من التاريخ: عصر النهضة الإسباني

من التاريخ:  عصر النهضة الإسباني
TT

من التاريخ: عصر النهضة الإسباني

من التاريخ:  عصر النهضة الإسباني

أذكر أنني قمت بزيارة لإسبانيا منذ فترة غير بعيدة بعد انقطاع دام أكثر من عشرين عامًا، وبمجرد أن بدأت التجول في بعض مدنها، ومنها العاصمة مدريد، وجدتني أشعر بارتياح لا أشعر به في مدن أوروبية أخرى. وتقديري أن هناك الكثير من الأسباب التي سمحت بشعور الألفة الذي تملكني يومئذٍ، فإلى جانب أنني أتكلم الإسبانية وهو ما سمح لي بالانخراط المباشر في هذه المدينة وشعبها بلا حواجز. تقديري أن هذه العاصمة هي من أكثر العواصم الأوروبية قربًا للثقافة العربية بما جعلها قريبة إلى الوجدان، فاللغة الإسبانية بها ألفاظ كثيرة مشتقة من اللغة العربية. ولكن الأهم هو قرب هذه المدينة من الثقافة العربية بصفة عامة بعدما كان العرب يحتلون إسبانيا لقرون كثيرة حتى جاء عام 1492 فتم توحيد الدولة الإسبانية على أيدي الملك فرديناند والملكة إيزابيلا اللذين أصدرا «مرسوم الهمبرا» الذي بمقتضاه تم طرد العرب واليهود من إسبانيا لكي تحتفظ الدولة الإسبانية بالديانة الكاثوليكية خالصة. مع ذلك احتفظت الدولة الإسبانية بالكثير من تراث العرب وتأثير اليهود، خاصة، بعد أن آثر بعضهم التحول للكاثوليكية ولو ظاهريًا للبقاء في بيوتهم.
واقع الأمر أن العام نفسه شهد وميض ضوء سمح لإسبانيا بعد ذلك بتبوؤ مكانة دولية لم تشهدها من قبل، إذ اكتشف كريستوفر كولومبوس «العالم الجديد» عندما أبحر لصالح إسبانيا من الشرق إلى الغرب، حيث اكتشف الطريق إلى الأميركيتين، وسرعان ما أصبح القرن السادس عشر «قرن إسبانيا المشرق» بعدما ملكت إسبانيا أراضي ما يقرب من قارتين بكل غناهما وذهبهما وفضتهما وتجارتهما، وهو ما سمح لها بأن تصبح في غضون حقب غير كثيرة سيدة القارة الأوروبية لفترة وجيزة، إذ انطفأت شعلتها في فترة زمنية قليلة بسبب سوء الإدارة والفوضى السياسية والاقتصادية التي عمت البلاد خاصة بعد هزيمة أسطولها الشهير في معركة «الأرمادا» ضد إنجلترا في عام 1588.
مع ذلك وخلال هذه الفترة استطاعت إسبانيا أن تنهل من عصر النهضة Renaissance الذي كان قد ازدهر في إيطاليا، ثم هولندا، وغيرها من الدول، خاصة في مجالي الفن والرواية، اللذين كان لهما طابعهما الخاص الذي عكس ظروف الدولة الإسبانية في ذلك الوقت خاصة من حيث الدين وعمقه والهوية الإسبانية ذاتها. هذه الأمور لن تخفى على زائر متحف «البرادو» العظيم الذي يعد من أجمل المتاحف في العواصم الأوروبية، فروح عصر النهضة تكاد تكون مسيطرة على اللوحات المختلفة والتي لن تغيب العين عن ملاحظتها، فهذه اللوحات تعكس بوضوح هذا العصر خاصة لوحات الفنان العظيم «إل غريكو Elgreco»، وهو رسام من جزيرة كريت استوطن إسبانيا ولهذا أطلق عليه هذا الاسم والذي يعني بالإسبانية «اليوناني» نسبة إلى موطنه الأصلي. ولقد لفت نظري في هذا المتحف الكبير لوحة كبيرة للغاية يقدم فيها مجموعة من اليهود المال إلى رجال الدولة والكنيسة من أجل البقاء في إسبانيا بعد مرسوم الطرد، وهي تعكس بوضوح روح العصر والرباط الكاثوليكي - السياسي الذي ظل لقرون طويلة يسيطر على الدولة الإسبانية. وارتباطًا بالفترة ذاتها فإن اللوحة عكست روح عصر النهضة من حيث التركيز على معالم الوجوه والتراجيديا الحقيقية ونوع من الظلام الواضح للعين، وذلك شأن كثير من لوحات هذا الفنان التي عكست نفس الروح خاصة روح محاكم التفتيش Inquisition الإسبانية التي كانت تطرد من البلاد كل من لا ينتمي إلى الديانة المسيحية الكاثوليكية وهناك الكثير من اللوحات التي تعكس عمل هذه المحاكم.
لقد انعكست هذه الروح أيضًا في الأدب الإسباني في ذلك الوقت، خاصة كتابات الكاتب العظيم لوبي دي فيغا Lope de Vega الذي يعد من أهم الروائيين الإسبان، خصوصا أنه كتب ما يقرب من ألف وخمسمائة رواية لم يصل منها إلينا إلا ما يقرب من خمسمائة فقط. وتتركز كتاباته في تعظيم الملك والقضاء على الإقطاع والحفاظ على التراث الديني الكاثوليكي لإسبانيا والذي يعد جزءًا لا يتجزأ من هويتها السياسية والثقافية. كذلك شهد ذلك العصر بعض روايات للروائي ترسو دي مولينا الذي يعد من أشهرها روايته الشهيرة «دون جوان» المتناولة مغامرات أحد النبلاء النسائية وغيرها، والتي أدت في النهاية إلى هلاكه.
مع ذلك فإن أشهر ما أنجبته إسبانيا من الروائيين في عصر النهضة كان ميغيل دي سيرفانتس المؤلف الشهير لرواية «دون كيخوته Don Quixote» العظيمة. وهي رواية يرى البعض أنها أفضل رائعة على مستوى العالم. ومضمونها قصة أحد النبلاء الإسبان المضطربين نفسيًا إثر قراءاته المتعمقة في الرومانسية والبطولات العسكرية لعصر الفرسان، ما دفعه إلى القيام بدور الفارس ومحاربة طواحين الهواء على اعتبارها كائنات شيطانية. فبات يشن غاراته على قطعان من الخرفان على اعتبارها جيوشًا تمثل أعداء الدولة الإسبانية. وكانت لشخصية تابعه «سانشو بانزا»، وهو من أهم ركائز الرواية، فهي تعكس الشخصية العملية التي تعرف أن سيدها يعاني من خلل نفسي، لكنه يستمر معه سعيًا وراء العيش الرغد ويقبل بالأمر الواقع، ولقد عبرت هذه الرواية بوضوح عن نهاية عصر الإقطاع في إسبانيا وبداية عصر النهضة الإسبانية.
واقع الأمر أن عصر النهضة الإسبانية لم يدم طويلاً، فسرعان ما طويت صفحاته بحلول منتصف القرن السابع عشر لأسباب عدة منها أن إسبانيا أخذت تضعف على الساحة الدولية، كما أن تركيزها الأساسي كان على مستعمراتها الجديدة وسبل تعظيم الاستفادة المادية منها بعيدًا عن الفن والرواية. ولكن من أهم الأسباب التي أدت إلى نهاية عصر النهضة الإسبانية كان طردها العرب واليهود من البلاد، ومن ثم اعتمادها بشكل كبير على أبنائها فقط دون الأثر الخارجي، بعكس ما حدث في إيطاليا على سبيل المثال، وهو ما أضعفها بدرجة كبيرة. لذلك فإن الأدب والفن الإسبانيين لم يشملا الكثير من اللوحات والروايات بالمقارنة مع إيطاليا خلال عصر النهضة، ذلك أن الأخيرة كانت أكثر انفتاحًا على العالم الخارجي، وإن كان هذا لم يمنع من ظهور رسامين عظام من أمثال غويا خلال القرن الثامن عشر بعد ذلك.
أذكر جيدًا الانطباع الذي جاءني بعد جولاتي في متحف «البرادو» وفي مدينة مدريد الجميلة بعد مشاهدة اللوحات العظيمة والتثقف ببعض روايات الأدب الإسباني. يومها أيقنت أن القوة السياسية والعسكرية لا بد أن يكون لها مرادف فكري وفني. ثم إن الشعوب لا تحيا بمعزل عن التفاعل بعضها مع بعض، وأن بواعث النهضة والثقافة والفكر لا تتدفق من العزلة والبعد عن الآخر، بل من التقرب والتناغم، بل والاختلاف، وما أدل على ذلك من الفن والرواية، فهذه سنة الله في خلقه.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.