السياسي الباكرة عند حسن البنا وسيد قطب. كما تكشف ممارسات البيعة ورسالية تصدير الثورة عن نفس الهم «الأصولي الجهادي»، ويفسر ذلك العلاقات الجيدة التي احتفظت بها إيران مع مختلف «الإسلاميين» من «إسلام سياسي» حتى «القاعدة»، ودعمها ورعايتها لإنشاء أحزاب وأنصار الله وفروع جماعتها حيث وجدت موطئ قدم.
في أيامنا هذه، وعلى الساحات التواصلية، صار السباب الداعشي لعناصر «القاعدة» أنهم «أبناء إيران»، كما قال «أبو محمد العدناني» في خطاب مفاصلته لـ«القاعدة» و«أميرها» أيمن الظواهري «عذرا أمير القاعدة»، الذي بث في 12 مايو (أيار) 2014، وفيه التزام «داعش» بعدم استهداف إيران تبع أوامره، لكن التنظيم لم يلتزم أوامره في عدم استهداف عوام الشيعة: «لو كنا مبايعين لك لامتثلنا أمرك حتى لو كنا نخالفك الحكم عليهم. هكذا تعلمنا في السمع والطاعة. ولو كنت أمير الدولة لألزمتها بك ولعزلت من خالفك، بينما التزمنا طلبكم بعدم استهدافهم في إيران وغيرها». وهكذا يكتب كتاب «داعش» ضد منظّري «القاعدة» وأمثالها هذا التصريح لا التلويح.. بأنهم أبناء إيران.
إن الهوية «الأصولية» السياسية والمتطرفة التي تؤمن بالأمة قبل الدولة والمجتمع، وبالصراع مع العالم انتصارا وانتشارا، تمثل الأساس الفاعل في أداء ورؤية النظام الإيراني، ومشاكله في المنطقة والعالم، وإن أصابها تشوّش فهو ناتج عن كونها الحركة «الأصولية» الأولى والرائدة التي نجحت في تأسيس دولة قبل بها العالم، عكس دولة «داعش» وإمامها التي تتماهى معها في كثير من المفاهيم والأداء والنظم.
اكتشاف الهوية والمنطق الكامن في السلوك الإيراني يفض التشوّش الحادث من مراوغات الخطاب لدى الكثيرين، حين نجد شجبا إيرانيا للإرهاب، الذي تصم به كل من يواجه بقوة مشروعها، وإن كان معارضة معتدلة تواجه الأسد، بينما ترسل هي حتى تاريخه ما يقرب من مائتي ألف مقاتل طائفي لدعم بقايا نظامه، من ميليشيات ترفع ألوية كحزب الله و«فاطميين» و«الهزارة» وغيرها. كذلك فإنها تصف أي تدخل بالعدوان، ما دام لا يوافق هواها، كما كان الموقف من التحالف الدولي ضد «داعش» أو التحالف العربي ضد الانقلاب الحوثي، بينما تبرّر لتدخلها وتفاخر به ويذكره حلفاؤها، ففي يناير (كانون الثاني) الحالي صرح بشار الأسد بأنه لولا الدور الإيراني ما ظل صامدا! أو التدخل الروسي الذي تم بالتنسيق معها، أو تدخلها هي الممتد في العراق عسكريا وسياسيا.
إنها حركة «أصولية» بسمات وهوية دولة على مستوى الخارج، كما تعطي لداخلها سمات الدولة والانتخابات ولكن وفق ثوابتها كآيديولوجيا وكجماعة شمولية صلبة لا تقبل التغيير أو الاعتراض.
وسنحاول توضيح أبرز ملامح هذه الهوية «الأصولية» والمتطرفة، في ما يلي:
أولا - أساس البيعة وإمامة الولي الفقيه:
«إن البيعة مع الثورة والإمام الخميني هي بيعة مع النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم».. هكذا جاء تصريح مرشد الثورة الإيرانية وإمامها آية الله خامنئي أثناء استقباله للآلاف من سكان مدينة قم في التاسع من يناير الحالي، حسبما جاء في وكالة «إيرنا» الوكالة الرسمية الإيرانية. جاء حديث البيعة الخامنئية - التي يشبّهها ببيعة النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) - أثناء دعوته للمشاركة في الانتخابات التشريعية - مجلس الشورى - التي تتزامن أيضا مع انتخابات مجلس الخبراء مطلع فبراير (شباط) المقبل، والتي استبعد منها 2970 مرشحا إصلاحيا من قبل مجلس الخبراء، لا لذنب أو تهمة غير مخالفتهم للدستور بمعارضتهم للولي الفقيه ونظامه.
إن البيعة للولي الفقيه، ذات الدلالة الدينية، حسب الخميني هي معيار أي عمل سياسي، بل تمثل هوية هذا النظام وأساسه الدستوري المتين، الذي لا يجوز الاعتراض عليه أو التعقيب على أحكامه ورؤاه، من هنا أزيح آية الله منتظري عن خلافة الخميني وعن مناصبه بعد اعتراضاته على إعدامات عامي 1988 و1989 أو مأساة الإصلاحيين في «الحركة الخضراء» عام 2009 لمجرد مطالبتهم بإعادة النظر في سلطات الولي الفقيه وصلاحياته رغم إيمانهم به وتبعيتهم له، ولا يزال مير حسين موسوي ومهدي كروبي رهن الإقامة الجبرية حتى تاريخه!
هكذا تدير البيعة المشهد السياسي الإيراني الداخلي - كما الخارجي - ففي حديثه المذكور يوم 9 يناير دعا خامنئي الجماهير المنصتة المستسلمة له لعدم التصويت إلا لمن يؤمن بالبيعة للثورة والولي الفقيه، قائلا لهم: «علینا أن ننتخب بشكل صحیح، وإذا كان هناك من یقدم قائمة انتخابیة تضم مرشحین متدینین ومؤمنین وثوریین ویسیرون علی نهج الإمام الخمیني (رهـ) فعلینا أن نثق بما یقولون ونصوت لهم، وإذا رأینا أنهم لا یهتمون كثيرا بقضایا الثورة والدین واستقلال البلاد، ویتابعون ما تقوله أمیرکا وغیر أمیرکا، فلا ینبغی أن نثق بما یقولونه».
ثانيا - خلافة شبه معصومة:
البيعة هنا كما المرشد ليست مجرد مترادفات تعبيرية في قاموس الثورة الإيرانية وغيرها من الحركات الاحتجاجية الإسلامية، بل مفاهيم شغالة ومتطابقة تماما، سنيها وشيعيها على السواء، وتمثل ركيزة التنظيم وبنيته الحاكمة، التي لا يجوز الاعتراض عليها أو مخالفتها سواء كان الشأن خارجيا أو داخليا على السواء، كما أن الثورة والتوسع و«الجهاد» من أجل ذلك، وفق منطلقات عقدية، تمثل قاسما مشتركا جامعا بين النظام الحاكم في إيران وبين مختلف هذه الجماعات.
وتبدو صفات الولي الفقيه وصلاحياته صفات وصلاحيات خليفة أو نبي، فحسب المادة الخامسة من الدستور الإيراني هو «أعدل وأعلم وأتقى رجل في الأمة»، وهو من يدير شؤون البلاد وفق ما جاء في المادة (107)، وتتوسع صلاحياته لأوسع من صلاحيات الشاه أو أي ملك كما لاحظ الإصلاحيون عام 2009، فتشمل مسؤولية القائد العام للقوات المسلحة، وإعلان الحرب، والتعيين والعزل من المناصب الآتية:
1) نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور البالغ عدد أعضائه 12 عضوا.
2) رئيس السلطة القضائية.
3) رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون.
4) القائد الأعلى لقوات الحرس الثوري الذي يتبعه رسميا.
5) القيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن.
وفرض الخميني وخليفته خامنئي مع هذه الصلاحيات الواسعة هيمنته على مجلس الشورى وعلى رئاسة الجمهورية، فأقال أبو الحسن بني صدر رئيس الجمهورية الأول عام 1981 عندما تمرد على تعليماته، ووجه رسالة شديدة اللهجة إلى الرئيس (المرشد الحالي) علي خامنئي عام 1988 عندما اعترض على بعض ممارساته حين أجاز قانون العمل بعد أن عارضه مجلس صيانة الدستور.
ثالثا - تصدير الثورة الإسلامية:
سأل صحافي لبناني الخميني في 13 ديسمبر (كانون الأول) 1978، قبل الثورة بقليل: ألا تعتقدون أن دائرة الأحداث الإيرانية ستمتدّ إلى تركيا أيضا؟ فأجابه الخميني قائلا: «النهضة الإيرانية المقدسة نهضة إسلامية، لذا من الطبيعي أن يتفاعل معها جميع مسلمي العالم». ويقول في الذكرى الأولى للثورة الإسلامية في 11 فبراير 1980: «إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم، لأنها ثورة إسلامية، فما دامت صرخة (الشهادتين) لا تدوي في أنحاء المعمورة فالصراع موجود، وحيث وجد الصراع ضد المستكبرين في أي نقطة في العالم فنحن موجودون» (من كتاب تصدير الثورة كما يراه الخميني - مؤسسة تنظيم ونشر تراث الخميني الدولية.. من دون تاريخ). إن هذا النزوع الرسالي للصراع والسيادة خارج حدود الأوطان عبر مبدأ تصدير الثورة وعبر الصراع مع المستكبرين والشيطان الأكبر تتطابق فيه هوية النظام الإيراني مع الجماعات الأصولية تماما، ويفسر التدخلات الإيرانية المنحازة دائما لحلفائها في كل مكان، حتى هتف هاتفها في 22 سبتمبر (أيلول) سنة 2014 عقب سقوط صنعاء في يد الحوثيين بأنها غدت تسيطر على أربع عواصم عربية. من هنا تكررت عبارة «الشيطان الأكبر» في عشرة مجلدات هي مجموع ما كتب إمام الثورة الإيرانية ومرشدها آية الخميني 30 ألف مرة، وتكررت عبارة «لا شرقية ولا غربية» 20 ألف مرة، وتعبير دم الشهداء 50 ألف مرة! ونجد التقارب الأميركي الإيراني، ونجد الدماء و«الشهداء» يسقطون على مذبح تصدير الثورة والتوسع والتمدّد الإيراني.. الذي يستتبع بعض فقهائه سوريا حماية للأسد كمحافظة إيرانية جديدة، أو يدين بالولاء لدولتها حزب سياسي لا يرى اعتبارا أو التزاما بسياسة تفرضها دولته في لبنان!
إنها هوية «أصولية» معاصرة، تلاقى مع إيران كثير من ممثليها، أو هوية دولة ما قبل حديثة لا ترى الحدود سيادة أو التدخل والتوسع حرمة. من هنا اختلط الحديث عن الانتخابات المقبلة ببيعة الولي الفقيه، والعكس.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.