في المعرض الدولي للأثاث.. البيوت تنزع نحو الشفافية... والنساء يقررن تصاميمها

جدران متحركة وسجادة تميز بين الإنسان والحيوان

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

في المعرض الدولي للأثاث.. البيوت تنزع نحو الشفافية... والنساء يقررن تصاميمها

جانب من المعرض
جانب من المعرض

قال الشاعر الألماني يوهان غوتفريد هيردر، من القرن الثامن عشر، إن «الناس تبني وتسكن كما تفكر وتعيش». ويبدو أن هذه الحقيقة ما زالت تشكل نزوع البشر في السكن والتأثيث لما بعد الألفية الثالثة. فتصاميم البيوت الداخلية، وتصاميم قطع الأثاث في «معرض الأثاث الدولي 2016 في كولون»، تعكس بالفعل كيف يفكر البشر وكيف يعيشون.
وشاركت في المعرض هذا العام 1200 شركة من 50 دولة عرضت تصاميمها وأفكارها على مساحة كبيرة قدرتها إدارة المعرض بـ270 ألف متر مربع. وينتظر أن يصل عدد زوار المعرض المنعقد حاليا إلى أكثر من 120 ألفًا، إضافة إلى أكثر من 3 آلاف صحافي يغطون أحداثه. وفضلاً عن العروض داخل قاعات المعرض، على الجهة اليمنى من نهر الراين، فتحت دور الموبيليا أبوابها على آخر الموديلات السائدة في عالم الأثاث.
تحدثت أورسولا غايزمان، من اتحاد منتجي الأثاث الألمان، في افتتاح المعرض عن إحصائية للأمم المتحدة تتوقع أن يعيش أكثر من نصف البشر على كوكب الأرض في المدن، وفي المدن الكبيرة على وجه الخصوص، في عام 2050. واعتبرت النزوح من القرى إلى الحواضر نزوعًا يفرض على البشر في المدن تقليص مساحات بيوتهم، والنزوع للبناء الشاقولي. وقالت إن بيوت عالم الغد ستكون أصغر لكنها مبعث راحة أكبر، وستكون قطع الأثاث فيها أكثر بيئية وأخف وأقوى.
وكان مشروعا «بيت المستقبل» و«البيت» الذكي أكثر العروض جذبًا للزوار والصحافيين بالنظر إلى التصاميم الجميلة التي تعكس كافة نزعات عالم المستقبل في مجال الأثاث. وصمم المهندس الألماني سيباستيان هيركنر بيت المستقبل بشكل دائري ومن الزجاج الخاص معبرًا بذلك عن «الشفافية»، التي قالت إدارة المعرض إنها ستكون نزعة سائدة في بيوت عالم الغد.
* البيت الدائري الشفاف
تم بناء البيت على مساحة 240 مترًا ومن الزجاج المضبب حيثما احتاج إنسان المستقبل ذلك، أي في غرفة النوم والحمام. أما بقية أجزاء البيت، وخصوصًا غرفة المعيشة فهي من الزجاج الشفاف. وكانت الجدران الداخلية من زجاج أرق، رقيقة ومتحركة، كي تعين الإنسان في تغيير مساحات الغرف والصالات كما يشتهي. واستخدم هيركنر أنابيب تمتد من السقف، وتحتوي على مواشير ضوئية، لتوفير الضوء الطبيعي إلى المكانات المعتمة.
وعدا عن الحديقة الخارجية زود المهندس البيت الدائري بحديقة داخلية ذات سقف زجاجي متحرك. وعن هذه النزعة يقول المهندس إن إنسان المستقبل، ومن أجل راحته التامة، ينوي نقل أجواء السياحة إلى داخل مسكنه. ويمكنه في الحديقة الداخلية التلاعب بدرجة الحرارة والإضاءة كي يشعر بأنه على شاطئ رملي دافئ.
ويقول هيركنر إن الشكل الدائري يعكس نزوع الإنسان نحو الانفتاح والتحرر من القيود، في حين أن الشفافية تزداد أهمية في وعي إنسان المستقبل. ثم إن الشكل الدائري يعني مساحة أكبر وانعدام الزوايا القائمة، لأن بيوت المستقبل ستكون أصغر مساحة منها الآن.
* البيت الذكي
قال 46 في المائة من الألمان، في استطلاع للرأي لاتحاد صانعي ورق الجدران الألمان، إن الحصول على بيت من ملكهم يتمتع بأهمية خاصة لهم. وكانت هذه النسبة لا تزيد على 36 في المائة قبل عشر سنوات، وهذا تعبير عن زيادة أهمية البيت بالنسبة للإنسان.
وتولى الفنانان ماريون وكريستوف فلوتوتو (من شركة غوترسلو) تصميم البيت الذكي على مساحة لا تزيد على 73 مترًا. وعكس الفنانان في البيت كل نزعات المعيشة والتأثيث في عالم اليوم والمستقبل القريب. والبيت الذكي مبني من الداخل بجدران متحركة أيضًا، بل إن كل شيء فيه متحرك ومتعدد الوظائف وخفيف. كل شيء في المطبخ يمكن تشغيله والتحكم به عن بعد وبواسطة تطبيقات تنهض بها أجهزة السمارت فون أو الألواح الإلكترونية. تتعرف السجادة على الإنسان الذي يقف عليها وتطلق إنذارا حينما يطأها لص أو غريب. وأرضيات البيت المختلفة، سواء من الخشب أو السجاد، تميز بين الإنسان والحيوان المنزلي.
والنساء يتحكمن ويقررن تصاميم البيوت مستقبلاً، لأنه على الرغم من تحرر المرأة الكبير، فإنها تقضي في المطبخ وقتًا أكبر من الرجل. وتعبيرًا عن تحررها من المطبخ تفرض المرأة اندماج المطبخ بالصالة وغرفة الطعام، كما تفرض الاندماج التدريجي بين الحمام والتواليت.
وطبيعي فإن اندماج المطبخ بغرفة الاستقبال يتطلب الكثير من اللمسات التي تطيب للنظر ولا تقلق بال الضيف بالروائح. فدواليب المطبخ خشبية تختفي الإضاءة داخلها، الطباخ يغوص في المنضدة بلمسة زر، وتنفتح أرضية الدولاب بلمسة أخرى لتظهر منها مدفأة غازية جميلة. يمكن خفض منضدة الطعام بواسطة لوالب لتناسب المقاعد «المتحولة»، والتلفزيون مفلطح ومعلق على دواليب المطبخ والستيريو مخبأ داخل دولاب مضيء. قطع الأثاث أصغر، ولكن أكثر راحة ويهيمن عليها الخشب والأرجل المعدنية. وهي بأكملها قطع أثاث خفيفة ومتعددة الوظائف ومتحركة، فالرفوف تتحرك على عجلات وصارت تركيبية، بمعنى إمكانية الإنسان زيادة أو تقليص طولها بحسب ارتفاع سقف بيته. مائدة الطعام مدمجة مع طاولة المكتب، ويختفي الكومبيوتر وبقية الأجهزة داخلها. وعموما نجد أن مختلف الأجهزة الإلكترونية الحديثة مدمجة بقطع الأثاث بهدف منح الأثاث صفة «الوظيفية».
والتلفزيون وصل إلى التواليت في بيت المستقبل، وعبارة عن شاشة مفلطحة تفيد أيضًا كمرآة في ذات الوقت. والتواليت مصنوع من سيراميك خاص لا تقف عليه الأوساخ، كما تفعل ورقة اللوتس التي لا تتسخ. غرفة الطفل تقلصت أيضًا، وتخلص البيت الذكي من قطع الأثاث الزائدة كي يحول الغرفة إلى مجال راحة وتعليم. وسرير الطفل مريح وينمو بالطول والعرض مع نمو حجم الطفل، ثم إن ورق الجدران صالح للتدفئة بفضل شبكة أسلاك كهربائية فيه.
واستخدم الفنانان في البيت الذكي غرفة ساونا من إنتاج شركة «كلافز» الألمانية تصلح للنصب في أي غرفة. لا يزيد حجم هذه الغرفة على حجم دولاب ملابس ذي أربعة أبواب، لكنها مصممة مثل التيليسكوب من ثلاثة دواليب متداخلة، ويمكن سحبها إلى الخارج لتصبح غرفة من مساحة مترين في مترين.
* الكلاسيكي المعاصر
«الحنين للماضي» من أهم نزعات الأثاث في عام 2016، ولكنها لا تعني التخلص من الحداثة والعودة إلى الظلام. إذ عرضت معظم الشركات المساهمة في المعرض قطع أثاث ذات تصاميم تشبه قطع الأثاث في العصر الفيكتوري، أو في خمسينات القرن العشرين، لكنها تتصف بكافة مواصفات قطع الأثاث الحديثة. فهي من الخشب البني الغامق القديم، أو من الخشب الطبيعي، لكنها متحركة وخفيفة ومتينة ومتعددة الوظائف أيضًا.خلع المعرض على هذا النزوع لقب «الكلاسيكي المعاصر» وشمل أيضًا مصابيح الإضاءة وورق الجدران. وأثثت شركة «كنول» الألمانية بيتًا كاملاً على طريقة «حداثة القرون الوسطى»، وكانت تصاميم الأثاث أنيقة، وأنتيكة، وحداثية في آن واحد.
ويمكن تلخيص النزعات الكبرى في عالم الأثاث خلال السنوات العشر الماضية على أنها: بيوت أصغر، بيوت شفافة وشاقولية، قطع أثاث متعددة الوظائف وتركيبية، بيوت وقطع أثاث تراعي الصحة أكثر، وتراعي البيئة، كما أنها أكثر عزلاً للطاقة، وذات إضاءة طبيعية أو شبه طبيعية. وقطع الأثاث عمومًا أكثر راحة (المقاعد والكنبات والأسرة). ومن ناحية الأنسجة فإنها ستكون طبيعية وبيئية، لكنها متينة ولا تتسخ أو تتمزق بسهولة.
من الناحية الاقتصادية حقق قطاع إنتاج الأثاث على المستوى العالمي، وبعد سنوات صعبة ماضية، مداخيل أكثر بنسبة 5 في المائة في عام 2015. وكانت الصين رائدة في مجال صناعة وتصدير الأثاث تليها الولايات المتحدة، ثم ألمانيا، وتليها إيطاليا في المرتبة الرابعة عالميًا. ويخصص الألماني نحو 500 يورو في السنة كمعدل لشراء الأثاث الجديد، وهي نسبة تدعو للتفاؤل، بحسب أورسولا غايزمان من اتحاد منتجي الأثاث الألمان.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)