«لست شارلي».. سقطات «إيبدو» وازدواجية المعايير

خبراء لـ«الشرق الأوسط»: خطابها انتقائي وبات يغذي «الإسلاموفوبيا» في فرنسا اليوم

«لست شارلي».. سقطات «إيبدو» وازدواجية المعايير
TT

«لست شارلي».. سقطات «إيبدو» وازدواجية المعايير

«لست شارلي».. سقطات «إيبدو» وازدواجية المعايير

بعد مرور عام على الاعتداء الإرهابي الذي طال مبنى الصحيفة الفرنسية الساخرة «شارلي إيبدو»، انتشر وسما «أنا شارلي» و«لست شارلي» على مواقع التواصل الاجتماعي، تأكيدا على أن الانقسام لا يزال واضحا بين متضامن مع سياسة تحرير الصحيفة التي تعتبر نفسها رافعة لراية حرية التعبير، ومندد بمحتوى «إيبدو» الانتقائي الذي بات يعكس مناخ الإسلاموفوبيا في فرنسا اليوم، أو حتى يعمل على تغذيته.
وللكشف عن نهج الصحيفة المثير للجدل نرصد تاريخها منذ انطلاقها لتحل مكان مطبوعة حظرت في سبعينات القرن الماضي، مرورا بأمثلة تؤكد ازدواجية المعايير في التعامل مع المواضيع الشائكة، وانتهاء بالاطلاع على مطبوعات الصحيفة الأسبوعية بعد عام من الهجمات، حيث باتت تستقطب قراء اليمين المتطرف. ومن خلال حديث مع خبير في شؤون التطرف وباحثة في شؤون الجالية المسلمة في فرنسا، نكشف أن الوضع في فرنسا بات معاديا للأقلية المسلمة فيها، وأسلوب «شارلي إيبدو» الانتقائي - خصوصا بعدما صور آخر عدد لها الطفل الغريق السوري إيلان كردي على متحرش جنسي - بات يسهم في نشر الإسلاموفوبيا وعدم تقبل الآخر، الأمر الذي يتنافى مع حرية التعبير التي تنشدها الصحيفة.

اجتاحت موجة من الغضب مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الأسبوع الماضي، بعد أن نشرت صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية الأسبوعية الساخرة رسما كاريكاتيريا يصور الطفل السوري إيلان كردي (ثلاث سنوات) الذي عثر على جثته على شاطئ تركي العام الماضي وقد تحول إلى متحرش جنسي في الكبر. ويصور الكاريكاتير اثنين من الذكور يجريان خلف امرأة مذعورة، ويقول التعليق على الصورة «ما هو مصير الشاب إيلان لو كان قد كبر؟.. متحرش في ألمانيا».
ونشر الكاريكاتير بعد مرور أسبوع على ذكرى الهجمات على مقر الصحيفة الأسبوعية في باريس والتي أسفرت عن مقتل 12 شخصا في يناير (كانون الثاني) من العام الماضي. وحينها تبنى مستخدمو الإنترنت عبارة «أنا شارلي» لإبداء التعاطف مع الصحيفة.
لكن هذه المرة قال كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي إن الكاريكاتير مسيء، بينما قال آخرون إن «شارلي إيبدو» تواصل أسلوبها الاستفزازي المعتاد لإثارة النقاش حول المواقف الأوروبية من أزمة المهاجرين.
منذ تأسيسها عام 1970، رفعت الصحيفة لواء «حرية التعبير» وسخرت من كل ما يُسمى اللباقة السياسية. وتعود أصول الصحيفة إلى مطبوعة ساخرة أخرى اسمها «هارا كيري» نجحت في صنع اسم كبير لها في الستينات من القرن الماضي، ثم جرى حظرها بسبب محتواها الذي اعتبرته السلطات الفرنسية عدائيا للغاية حينئذ. إذ كانت الأخبار آنذاك تدور حول خبرين أساسيين هما اندلاع حريق أدى إلى مصرع أكثر من 100 شخص في ملهى ليلي، ووفاة الرئيس الأسبق الجنرال شارل ديغول.
وعلى صدى ذلك، صدرت مطبوعة «هارا كيري» لتحمل عنوانا يسخر من وفاة الجنرال ديغول يقول: «رقصة مأساوية في كولومبي - مقر إقامة ديغول - تسفر عن مقتل شخص واحد». وأدى ذلك إلى حظر مطبوعة «هارا كيري». فسارع محرروها بإصدار «شارلي إيبدو» عام 1970 لتحمل راية «هارا كيري».
وحول ذلك، تقول مخرجة الأفلام الوثائقية انيس دي فيو والباحثة بشؤون الجالية المسلمة في فرنسا، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «في تلك الفترة، كانت الرقابة على الإعلام شديدة في فرنسا، فاستطاعت الحكومة حظر المطبوعة». وتضيف المخرجة الفرنسية: «لكن الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران رفع الحظر والتشديدات؛ الأمر الذي استنزفته (شارلي إيبدو) بعدها».
مع تغيرات المناخ السياسي العالمي بنهاية الحرب الباردة، كان على الصحيفة اليسارية أن تجابه عاصفة داخلية، بدأت بموجة من الاستقالات وانتهت بخروج كل المؤسّسين من «شارلي إيبدو». وأصبحت المجلة بالتالي بين يدي جيل جديد على رأسه رسّام الكاريكاتير شارل فولنسكي. وبعد تخبط إداري عادت للصدور أسبوعيا سنة 1992. كانت صورة الغلاف كاريكاتيرا للرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، يظهر فيها وقد وضع أمامه ملفات خطيرة مثل الأمن والتدهور الاقتصادي والتغوّل الأميركي، وهو يقول: «وإلى جانب كل ذلك، عادت (شارلي إيبدو)».
وخلال السنوات، تناولت رسومات الصحيفة الكاريكاتيرية مواضيع شائكة وصادمة مثل رسم لرجال شرطة يحملون رأس مهاجر يقطر دما، وآخر يسيء لبابا الفاتيكان والمسيحية، أو حتى رسوما تنتقد اليمين الفرنسي بشدة. وكانت الصحيفة مثار جدل في فبراير (شباط) 2006 حين أعادت نشر اثنين من الرسوم الدنماركية المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهي رسوم كانت قد أدت إلى أعمال احتجاج قاتلة قبل ذلك. إلى ذلك، قدمت مجموعة من الجمعيات الإسلامية شكوى في المحكمة ضد الصحيفة بسبب هذه القضية التي باعت على أثرها نحو نصف مليون نسخة، وهو رقم أكثر بكثير من عدد نسخها المتداولة أسبوعيا الذي يتراوح بين 55 و75 ألف نسخة.
لكن المحكمة الفرنسية انحازت إلى جانب الصحيفة، معتبرةً أن الرسوم الكاريكاتيرية استهدفت «الإرهابيين» وليس المسلمين. ومن حينها، لم تنفك «شارلي إيبدو» عن نشر صور تستهزئ بالإسلام وتسيء للمسلمين. ففي ينير (كانون الثاني) 2013، نشرت الصحيفة إصدارا مؤلفا من 64 صفحة مخصصا فقط للإساءة للدين الإسلامي. وعلق رئيس تحرير الصحيفة ستيفان شاربونييه حينذاك، قائلا إنه إذا أراد الناس الشعور بالصدمة فإنهم سيشعرون بالصدمة عند تصفح هذا الإصدار من الصحيفة. إلى ذلك، تشير انيس فيو إلى أن «الأمر الأهم للصحيفة هو الاستهزاء من كل ما يحدث حولها من دون أن تكون لرسوماتها عواقب». وتضيف: «لكن للأسف، انغمست الصحيفة اليوم في تغذية الفكر السائد بفرنسا الذي يحاول تغريم المسلمين».
اللافت في الموضوع أنه في الوقت الذي تدعي فيه الصحيفة حرية التعبير المطلقة والاستهزاء من أي كيان أو فكر كان، تكشف حادثة طرد الرسام الفرنسي موريس سيني عام 2008 ازدواجية في المعايير التي تتبعها «شارلي إيبدو». ففي تلك الحادثة، أقالت الصحيفة الرسام سيني بتهمة معاداة السامية، عندما كتب في عموده إن ابن الرئيس السابق نيكولاس ساركوزي يرغب في اعتناق اليهودية قبيل زواجه من خطيبته اليهودية، وريثة أحد مؤسسي إحدى الشركات المتخصصة في الأجهزة المنزلية والمعلوماتية؛ مستطردا أن هذا الزواج سيمكّن «ابن ساركوزي» من بناء مسارٍ ناجح في الحياة - في إشارة إلى الفكر العنصري السائد أن اليهود طماعون وحريصون على أموالهم. ومع أن المحكمة قضت بتعويض سيني بمبلغ 40 ألف يورو بقضية رفعها ضد «شارلي إيبدو»، فإن الصحيفة لم تتراجع عن قرار الطرد، ولم تسحب اعتذارها لساركوزي.
وعن تلك الحادثة، أكد الباحث البريطاني مسؤول التوعية لدى مؤسسة «كويليام» لمكافحة التطرف ومقرها لندن آدم دين، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن «هذه معايير مزدوجة»، موضحا أن «صحيفة (شارلي إيبدو) تحاول أن تصور أنه ليس هنالك أي شيء مقدس، وأن الشيء الوحيد المقدس هو حرية التعبير، إلا أن تلك الحادثة تبطل هذه الرسالة». وأضاف دين «باعتقادي أن (شارلي إيبدو) تشن حملة ضد الدين إلى درجة أن الصحيفة تعاني من (فوبيا) الأديان. وذلك يضعف مكانة رسالتها التي تدعو لحرية التعبير وتؤكد معايير (إيبدو) المزدوجة».
على موقعها الإلكتروني كتبت «إيبدو» تحت قسم «من نحن»: «نوفر جانبا مختلفا للأخبار ونتعمق في المسائل الساخنة أكثر من وسائل الإعلام الأخرى من خلال السخرية والفكاهة»، ويضيف الموقع: «(شارلي إيبدو) مطبوعة لجميع الناس ونحن ضد الكراهية والحروب». وعن ذلك قال الباحث البريطاني آدم دين: «أسلوب (شارلي إيبدو) صنع ليذهل أو يصدم القراء». وأضاف: «في هذا السياق، الصحيفة مدانة بصنع ونشر التطرف؛ عكس ما تناشده برسالتها على صفحتها الإلكترونية». وهنا تلح الحاجة للتمعن بالخط الرفيع الذي يكمن بين حرية التعبير وخطاب الكراهية. وعن ذلك، قال دين: «ما يعتبر إساءة لمعايير حرية التعبير هو نشر مواد ذات طابع اضطهادي أو هجومي أو بغرض إهانة طرف معين». وشرح بقوله مؤكدا أنه «عندها، تتحول حرية التعبير إلى خطاب كراهية. ويعتمد ذلك أيضا على المناخ السياسي وأنظمة القوى المعنية». ويستطرد: «في هذا السياق بات المسلمون تحت خطر وتهديد في خضم ارتفاع جرائم الإسلاموفوبيا، وبرأيي رسومات الصحيفة مهينة لأنها توجه خطابا يهاجم أقلية حساسة تتعرض للهجوم حاليا والتهديد. لذلك، يصبح خطاب (شارلي إيبدو) قريبا لخطاب الكراهية».
في مقال تحليلي نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية الأسبوع الماضي، أكدت زيادة خطاب الكراهية المعادي للإسلام في فرنسا اليوم، الذي يؤول لارتفاع ظاهرة «الإسلاموفوبيا» في البلاد. وأشارت الصحيفة إلى أن ذلك الخطاب يحور ويستغل لأغراض سياسية. إذ يتيح المجال لزعماء اليمين لإظهار كراهية علنية وعنصرية ضد المجتمع الإسلامي في فرنسا، وعلى رأسهم زعيمة حزب الجبهة الوطنية السياسي الفرنسي اليميني ماريان لوبن. فهذه المرأة أعلنت مؤخرا إشادتها بالنهج السويسري الذي عارض الهجرة الجماعية، وإغلاق الباب في وجه المهاجرين السوريين والعراقيين. ودعت إلى التضييق على بناء المساجد، كما أنه تمت منذ فترة محاكمتها بتهمة تشبيه صلاة العيد للمسلمين في فرنسا بالاحتلال النازي. وفي الوقت الذي تزداد فيه شعبية اليمين المتطرف في فرنسا، تصبح رسومات هذه الصحيفة انعكاسا لمناخ التعصب في البلاد. إذ قالت فيو إن «فرنسا شهدت حملة ضد المسلمين منذ الهجوم على مقر الصحيفة وزيادة غير مسبوقة لمبيعات نسخها الأسبوعية». وأضافت: «لكن نوع القراء اختلف اليوم؛ ففي الوقت الذي كانت تعتبر فيه (شارلي إيبدو) صحيفة يسارية، باتت شريحة كبيرة من قرائها تنتمي لليمين المتطرف المعادي للإسلام».
وكما ندد العالم بالهجوم الدامي على مقر الصحيفة العام الماضي، وكما اعتبره الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند عملا «همجيا» أو «بربريا» متطرفا، أكد أيضا أنه من صنع المتطرفين. وفي حينها، دان العالم العربي والإسلامي الهجوم معتبرا العنف أمرا يرفضه الإسلام، ومؤكدا أن ما حصل هو اعتداء إرهابي متطرف. لكن عقب الهجمات، ازداد هجوم الصحيفة على الأقلية المسلمة في البلاد من خلال رسوماتها الأسبوعية. وتعليقا على سياسة «إيبدو» خلال العام بعد الهجمات قال الباحث آدم دين: «الرسومات الكاريكاتيرية لا تعتبر نموذجا من العنف، لكنها مثيرة للاشمئزاز، والغاية منها تغذية الإسلاموفوبيا والتمييز ضد المسلمين في فرنسا واضطهادهم».
ورصدت الفرنسية دي فيو التغيير في غرض «شارلي ايبدو» بقولها: «كان قراء الصحيفة قبل الاعتداء شبابا يساريين، ولم يقرأها المجتمع اليميني المعادي للمسلمين». وأوضحت: «لكن بعد الاعتداء باتت الصحيفة مقروءة من قبل متبني فكر الإسلاموفوبيا؛ وأصبحت وسيلة لانتقاد الإسلام والمسلمين». وأخيرا، يوضح آدم دين أن تلك الظاهرة باتت تغذي الإسلاموفوبيا بالمجتمع الفرنسي اليوم. وأشار إلى أنه «لو كان المنظور للأقلية المسلمة في فرنسا على أنها تتساوى مع باقي الشعب (لكن ليست هذه هي الحقيقة على الأرض)، لما كانت اشتعلت هذه الظاهرة». وأضاف: «الوضع في فرنسا بات معادٍ للجالية المسلمة والمسلمين هناك، و(شارلي إيبدو) تنشط بخطابها في مناخ مضطهد للمسلمين؛ مما يزيد من ذلك الاضطهاد ويسهم في نشر الإسلاموفوبيا، وهذا يتنافى مع حرية التعبير».
في الذكرى السنويّة الأولى للاعتداء على الصحيفة، استعاد العالم الافتراضي الانقسام حول الحادثة، محللا ظهور وسم «لست شارلي» على موقع «تويتر»، مقابل وسم «أنا شارلي»، الذي حصد نحو 3.5 مليون تغريدة، وكان من بين الأكثر تداولا على الموقع خلال عام 2015. وبدوره، عمل الباحث رومان بادوار على الدراسة بعنوان «لست شارلي: تعدد المواقف على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي». وبحسب تقرير لموقع «سلايت»، تظهر الدراسة أنّ معظم مستخدمي وسم «لست شارلي»، ليسوا من المروّجين لنظريّات المؤامرة، أو الاعتذاريين عن الإرهاب. وتؤكّد أيضا أنّ معظم مستخدمي الوسم يدينون الجريمة معتبرين إياها إرهابية، لكنّهم يرفضون إظهار دعمهم وتماهيهم مع إدارة تحرير الأسبوعية الساخرة المروجة للكراهية. وبذلك، تشير الدراسة إلى أن عدم تبني فكر الصحيفة التي جرى الإثبات أنها متطرفة بدورها أيضا، لا يعني الامتناع عن إدانة الهجوم الإرهابي الدامي، بل قد تكون معاداة خطاب الكراهية الذي باتت تنشره الصحيفة وسيلة للقضاء على التطرف، وإعادة إحياء قيم التعايش.



إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.