حين يحاكم الشاعر الشعر.. والتاريخ

محمود قرني يستدعي امرؤ القيس وطرفة والمعري وبوشكين ومالارميه وميلتون

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

حين يحاكم الشاعر الشعر.. والتاريخ

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

عبر حوار طويل وممتد، متشعب الرؤى والقضايا والأفكار، تتلاقح فيه أزمنة وأمكنة شتى، يشكل الشاعر محمود قرني فضاءه الشعري في ديوانه «تفضل.. هنا مبغى الشعراء»، الصادر حديثًا عن دار «شرقيات» بالقاهرة، وهو ديوانه التاسع في رحلته مع الشعر.
وبخيال ساخن، ولغة حادة مسننة، تطل هذه القضايا من نوافذ الديوان، مظللة صفحاته المائة، ويتخذ الشاعر من فكرة المساءلة بمظانها المعرفية والواقعية مقومًا فنيًا لمحاورة شعراء وكتاب وعلماء وفلاسفة ومؤرخين، شكلوا تجسيدًا للحظات فارقة عاشتها تلك الأزمنة والأمكنة.. فثمة مساءلة دائمة للذات والآخر، للتاريخ والشعر والواقع والعناصر والأشياء، تمتد ظلالها إلى الذاكرة والعواطف والمشاعر الإنسانية والرؤى والأفكار والانفعالات، مشكِّلة جسرًا شفيفًا للوصل والقطع بين كل هذه العناصر، بحثًا عن خصوصية ما للشعر، وطارحة سؤاله البسيط المعقد، باعتباره بصيرة الذات المتخفية في خطى الزمن والبشر والأشياء.
الشعر، الذي ينتظر الشاعر عودته، مع كلب «مالارميه»، ومن تراجيديا الحضارات في «عنبر الحمي»، ومن طبقات الجحيم في «رسالة الغفران» للمعري، ويصرخ من أجله مستدعيًا روح بوشكين: «إننا الشعراء، نصلح قياصرة، عبيدا..»، لكنه في النهاية لا يعرف كيف يعتذر له، فيقول متسائلا: «فكيف أعتذر لك.. أيها البطل الخاسر دائمًا»، ثم يشفق عليه ويناجيه كطفل قائلا:
«باسم الفلاسفة
الذين هبطوا إلى النهر
بحثًا عن حقيقتك
فاختطف الغربانُ سراويلهم
باسم كل هؤلاء
من المخدوعين والحمقى
من الأفضل لك
أن تمضي من طريق أخرى
أيها الشعر»
لم يحدد الشاعر هذه الطريق الأخرى، تركها مفتوحة على البدايات والنهايات، لكنه بذكاء مخيلة أشار إليها ضمنيًا وعلى نحو خاص، عبر الدلالة المكانية اللافتة في عنوان الديوان «هنا»، وليس «هناك» مؤكدًا على أن لديه ما يخصه، ويعتز به، لديه الشعر، وهو قادر على الفرح به، لأنه يدرك وكما توحي نصوص الديوان، أن الشعر هو الحقيقة الوحيدة غير القابلة للنسيان، بعيدًا عن ترهات الشعراء وحروبهم الصغيرة.
في خضم هذه المساءلة، وفي ضوء مشاهد ووقائع بعينها يستدعيها الشاعر من خزانة التاريخ، لا يضع الشاعر قدمه فحسب - في ماضٍ يرى أن شهادة رحيله لم تنتهِ، لكنه بقوة المسائلة وجرأة المواجهة حول نصه الشعري إلى معول للتقصي والنقض، الهدم والبناء، لإعادة المساءلة والفهم من جديد للعالم والأشياء، وللآخر بكل فظاظته وقمعه وعدوانه. ومن ثم يشكل الديوان عبر نصوصه ما يشبه خشبة مسرح، تشع عليها الملهاة الإنسانية، في أقسى لحظاتها وجعًا وإيلامًا ومفارقة، وبلغة شعرية مكثفة، تعتصر أقصى طاقات التهكم والسخرية والقسوة، على الذات والشعر والماضي والحاضر، على النضال والآيديولوجيا والثورة التي تحولت إلى نعجة، على العلم والعلماء الذين ضللتهم الأفلاك والموازين المغشوشة، في ظلال كل هذا تمارس الذات الشاعرية نوعًا شفيفًا من التطهير والإزاحة، حتى تخلص في النهاية إلى مرآتها الخاصة، بعيدًا عن روث الآخر وإرثه الدامي، ومن ثم، يصبح فعلاً قادرًا على التجاوز والتخطي بجمالية شعرية مغايرة.
على حواف هذه الصراع، يطرح الديوان فكرة الصدام بين الحقيقة والشعر، وأيضًا الصدام بين العلم والشعر، بين الماضي والحاضر، ويناور الديوان كل هذا، في فضاء جمالي متراكب الرؤى والمستويات، وفي ظل ذات لا تكف عن المساءلة والنبش في حفريات الوجود والمعرفة، ما يجعلنا أمام نصوص شعرية صادمة وهتّاكة، تحتفي بمحبة الأشياء وكراهيتها في الوقت نفسه، لا تذهب إلى الماضي باسم نوستالجيا ما، وإنما بحثًا عن معنى معطل ومستلب لحياة تفر من بين أيدينا. واللافت وسط هذا المناخ أن النصوص تحتفي بالطفولة، بل ترى اللغة ثمرة من ثمراتها الطيبة، فلا تراهن على حرية الغصن بمعزل عن حرية الجذور، لذلك يبدو البحث عن الحقيقة، حقيقة المأساة بكل عبلها الإنساني هو نفسه البحث عن حقيقة الشعر. فكلاهما يفتش في الآخر عن زمنه الهارب، وحريته المغدورة. وإذا كان الواقع يعكس صعوبة فهمنا للحقيقة، لأنه يحولها دائما إلى لغز وسلطة مقموعة، فإن الشعر يتعاطى معها باعتبارها وجودًا حرًا قابلاً للتشكل والامتلاء في النص.
بهذه الطاقة المهمومة بسؤال الشعر والحقيقة معًا، يوسع الشاعر من آلية المساءلة، وينوع حراكها في النص، فهي تارة تبدو قرينة مفارقة موجعة، تتفجر دراميًا من داخل النص نفسه، الذي يتحول بدوره إلى مصفاة تنقي العناصر الخارجية المستدعاة من شوائب اللغة والتاريخ والزمن، وركام العادة والمألوف، ليعيد النص صهرها وسبكها، وفق خصوصيته، وما يحيل إليه من رؤى ودلالات. وهي تارة تستبطن حس الحكاية، تخايل في ظلالها ما يشبه الاعترافات المضمرة، أو المبتورة الناقصة، وتلك خصيصة قارة في الكثير من دواوين محمود قرني، بخاصة ديوانه السابق «لعنات مشرقية»، فاللعب على مناطق وتيمات ذات صبغة تاريخية، يستدعي الحكي، ويؤكد في الوقت نفسه أن التاريخ يُروى، وتتعدد مروياته، لأنه من صناعة البشر، وحمّالُ أقنعة وأوجه كثيرة. الأمر الذي يكسب فكرة «المساءلة» في الديوان قدرًا لافتًا من الشمول والاتساع والعمق، فهي تسعي إلى «الكلية»، حتى في لحظات مناجاتها الشخصية الفردية.
فبروح مشرّبة بالرغبة في الحوار الحي وشرف الخصومة مع الآخر، يخاطب الشاعر نفسه (عبر حديقة فلوبير)، قائلا فيما يشبه المرثية الموجعة للذات:
«أنا بطل الروايات الناقصة
أعني أنني بالضرورة سيّدُ العشاق الخائبين
أن الذي يتنشّق هُراء مجده
ولا يرى سبيلاً لقلب حبيبته
فيدقّ صورتها بإبرة الحِجامة
على ثنْيات بطنه
يسلم حذاءه للطير
وتخرج شِكَّةُ صيده خالية الوفاض
وأنا الرسام الأرعن
اسمي محمود
وصنعتي تربية النظر
اقرأ (جوستاف فلوبير) كبحار مغامر
واعتبره مثلي..
غبيًا أنيقًا
لكنه يغرق على ما يرام»
هذا التوازي بين الذات الشاعرة، وشخصية «فلوبير»، بثقلها الأدبي والدرامي، ومفارقات سيرتها الحياتية الموجعة، يطرح في المقابل توازيًا آخر، بين الشعر والحقيقة، فكلاهما لا يكف عن صراع الآخر وانتهاكه، بحثًا عن حرية مفقودة أو متوهمة، أو مخبّأة، في روحه وجسده، وتحت جدرانه.
إن قصائد الديوان حين تجر الماضي وراءها، لا تبحث فقط عن المدهش والمخفي فيه، بقدر ما تختبر الحياة في صورتها الأولى المتكررة، كقيمة مجردة من غواية النمط، وملهاة حية، نتفنن دائمًا ورغم قسوة الظروف، في العيش والتسكع فوق سطحها، وفي الوقت نفسه تؤكد القصائد أنه لا معنى للحياة خارج لحظتها الراهنة، خارج وجودها كمادة، كواقع متعين، كحقيقة معاشة بالفعل، كجسر شفيف للوصل والقطع، تتلاقح عليه شخوص وأزمنة وأمكنة، وحالات وظواهر، وحدوسات شتى للمعرفة الإنسانية.. فهكذا يقف فوق هذا الجسر: طرفة، والخنساء، وأبو تمام، والمعري، وبشار، وكيتس ونيوتن وبوشكين ومالارمية، وامرؤ القيس وفولبير وميلتون، وابن الرواندي، كما يقف الجواسيس والرواة والمهجريون واللصوص، وباعة البهجة المغشوشة، وغيرهم ممن يستدعيهم الديوان في معيته.. يقفون عراة حائرين، لا يتصارعون من أجل الحقيقة، أو كتابة مرثية تليق بالشعر، وإنما من أجل أن يظلوا أوصياء على الحياة، على الماضي والحاضر معًا.
لذلك، تفرض السخرية نفسها ضرورة للهدم والبناء معا، ولإثبات قدرة الذات الشاعرة على النفي والإثبات، إنها صوت الأنا المعارض، النقيض، الضد، الذي باسمه تتقاطع وتتوازى فوق سطح هذه الملهاة، دلالة «فردوس ميلتون المفقود» و«مقابر الصدقة»، وصراع الأبناء والأسلاف في بيت لحم على أكل أكباد بعضهم بعضا، أو تتماهى «رسالة الغفران» للمعري، مع «كوميديا دانتي»، أو يتناثر «غبار آسيا» فوق كتفي سيدة تنتظر حبيبها على شاطئ بعيد في قلب ظلام القارة السمراء، أو يصرخ في « سماوات ليبيا» القائد الذي هزمته ذبابة الملاريا.
وغيرها، من ثنائيات الشر العقيمة التي أصبحت سمة عالمنا الراهن، وأصبحنا نخمن كل يوم أكثر من طريقة للهرب منها أو العيش المر تحت ظلالها.. ومثلما يقول الشاعر في قصيدته «الفردوس المفقود» في تناغم حي وساخر بين صوت الذات الشاعرة، وصوت الآخر المجهول الذي يوهم به جون ميلتون صاحب الفردوس نفسه:
«سيدي
إذا كنت بلا عمل
فتعال إلى هنا
سنجمع الحطب سويًا
من هذا الغَوْر
الذي يقع شمال بيت لحم
لتشهد بنفسك
كيف يأكل أحفادك
أكباد أعدائهم»
في الختام، أدرك أن ما يقوله الشعر هنا في هذا الديوان الخصب لن ينتهي بقراءة القصيدة أو الديوان، وإنما تبدأ حرية الشعر ومتعته مع تعدد القراءة وطرائق الرؤية والتأويل، فنحن أمام نص شعري قادر على أن يجدد نفسه بطرائق متنوعة ومتعددة.



كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي