«الخلافة الإسلامية».. استثمار آيديولوجي للنص الديني

نظّر لها الفقه السياسي القديم

مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
TT

«الخلافة الإسلامية».. استثمار آيديولوجي للنص الديني

مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه

عاش الفقه السياسي الإسلامي القديم والمعاصر معارك سياسية باسم الدين، وخاض تدافعا معرفيا مؤدلجا باسم الوحدة المذهبية، والسياسية. وكلما تطورت الخبرة العربية الإسلامية تطور معها شكل المواجهات، وتباينت الاجتهادات إلى حد الإخراج من الملة وتبرير استعمال العنف السياسي. ولعل المأزق الذي عاناه ويعانيه الفقه السياسي يختصر ارتباك الفكر السياسي الإسلامي المعاصر في التنظير للسلطة، ولجوءه المستمر للتستر وراء التأصيل باسم «الأسلمة» واستعادة التراث السياسي.

صحيح أن التراث السياسي الإسلامي يعبّر عن مدركات وتقاليد معرفية لأمة الوحي الجامع، والمنتقل بالعرب من طور القبيلة المقاتلة لطور الأمة المستقرة الرسالية؛ لكن من الصحيح كذلك أن الفقر في التنظير السياسي طبقا لما جاءت به كليات القرآن والسنة الموجبة للعدالة والحرية حوّل الجهد الفكري للفقهاء باعتبارهم نخبة دينية، مكلفة بإيجاد فلسفة سياسية إسلامية، متفاعلة مع التوحيد العقدي والتحرر الإنساني، إلى مجرد منتج لأدبيات مبررة لشرعنة استعمال القوة للسيطرة على السلطة السياسية باسم التغلب تارة، وباسم عدم الخروج على الحاكم تارة أخرى.
فلو أخذنا مثال «الخلافة الإسلامية» وتنظير الفقه السياسي القديم، والفكر السياسي المعاصر لها، واستحضرنا تاريخ الصراع السياسي الذي عاشه الفقيه والمجتمع، سنجد أن مفهوم «الخلافة» في الفقه السياسي الإسلامي يدل لدى عموم المشتغلين في هذا الحقل المعرفي على ذلك النظام الذي طبقته السنة النبوية، وبعده «الخلفاء الراشدون» الأربعة في التجربة السياسية التي دامت نحو 32 سنة فقط. ومن هنا سأقدم تفسيرا مقتضبا لدواعي تقديس «الخلافة» المصنوعة والمكرسة فقهيا، بالتنبيه للحقائق العلمية التالية:
أولا: إنّ المسألة السياسية في الإسلام لم تعد مسألة فقهية. فمن الناحية المجتمعية، ورغم أنّ الخلافة كمفهوم تقليدي مرتبطة بالذاكرة وبالذهنية الجماعية للأمّة الإسلامية، فإنّ للخلافة عنصرين: الأول معنوي، والثاني مادي. العنصر المعنوي هو حديثي، ويمثله حديثان مطعون في صحتهما. الأول رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير (رضي الله عنه) قال: «كنا جلوسا في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة. فقال حذيفة: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت. قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه. فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين - يعني عمر - بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فَسُرَّ به وأعجبه». وروى الحديث أحمد والطيالسي والبيهقي في منهاج النبوة والطبري.. والحديث صحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»، وحسنّه الأرناؤوط.
أمّا الحديث الثاني فهو ما ورد عن سَفِينَةُ (رضي الله عنه)، قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ سَفِينَةُ: أمْسِكْ عَلَيْكَ خِلاَفَةَ أَبي بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ: وَخِلاَفةَ عُمَرَ وَخِلاَفَةَ عُثْمانَ، ثُمّ قَالَ لي: أمسِكْ خِلاَفَةَ عَلِي.. قال: فَوَجَدْنَاهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً». رواه أحمد وحسنه الأرناؤوط.
أمّا الجانب المادي الذي تحدثنا عنه أعلاه، فقد ارتبط بثلاثين سنة من التجربة لا غير. هذا هو مخزون الذاكرة الجماعية للأمّة وخبرتها حول الخلافة (وكانت الدولة جديدة على العرب، الذين كانوا قبل الإسلام قبائل شتى، لا خبرة لهم بأمور الدولة ومتطلباته). وبعده جاء الأدب السياسي السلطاني، لينظّر لطبيعة النظام السياسي في وسط قبلي وعشائري بدوي غير مكتمل الاجتماع من حيث القيم، والتقاليد الجماعية؛ وفي وقت ظهر فيه الحديث المكذوب، وأدرج ضمن الصراع السياسي بين صغار الصحابة، وتفاقم هذا الوضع خاصة ببروز ظاهرة الخروج والتعصّب لأهل البيت.
ثانيا: إنّ العودة للتراث السياسي أو استدعاءه لمخاطبة العقل الإسلامي المعاصر، لا بدّ أن يستحضر أنّ الواقع المجتمعي أنهى بحكم تعقيداته ذلك الزمان الذي كان يعتبر فيه الفقيه نفسه قادرا على بناء نظام معرفي لأمّة معيّنة. ذلك أنّ النظام المعرفي الإسلامي عبر التاريخ توسّع وبقيت مركزية القرآن والسنّة الصحيحة هي الثابت، في الوقت الذي توسعت فيه العلوم المتعددة والمرتبطة بالتمدّن. وحيث إنّ المجتمع تطوّر وتطوّرت معه تقاليد الحضارة الإسلامية وكرّست سلوكا وأعرافا وتقاليد مجتمعية وسياسية عبر زمن ممتد؛ عُرف بزمن التمدن وتداخل الجماعات في جماعات مجتمعية متعددة، فإنّ الخبرة التاريخية انتظمت في دول إسلامية مختلفة. وهكذا تطور الاجتماع السياسي، فظهرت نظم سياسية غير معروفة عند الفقيه، وغير منصوص عليها قرآنا وسُنّة صحيحة.
صحيح أنّ المعرفة الإسلامية التي نمت منذ القرن الأول للهجرة لم تأخذ صيغة المثالية السياسية، بل هدفت لبناء سلوك نظامي جماعي يكون فيه الفرد مندرجا ضمن دائرة القيم الجماعية بصفتها القيم الأسمى مقارنة بالقيم الفردية والقبلية، إلا أنّ قضايا المعرفة الإسلامية أكثر تعقيدا، والمسألة السياسية واحدة من المسائل التي عجز الفقه عن تنظيمها تنظيما نسقيا يتّسق وخبرة المجتمع الإسلامي؛ لذلك احتفى الفقه بالخلافة ووجوبها، دون أن يؤسس لنظام فقهي معرفي يجعل من الخلافة نظاما للأمر السياسي - أي للسلطة السياسية - يعرف التداول داخل دائرة الإرادة الطوعية للأمّة.
ولعل هذا العجز الفقهي الإسلامي البيّن حذا بالمنظومة الفقهية التقليدية لتكريس نظرية التغلب والخروج المسلح (رغم أننا نجد اختلافات داخل مدرسة التغلب، والشيء نفسه ينسحب على مدرسة الخروج) على الحاكم، لأنه المخرج المعرفي لوجوب الخلافة وديمومتها. وهكذا أصبح التغلب والخروج تبريرا أو مساوقة للنفوذ المجتمعي للقبيلة. ضمن هذا التطور أصبحت السنّة، خاصة الأحاديث النبوية، في كثير من الأحيان أشبه بالنصوص الآيديولوجية. ودخل المحدّثون والفقهاء في معارك مع منظومة أنتجوها، فيما تغلبت القبيلة ومنظومتها العنيفة على قيَم الأمّة القرآنية والمبثوثة في السُنّة الصحيحة، التي تستوجب وتفرض الشورى، باعتبارها مركز ثقل القيم السياسية الإسلامية.
ثالثا: حاضر المسلمين اليوم لم يخرج بشكل كبير عن إنتاجات خبرة المجتمعات الإسلامية المتعددة والمتأثرة بالواقع الدولي وفعاليته، وهو كذلك سياق كانت فيه القبيلة والعشيرة قوة قاهرة تأثر بها الفقيه وطوقته في الغالب الأعم، من جهة نظره في النص الشرعي، ومن جهة واقعه وواقع السلطان والسلطة السياسية وعلاقة هذه الأخيرة بالفقه. ومعلوم أنّ هذا السياق لا يعتد كثيرا بالشورى المجتمعية والمشورة القرآنية، ولا يأخذ بعزيمة الأمّة وإرادتها الطوعية في الاختيار. وما دام هذا هو واقع الأمر- في عموم العموم حتى اليوم - فإنّ الحفاظ على وحدة الأمّة ليس واجبا دينيا فقط بالنسبة للفقيه، لكنه كذلك ممارسة معرفية تستدعي جمع الأدلة وإحاطتها بالقدسية اللازمة، حتى يفهم عموم الناس في المجتمع الإسلامي أنّ الخلافة هي النظام الواجب والوحيد لدولة المسلمين والدولة الإسلامية.
غير أنّ هذه الآيديولوجية الفقهية، وهي تركز على مثالية الخلافة، أضعفت بشكل كبير العنصر المعنوي، أي الحديث النبوي بالتعامل معه وظيفيا، وحشره في منظومة آيديولوجية خلطت الشريعة، باعتبارها نصوصا صريحة من القرآن والسنة الصحيحة، بالفقه الذي يعبّر عن اجتهادات بشرية في زمان ومكان معينين. وكذلك أضعفت المنظومة الفقهية التقليدية الجانب المادي المتمثل في تجربة الخلفاء الراشدين الثلاثينية للحكم، حيث إنها همّشت بشكل فظيع منظومة القيم التي صهرت الأمّة الإسلامية وجعلتها تعيش في ظلّ وحدة مطلقة في ما يخصّ نظام القيم. فالفقه التقليدي وهو يتعامل آيديولوجيا مع موضوع الخلافة ووجوبها، لم يطرح قدرة الأمّة المنتظمة وفق القيم الروحية نفسها للصحابة (رضوان الله عليهم) على إنتاج صيغ جديدة من الخلافة الإسلامية، تتجاوز ما تمّ إبداعه في السنوات الثلاثين من عمر الخلافة.
لقد ضيّع الفقه السياسي الإسلامي التقليدي إمكانية الاجتهاد السياسي من داخل منظومته القيمية، حين اعتبر الخبرة التاريخية مرجعية عليا. وها نحن اليوم نرى أنّ مشعل هذا التضييع الممارس فقهيا يجد له أنصارا في القرن الحادي والعشرين، وهم يحملون ما يزعمون أنه استعادة وإعلان الخلافة، وهي في حقيقة الأمر حلم لا يقرّه القرآن نصا ولا سنّة صحيحة، ولا تدعمه خبرة التجربة الإسلامية الممتدة في التاريخ أربعة عشر قرنا من الاجتماع السياسي، والأصح أربعة عشر قرنا من تعدد الاجتماع السياسي الإسلامي نظما حاكمة، والمتحد من حيث المرجعية العليا، والقيم المعرفية والسياسية.

* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس بالمغرب



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».