من التاريخ: عصر النهضة الإسباني

من التاريخ:  عصر النهضة الإسباني
TT

من التاريخ: عصر النهضة الإسباني

من التاريخ:  عصر النهضة الإسباني

أذكر أنني قمت بزيارة لإسبانيا منذ فترة غير بعيدة بعد انقطاع دام أكثر من عشرين عامًا، وبمجرد أن بدأت التجول في بعض مدنها، ومنها العاصمة مدريد، وجدتني أشعر بارتياح لا أشعر به في مدن أوروبية أخرى. وتقديري أن هناك الكثير من الأسباب التي سمحت بشعور الألفة الذي تملكني يومئذٍ، فإلى جانب أنني أتكلم الإسبانية وهو ما سمح لي بالانخراط المباشر في هذه المدينة وشعبها بلا حواجز. تقديري أن هذه العاصمة هي من أكثر العواصم الأوروبية قربًا للثقافة العربية بما جعلها قريبة إلى الوجدان، فاللغة الإسبانية بها ألفاظ كثيرة مشتقة من اللغة العربية. ولكن الأهم هو قرب هذه المدينة من الثقافة العربية بصفة عامة بعدما كان العرب يحتلون إسبانيا لقرون كثيرة حتى جاء عام 1492 فتم توحيد الدولة الإسبانية على أيدي الملك فرديناند والملكة إيزابيلا اللذين أصدرا «مرسوم الهمبرا» الذي بمقتضاه تم طرد العرب واليهود من إسبانيا لكي تحتفظ الدولة الإسبانية بالديانة الكاثوليكية خالصة. مع ذلك احتفظت الدولة الإسبانية بالكثير من تراث العرب وتأثير اليهود، خاصة، بعد أن آثر بعضهم التحول للكاثوليكية ولو ظاهريًا للبقاء في بيوتهم.
واقع الأمر أن العام نفسه شهد وميض ضوء سمح لإسبانيا بعد ذلك بتبوؤ مكانة دولية لم تشهدها من قبل، إذ اكتشف كريستوفر كولومبوس «العالم الجديد» عندما أبحر لصالح إسبانيا من الشرق إلى الغرب، حيث اكتشف الطريق إلى الأميركيتين، وسرعان ما أصبح القرن السادس عشر «قرن إسبانيا المشرق» بعدما ملكت إسبانيا أراضي ما يقرب من قارتين بكل غناهما وذهبهما وفضتهما وتجارتهما، وهو ما سمح لها بأن تصبح في غضون حقب غير كثيرة سيدة القارة الأوروبية لفترة وجيزة، إذ انطفأت شعلتها في فترة زمنية قليلة بسبب سوء الإدارة والفوضى السياسية والاقتصادية التي عمت البلاد خاصة بعد هزيمة أسطولها الشهير في معركة «الأرمادا» ضد إنجلترا في عام 1588.
مع ذلك وخلال هذه الفترة استطاعت إسبانيا أن تنهل من عصر النهضة Renaissance الذي كان قد ازدهر في إيطاليا، ثم هولندا، وغيرها من الدول، خاصة في مجالي الفن والرواية، اللذين كان لهما طابعهما الخاص الذي عكس ظروف الدولة الإسبانية في ذلك الوقت خاصة من حيث الدين وعمقه والهوية الإسبانية ذاتها. هذه الأمور لن تخفى على زائر متحف «البرادو» العظيم الذي يعد من أجمل المتاحف في العواصم الأوروبية، فروح عصر النهضة تكاد تكون مسيطرة على اللوحات المختلفة والتي لن تغيب العين عن ملاحظتها، فهذه اللوحات تعكس بوضوح هذا العصر خاصة لوحات الفنان العظيم «إل غريكو Elgreco»، وهو رسام من جزيرة كريت استوطن إسبانيا ولهذا أطلق عليه هذا الاسم والذي يعني بالإسبانية «اليوناني» نسبة إلى موطنه الأصلي. ولقد لفت نظري في هذا المتحف الكبير لوحة كبيرة للغاية يقدم فيها مجموعة من اليهود المال إلى رجال الدولة والكنيسة من أجل البقاء في إسبانيا بعد مرسوم الطرد، وهي تعكس بوضوح روح العصر والرباط الكاثوليكي - السياسي الذي ظل لقرون طويلة يسيطر على الدولة الإسبانية. وارتباطًا بالفترة ذاتها فإن اللوحة عكست روح عصر النهضة من حيث التركيز على معالم الوجوه والتراجيديا الحقيقية ونوع من الظلام الواضح للعين، وذلك شأن كثير من لوحات هذا الفنان التي عكست نفس الروح خاصة روح محاكم التفتيش Inquisition الإسبانية التي كانت تطرد من البلاد كل من لا ينتمي إلى الديانة المسيحية الكاثوليكية وهناك الكثير من اللوحات التي تعكس عمل هذه المحاكم.
لقد انعكست هذه الروح أيضًا في الأدب الإسباني في ذلك الوقت، خاصة كتابات الكاتب العظيم لوبي دي فيغا Lope de Vega الذي يعد من أهم الروائيين الإسبان، خصوصا أنه كتب ما يقرب من ألف وخمسمائة رواية لم يصل منها إلينا إلا ما يقرب من خمسمائة فقط. وتتركز كتاباته في تعظيم الملك والقضاء على الإقطاع والحفاظ على التراث الديني الكاثوليكي لإسبانيا والذي يعد جزءًا لا يتجزأ من هويتها السياسية والثقافية. كذلك شهد ذلك العصر بعض روايات للروائي ترسو دي مولينا الذي يعد من أشهرها روايته الشهيرة «دون جوان» المتناولة مغامرات أحد النبلاء النسائية وغيرها، والتي أدت في النهاية إلى هلاكه.
مع ذلك فإن أشهر ما أنجبته إسبانيا من الروائيين في عصر النهضة كان ميغيل دي سيرفانتس المؤلف الشهير لرواية «دون كيخوته Don Quixote» العظيمة. وهي رواية يرى البعض أنها أفضل رائعة على مستوى العالم. ومضمونها قصة أحد النبلاء الإسبان المضطربين نفسيًا إثر قراءاته المتعمقة في الرومانسية والبطولات العسكرية لعصر الفرسان، ما دفعه إلى القيام بدور الفارس ومحاربة طواحين الهواء على اعتبارها كائنات شيطانية. فبات يشن غاراته على قطعان من الخرفان على اعتبارها جيوشًا تمثل أعداء الدولة الإسبانية. وكانت لشخصية تابعه «سانشو بانزا»، وهو من أهم ركائز الرواية، فهي تعكس الشخصية العملية التي تعرف أن سيدها يعاني من خلل نفسي، لكنه يستمر معه سعيًا وراء العيش الرغد ويقبل بالأمر الواقع، ولقد عبرت هذه الرواية بوضوح عن نهاية عصر الإقطاع في إسبانيا وبداية عصر النهضة الإسبانية.
واقع الأمر أن عصر النهضة الإسبانية لم يدم طويلاً، فسرعان ما طويت صفحاته بحلول منتصف القرن السابع عشر لأسباب عدة منها أن إسبانيا أخذت تضعف على الساحة الدولية، كما أن تركيزها الأساسي كان على مستعمراتها الجديدة وسبل تعظيم الاستفادة المادية منها بعيدًا عن الفن والرواية. ولكن من أهم الأسباب التي أدت إلى نهاية عصر النهضة الإسبانية كان طردها العرب واليهود من البلاد، ومن ثم اعتمادها بشكل كبير على أبنائها فقط دون الأثر الخارجي، بعكس ما حدث في إيطاليا على سبيل المثال، وهو ما أضعفها بدرجة كبيرة. لذلك فإن الأدب والفن الإسبانيين لم يشملا الكثير من اللوحات والروايات بالمقارنة مع إيطاليا خلال عصر النهضة، ذلك أن الأخيرة كانت أكثر انفتاحًا على العالم الخارجي، وإن كان هذا لم يمنع من ظهور رسامين عظام من أمثال غويا خلال القرن الثامن عشر بعد ذلك.
أذكر جيدًا الانطباع الذي جاءني بعد جولاتي في متحف «البرادو» وفي مدينة مدريد الجميلة بعد مشاهدة اللوحات العظيمة والتثقف ببعض روايات الأدب الإسباني. يومها أيقنت أن القوة السياسية والعسكرية لا بد أن يكون لها مرادف فكري وفني. ثم إن الشعوب لا تحيا بمعزل عن التفاعل بعضها مع بعض، وأن بواعث النهضة والثقافة والفكر لا تتدفق من العزلة والبعد عن الآخر، بل من التقرب والتناغم، بل والاختلاف، وما أدل على ذلك من الفن والرواية، فهذه سنة الله في خلقه.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.