«الخلافة الإسلامية».. استثمار آيديولوجي للنص الديني

نظّر لها الفقه السياسي القديم

مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
TT

«الخلافة الإسلامية».. استثمار آيديولوجي للنص الديني

مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه

عاش الفقه السياسي الإسلامي القديم والمعاصر معارك سياسية باسم الدين، وخاض تدافعا معرفيا مؤدلجا باسم الوحدة المذهبية، والسياسية. وكلما تطورت الخبرة العربية الإسلامية تطور معها شكل المواجهات، وتباينت الاجتهادات إلى حد الإخراج من الملة وتبرير استعمال العنف السياسي. ولعل المأزق الذي عاناه ويعانيه الفقه السياسي يختصر ارتباك الفكر السياسي الإسلامي المعاصر في التنظير للسلطة، ولجوءه المستمر للتستر وراء التأصيل باسم «الأسلمة» واستعادة التراث السياسي.

صحيح أن التراث السياسي الإسلامي يعبّر عن مدركات وتقاليد معرفية لأمة الوحي الجامع، والمنتقل بالعرب من طور القبيلة المقاتلة لطور الأمة المستقرة الرسالية؛ لكن من الصحيح كذلك أن الفقر في التنظير السياسي طبقا لما جاءت به كليات القرآن والسنة الموجبة للعدالة والحرية حوّل الجهد الفكري للفقهاء باعتبارهم نخبة دينية، مكلفة بإيجاد فلسفة سياسية إسلامية، متفاعلة مع التوحيد العقدي والتحرر الإنساني، إلى مجرد منتج لأدبيات مبررة لشرعنة استعمال القوة للسيطرة على السلطة السياسية باسم التغلب تارة، وباسم عدم الخروج على الحاكم تارة أخرى.
فلو أخذنا مثال «الخلافة الإسلامية» وتنظير الفقه السياسي القديم، والفكر السياسي المعاصر لها، واستحضرنا تاريخ الصراع السياسي الذي عاشه الفقيه والمجتمع، سنجد أن مفهوم «الخلافة» في الفقه السياسي الإسلامي يدل لدى عموم المشتغلين في هذا الحقل المعرفي على ذلك النظام الذي طبقته السنة النبوية، وبعده «الخلفاء الراشدون» الأربعة في التجربة السياسية التي دامت نحو 32 سنة فقط. ومن هنا سأقدم تفسيرا مقتضبا لدواعي تقديس «الخلافة» المصنوعة والمكرسة فقهيا، بالتنبيه للحقائق العلمية التالية:
أولا: إنّ المسألة السياسية في الإسلام لم تعد مسألة فقهية. فمن الناحية المجتمعية، ورغم أنّ الخلافة كمفهوم تقليدي مرتبطة بالذاكرة وبالذهنية الجماعية للأمّة الإسلامية، فإنّ للخلافة عنصرين: الأول معنوي، والثاني مادي. العنصر المعنوي هو حديثي، ويمثله حديثان مطعون في صحتهما. الأول رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير (رضي الله عنه) قال: «كنا جلوسا في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة. فقال حذيفة: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت. قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه. فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين - يعني عمر - بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فَسُرَّ به وأعجبه». وروى الحديث أحمد والطيالسي والبيهقي في منهاج النبوة والطبري.. والحديث صحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»، وحسنّه الأرناؤوط.
أمّا الحديث الثاني فهو ما ورد عن سَفِينَةُ (رضي الله عنه)، قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ سَفِينَةُ: أمْسِكْ عَلَيْكَ خِلاَفَةَ أَبي بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ: وَخِلاَفةَ عُمَرَ وَخِلاَفَةَ عُثْمانَ، ثُمّ قَالَ لي: أمسِكْ خِلاَفَةَ عَلِي.. قال: فَوَجَدْنَاهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً». رواه أحمد وحسنه الأرناؤوط.
أمّا الجانب المادي الذي تحدثنا عنه أعلاه، فقد ارتبط بثلاثين سنة من التجربة لا غير. هذا هو مخزون الذاكرة الجماعية للأمّة وخبرتها حول الخلافة (وكانت الدولة جديدة على العرب، الذين كانوا قبل الإسلام قبائل شتى، لا خبرة لهم بأمور الدولة ومتطلباته). وبعده جاء الأدب السياسي السلطاني، لينظّر لطبيعة النظام السياسي في وسط قبلي وعشائري بدوي غير مكتمل الاجتماع من حيث القيم، والتقاليد الجماعية؛ وفي وقت ظهر فيه الحديث المكذوب، وأدرج ضمن الصراع السياسي بين صغار الصحابة، وتفاقم هذا الوضع خاصة ببروز ظاهرة الخروج والتعصّب لأهل البيت.
ثانيا: إنّ العودة للتراث السياسي أو استدعاءه لمخاطبة العقل الإسلامي المعاصر، لا بدّ أن يستحضر أنّ الواقع المجتمعي أنهى بحكم تعقيداته ذلك الزمان الذي كان يعتبر فيه الفقيه نفسه قادرا على بناء نظام معرفي لأمّة معيّنة. ذلك أنّ النظام المعرفي الإسلامي عبر التاريخ توسّع وبقيت مركزية القرآن والسنّة الصحيحة هي الثابت، في الوقت الذي توسعت فيه العلوم المتعددة والمرتبطة بالتمدّن. وحيث إنّ المجتمع تطوّر وتطوّرت معه تقاليد الحضارة الإسلامية وكرّست سلوكا وأعرافا وتقاليد مجتمعية وسياسية عبر زمن ممتد؛ عُرف بزمن التمدن وتداخل الجماعات في جماعات مجتمعية متعددة، فإنّ الخبرة التاريخية انتظمت في دول إسلامية مختلفة. وهكذا تطور الاجتماع السياسي، فظهرت نظم سياسية غير معروفة عند الفقيه، وغير منصوص عليها قرآنا وسُنّة صحيحة.
صحيح أنّ المعرفة الإسلامية التي نمت منذ القرن الأول للهجرة لم تأخذ صيغة المثالية السياسية، بل هدفت لبناء سلوك نظامي جماعي يكون فيه الفرد مندرجا ضمن دائرة القيم الجماعية بصفتها القيم الأسمى مقارنة بالقيم الفردية والقبلية، إلا أنّ قضايا المعرفة الإسلامية أكثر تعقيدا، والمسألة السياسية واحدة من المسائل التي عجز الفقه عن تنظيمها تنظيما نسقيا يتّسق وخبرة المجتمع الإسلامي؛ لذلك احتفى الفقه بالخلافة ووجوبها، دون أن يؤسس لنظام فقهي معرفي يجعل من الخلافة نظاما للأمر السياسي - أي للسلطة السياسية - يعرف التداول داخل دائرة الإرادة الطوعية للأمّة.
ولعل هذا العجز الفقهي الإسلامي البيّن حذا بالمنظومة الفقهية التقليدية لتكريس نظرية التغلب والخروج المسلح (رغم أننا نجد اختلافات داخل مدرسة التغلب، والشيء نفسه ينسحب على مدرسة الخروج) على الحاكم، لأنه المخرج المعرفي لوجوب الخلافة وديمومتها. وهكذا أصبح التغلب والخروج تبريرا أو مساوقة للنفوذ المجتمعي للقبيلة. ضمن هذا التطور أصبحت السنّة، خاصة الأحاديث النبوية، في كثير من الأحيان أشبه بالنصوص الآيديولوجية. ودخل المحدّثون والفقهاء في معارك مع منظومة أنتجوها، فيما تغلبت القبيلة ومنظومتها العنيفة على قيَم الأمّة القرآنية والمبثوثة في السُنّة الصحيحة، التي تستوجب وتفرض الشورى، باعتبارها مركز ثقل القيم السياسية الإسلامية.
ثالثا: حاضر المسلمين اليوم لم يخرج بشكل كبير عن إنتاجات خبرة المجتمعات الإسلامية المتعددة والمتأثرة بالواقع الدولي وفعاليته، وهو كذلك سياق كانت فيه القبيلة والعشيرة قوة قاهرة تأثر بها الفقيه وطوقته في الغالب الأعم، من جهة نظره في النص الشرعي، ومن جهة واقعه وواقع السلطان والسلطة السياسية وعلاقة هذه الأخيرة بالفقه. ومعلوم أنّ هذا السياق لا يعتد كثيرا بالشورى المجتمعية والمشورة القرآنية، ولا يأخذ بعزيمة الأمّة وإرادتها الطوعية في الاختيار. وما دام هذا هو واقع الأمر- في عموم العموم حتى اليوم - فإنّ الحفاظ على وحدة الأمّة ليس واجبا دينيا فقط بالنسبة للفقيه، لكنه كذلك ممارسة معرفية تستدعي جمع الأدلة وإحاطتها بالقدسية اللازمة، حتى يفهم عموم الناس في المجتمع الإسلامي أنّ الخلافة هي النظام الواجب والوحيد لدولة المسلمين والدولة الإسلامية.
غير أنّ هذه الآيديولوجية الفقهية، وهي تركز على مثالية الخلافة، أضعفت بشكل كبير العنصر المعنوي، أي الحديث النبوي بالتعامل معه وظيفيا، وحشره في منظومة آيديولوجية خلطت الشريعة، باعتبارها نصوصا صريحة من القرآن والسنة الصحيحة، بالفقه الذي يعبّر عن اجتهادات بشرية في زمان ومكان معينين. وكذلك أضعفت المنظومة الفقهية التقليدية الجانب المادي المتمثل في تجربة الخلفاء الراشدين الثلاثينية للحكم، حيث إنها همّشت بشكل فظيع منظومة القيم التي صهرت الأمّة الإسلامية وجعلتها تعيش في ظلّ وحدة مطلقة في ما يخصّ نظام القيم. فالفقه التقليدي وهو يتعامل آيديولوجيا مع موضوع الخلافة ووجوبها، لم يطرح قدرة الأمّة المنتظمة وفق القيم الروحية نفسها للصحابة (رضوان الله عليهم) على إنتاج صيغ جديدة من الخلافة الإسلامية، تتجاوز ما تمّ إبداعه في السنوات الثلاثين من عمر الخلافة.
لقد ضيّع الفقه السياسي الإسلامي التقليدي إمكانية الاجتهاد السياسي من داخل منظومته القيمية، حين اعتبر الخبرة التاريخية مرجعية عليا. وها نحن اليوم نرى أنّ مشعل هذا التضييع الممارس فقهيا يجد له أنصارا في القرن الحادي والعشرين، وهم يحملون ما يزعمون أنه استعادة وإعلان الخلافة، وهي في حقيقة الأمر حلم لا يقرّه القرآن نصا ولا سنّة صحيحة، ولا تدعمه خبرة التجربة الإسلامية الممتدة في التاريخ أربعة عشر قرنا من الاجتماع السياسي، والأصح أربعة عشر قرنا من تعدد الاجتماع السياسي الإسلامي نظما حاكمة، والمتحد من حيث المرجعية العليا، والقيم المعرفية والسياسية.

* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس بالمغرب



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟