الدرب الآمن للعلمية من الرياضيات إلى العلوم الإنسانية

لا تتأثر بالانتماء أو الجذور ويدرسها الجميع.. وتحقق النموذج الأمثل للحياد

الدرب الآمن للعلمية من الرياضيات إلى العلوم الإنسانية
TT

الدرب الآمن للعلمية من الرياضيات إلى العلوم الإنسانية

الدرب الآمن للعلمية من الرياضيات إلى العلوم الإنسانية

تعد الرياضيات أول علم يستحق لقب علم، لأنه استوفى شروط العلمية وأهمها الدقة والموضوعية. وقد جرى ذلك في وقت مبكر جدا، يمكن حصره في بداية القرن السادس قبل الميلاد، مع فيثاغورس أو قبل ذلك مع الحضارة المصرية والبابلية، فبرهنته المشهورة، والقائلة إن مربع وتر مثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين المقابلين، دقيقة في نتائجها ويجمع عليها الكل، ولا يمكن الاختلاف حولها. فهي موضوعية ولا تعتريها الذاتية، بمعنى أنها تتحلى بالحياد القيمي، وتبعد كل شوائب الذات (الوجدانية والعاطفية والفلسفية والدينية وغيرها). إذ لا يمكن القول مثلا: إن حساب المتتاليات، أو حساب التفاضل، هو إسلامي أو يهودي أو بوذي، أو أي دين آخر، فهو لا دين له، إذ من السهل مثلا، على كل مسلم أن يدرس الرياضيات للمسيحيين أو العكس صحيح. فالرياضيات لا تتأثر بالانتماء أو الجذور، وكأنها متعالية على كل اختلافات الناس العاطفية، لهذا فهي تحقق النموذج الأمثل للحياد وعدم الانحياز.
إن الرياضيات صارمة وجافة إلى حد النفور أحيانا، حيث يغيب فيها الوجدان، ما يجعل منها ملكة للعلوم. فهي تتربع على عرشها، وكل مبحث يريد أن يلتحق بنادي العلمية، أو يركب موجتها ويسير في دربها الأمن، ما عليه إلا أن يتخذ من الرياضيات قبلة، ويحذو حذوها، أي عليه أن يحقق شرطي العلمية وهما: الدقة والموضوعية.
وإذا ما تتبعنا مسار نشأة العلوم، وقفزنا إلى القرن السابع عشر الميلادي، سنجد أن الكثير من المباحث قد سارت في الدرب الأمن للعلمية، وذلك بتقليدها الرياضيات. فمثلا، إذا ما أخذنا مبحث الفيزياء، وهو يدرس المادة الجامدة، سنجده قد التحق بنادي العلمية لأنه أصبح يعبر عن الظواهر كميا وليس كيفيا. فعوض القول بأن الأرنب سريع، سنقول إنه سريع بمقدار 50 كلم/ س. وعوضا عن قول إنني أحس بالبرد، وهذا مجرد انطباع ذاتي، سأقول إن درجة الحرارة هي c°5، فتتحقق الموضوعية. فالجميع سيتفق عليها مهما كان الاختلاف بين الناس، فكريا، أو دينيا، أو طبقيا، أو اجتماعيا. وإذا قلنا إن المعدن يتمدد بالحرارة وينكمش بالبرودة، فهذه نتيجة لا أحد يمكن أن يقول عكسها، لأنها حقيقة تطابق الواقع وتعبر عنه بموضوعية، لذلك تفرض نفسها بقوة، سواء كان المرء مؤمنا أو ملحدا، متشائما أو متفائلا، أي مهما كانت قناعاته الآيديولوجية ومواقفه الفلسفية. إن المادة عاطلة وقاصرة وفاقدة للحرية. وهذا ما يعطي للعالم إمكانية دراستها، وهي خارجة ومستقلة عن ميوله وأهوائه ووجدانه، ما يزيد من ضمان النزاهة والحياد الذي يعد شرطا ضروريا لقيام معرفة علمية، تتسم بالموضوعية المطلوبة، التي تفرض الإجماع والاتفاق. وهنا نتذكر مؤسس الفيزياء الحديثة غاليليو، عندما قال: إن لغة العلم هي لغة الرياضيات.
أما إذا تحدثنا عن الكيمياء، فإننا سنجد علماءها يتحدثون عن المعادلات الكيميائية، ناهيك بأنهم مثلا، عوض أن يقولوا غاز الطبخ، يقولون إنه يتشكل من أربع كربونات وعشر هيدروجينات C4H10. فلغة الرياضيات طاغية، لأنها الضمانة الوحيدة لطرد الذاتية المشوهة للموضوع. أما في عالم الجيولوجيا، فالعلماء أصبحوا يحددون عمر طبقات الأرض بدقة ممتازة، بل يمكنهم أن يعرفوا حتى زمن الهياكل العظمية المكتشفة بطريقة الكربون 14 المشع. والأمر نفسه، يقال عن البيولوجيا التي تدرس المادة الحية، فهي أيضا، وخصوصا في القرن التاسع عشر قد التحقت بالعلمية إلى غير رجعة. وإذا ما أخذنا مجرد نموذج الطب، فإنه هو أيضًا، أصبح يتسم بالدقة والموضوعية. فمثلا إذا اتجه مريض عند الطبيب، وبعد الفحص، تولد انطباع لدى الطبيب بأن مريضه مصاب بالسكري، فإنه، لكي يحسم أمره، سيطلب من المريض إجراء تحليلات للدم، يعبر عنها بالأرقام. وإذا وجد عند قراءتها نسبة السكري مرتفعة، سنقول آنذاك، إن الأمر لم يعد ذاتيا، بل موضوعي. وأما إذا تحدثنا عن الصيدلة فإنها بدورها، قد سارت في درب الرياضيات نفسه أيضًا. فمثلا قد نعالج أنفسنا بالأعشاب، وقد يكون الأمر مجديا، نظرا للخبرة البشرية الضاربة في أعماق التاريخ. إلا أن الصيدلاني يفكك تلك الأعشاب إلى مكوناتها الكيميائية، ويحصل بالضبط على العنصر المسبب للشفاء. وبعد طول تجارب، يحاول تحديد الكميات بدقة عالية، إضافة إلى الآثار الجانبية التي يمكن أن تلحق بالمريض في بعض الحالات. وهنا يبرز الفرق الشاسع بين الخبرة العادية والتجريب العلمي.
وما دام أن هذه العلوم المذكورة والمسماة علوما حقة، وهي تدرس إما المادة الجامدة أو الحية، قد نجحت في تحقيق مطلب العلمية، الذي هو الدقة والموضوعية، فإنه لم يتبق إلا مباحث المادة الحرة أو الروحية كي تلتحق بدورها بركب العلمية. وهذا ما حدث بالضبط، في أواسط القرن التاسع عشر، حين بدأت مسيرة العلوم الإنسانية، وخصوصا علم النفس وعلم الاجتماع، التي سعت، بدورها، نحو تقليد الفيزياكيميائيين، والسير بالدراسات العلمية نحو قبلة التكميم، وخصوصا جانب الإحصاء والاحتمالات، على الرغم من أنها وجدت صعوبات كبيرة، لأنها تدرس كائنا حرا ومنفلتا غير عاطل، يكسر على الدوام السببية ويضيع على العالم فرصة الدقة المنشودة، إضافة إلى أنه إذا كان فصل الذات عن الموضوع هو ذروة الموضوعية، وذلك بإبعاد الدراسة عن كل شوائب الذات العاطفية والوجدانية والانتمائية، وإذا كان الحياد القيمي دليل الدقة والصرامة والنقل الحقيقي للواقع، فإن عالم الاجتماع مثلا، باعتباره باحثا في العلوم الإنسانية، لا يمكنه نهائيا، الانفصال عن مجتمعه الذي يدرسه. فالباحث لا بد أن يكون عضوا في الجماعة (طبقة اجتماعية نقابية، سياسية، مهنية). وهذا ما يجعله مؤطرا بخلفية وقناعات آيديولوجية ومواقف معينة، تزج به في صراعات صريحة أو ضمنية، واعية أو غير واعية، من أجل طلب الاعتراف أو الحظوة أو السلطة. فالباحث يدخل بكل ثقله المعياري والقيمي ونماذجه المثالية في عملية البحث، بحيث لا يمكنه أن ينعزل ويتخذ حيادا نهائيا حتى ولو رغب في ذلك.
عموما، إذا كان العالم الفيزيائي لا يحتاج مثلا، في فهمه للذرة إلى الإحساس بها، أو أن يكون مثلها، حيث إن الذرة بمكوناتها لا تسبب له أي تأثيرات أو ردود فعل وجدانية (الذرة لا حزب لها، ولا نقابة، ولا طبقة اجتماعية تنتمي إليها)، فإن الباحث في العلوم الإنسانية، لكي يتمكن من الغوص والنفاذ إلى التجربة الفردية الجماعية، ملزم بالانخراط والمشاركة فيها، وهو الأمر الذي يجعل علميته ناقصة.
إذن، وكخلاصة تجمع ما قيل أعلاه، نجد أن العلمية تزداد كلما قلت الحرية في المادة المدروسة، وتقل كلما ازدادت الحرية. فمباشرة حجرة تسقط ليس كمباشرة جسد حي، وليس كمباشرة نفس الإنسان. فهناك تراتبية في درجة العلمية. لكن تبقى كل المباحث تتوق نحو تحقيق مطلب العلمية، طمعا في تحقيق الحد الأدنى من الاتفاق.



نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان
TT

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى، لا نجد ما يماثله في الحواضر المجاورة لها. خرج هذا النتاج من الظلمة إلى النور خلال العقود الأخيرة، وتمثّل في مجموعة كبيرة من شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية، عُثر عليها في سلسلة من المدافن الأثرية، أبرزها مقبرة الشاخورة. تعكس الشواهد التي خرجت من هذه المقبرة التعدّدية في الأساليب الفنية التي طبعت هذا النتاج البحريني المميّز، وتتجلّى هذه الخصوصية في نصبين ظهرا جنباً إلى جنب في معرض أقيم منذ سنوات في متحف البحرين الوطني تحت عنوان «تايلوس رحلة ما بعد الحياة».

افتتح هذا المعرض في مطلع مايو (أيار) 2012، وضمّ ما يقرب من 400 قطعة أثرية مصدرها مقابر أثرية أقيمت في مستوطنات متعددة تقع اليوم في مملكة البحرين. حوى هذا المعرض مجموعات عدة، منها مجموعة من الأواني الفخارية والحجرية والزجاجية والرخامية، ومجموعة الحلى والمصوغات المشغولة بالذهب والفضة والأحجار المتنوعة، ومجموعة من المنحوتات الجنائزية، منها قطع تمثل شواهد قبور، وقطع على شكل منحوتات ثلاثية الأبعاد من الحجم الصغير. كما يشير العنوان الجامع الذي اختير لهذا المعرض، تعود هذه القطع إلى الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وهو الاسم الذي أطلقه المستكشفون الإغريق على البحرين، كما أنه الاسم الذي اعتُمد للتعريف بحقبة طويلة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثالث بعد الميلاد. ويجمع بين هذه القطع أنها خرجت كلها من المقابر، أي أنها تحمل وظائفية جنائزية، وتُمثل «رحلة ما بعد الحياة»، أي رحلة إلى ما وراء الحياة الأرضية التي تقود بانقضائها إلى حياة أخرى، يصعب تحديد معالمها في غياب النصوص الأدبية الخاصة بها.

حسب قدامى كتّاب الإغريق، أطلق المصريون القدماء على مقابرهم اسم «مساكن الأبدية»، وتردّد هذا الاسم في صيغ مختلفة عبر أنحاء العالم القديم على مر العصور، كما يُجمع أهل العلم. من هذه المساكن الأثرية في البحرين، خرجت شواهد قبور نُحتت على شكل أنصاب آدمية من الحجم المتوسط، تطوّر شكلها بشكل كبير خلال القرون الميلادية الأولى. اختار منظّمو معرض «رحلة ما بعد الحياة» مجموعة من هذه الأنصاب تختزل هذه الجمالية المتعدّدة الفروع، منها نصبان يتشابهان بشكل كبير من حيث التكوين الخارجي، غير أنهما يختلفان من حيث الأسلوب، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي في صياغة ملامح الوجه. خرج هذان النصبان من مقبرة الشاخورة، نسبة إلى قرية تقع شمال العاصمة المنامة، تجاورها قريتان تحوي كل منهما كذلك مقبرة أثرية خرجت منها شواهد قبور آدمية الطابع، هما قرية الحجر وقرية أبو صيبع.

يتميّز نصبا الشاخورة بانتصابهما بشكل مستقل، على عكس التقليد السائد الذي تبرز فيه القامة الآدمية بشكل ناتئ فوق مساحة مستطيلة مسطّحة. يبدو هذان النصبان للوهلة الأولى أشبه بمنحوتتين من الطراز الثلاثي الأبعاد، غير أن سماكتهما المحدودة تُسقط هذه الفرضية. يبلغ طول النصب الأكبر حجماً 45 سنتيمتراً، وعرضه 18 سنتيمتراً، ولا تتجاوز سماكته 9 سنتيمترات. يمثل هذا النصب رجلاً ملتحياً يقف بثبات، رافعاً يده اليمنى نحو الأعلى، وفاتحاً راحة هذه اليد عند طرف صدره. يثني هذا الرجل ذراعه اليسرى في اتجاه وسط الصدر، مطبقاً يده على شريط عريض ينسدل من أعلى الكتف إلى حدود الخصر. يتألف اللباس من قطعة واحدة، تتمثل بثوب فضفاض، يزيّنه شريط رفيع ينسدل من أعلى الكتف اليمنى، مع حزام معقود حول الخصر تتدلّى منه كتلتان عنقوديتان عند وسط الحوض. يقتصر الجزء الأسفل من النصب على أعلى الساقين، ويمثل الطرف الأسفل من الثوب، وهو على شكل مساحة مسطّحة يزيّنها شريطان عموديان رفيعان ومتوازيان.

يُمثل النصب الآخر رجلاً يقف في وضعية مماثلة، وهو من حجم مشابه، إذا يبلغ ارتفاعه 36 سنتيمتراً، وعرضه 15 سنتيمتراً، وسماكته 10 سنتيمترات. تتميّز يدا هذا الرجل بحجمهما الكبير، وتبدو راحة يده اليمنى المبسوطة بأصابعها الخمس وكأنها بحجم رأسه. يتبع اللباس الزي نفسه، غير أنه مجرّد من الشرائط العمودية الرفيعة، والحزام المعقود حول خصره بسيط للغاية، وتتدلّى من وسط عقدته كتلتان منمنمتان خاليتان من أي زخرفة. يتشابه النصبان في التكوين الواحد، وهو التكوين الذي يتكرّر في شواهد القبور البحرينية الخاصة بالرجال والفتيان، على اختلاف أعمارهم ومهامهم الاجتماعية. وهذا التكوين معروف في نواحٍ عديدة من العالم الفراتي، كما هو معروف في نواحٍ عدة من البادية السورية وغور الأردن، ويُعرف بالطراز الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية التي نشأت في إيران القديمة، وأبرز عناصره اللباس المؤلف من قطعة واحدة مع زنار معقود حول الوسط، وراحة اليد اليمنى المبسوطة عند أعلى الصدر.

يخلو هذا التكوين الجامع من أي أثر يوناني، حيث تغلب عليه بشكل كامل وضعية السكون والثبات، بعيداً من أي حركة حية منفلتة، ويظهر هذا السكون في ثبات الوجه المنتصب فوق كتلة الكتفين المستقيمتين، والتصاق الذراعين بالصدر بشكل كامل. من جهة أخرى، تعكس صياغة الملامح الخاصة بكلّ من الوجهين. رأس النصب الأول بيضاوي، وتجنح صياغة ملامحه إلى المحاكاة الواقعية، كما يشهد الأسلوب المتبع في تجسيم العينين والأنف والفم. أما رأس النصب الثاني فدائري، وتتبع صياغة ملامحه النسق التحويري التجريدي الذي يسقط الشبه الفردي ويُبرز الشبه الجامع، ويتجلّى ذلك في اتساع العينين اللوزيتين، وتقلّص شفتي الثغر، وبروز كتلة الأنف المستقيم.

أُنجز هذان النصبان بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ويمثّلان فرعين من مدرسة محليّة واحدة برزت في البحرين وازدهرت فيها، والغريب أن أعمال التنقيب المتواصلة لم تكشف بعد عن نحت موازٍ في نواحٍ خليجية مجاورة لهذه الجزيرة، شكّلت امتداداً لها في تلك الحقبة.