عودة سينما الغرب الأميركي بحلة جديدة

30 فيلمًا في 3 أعوام تؤكد أن الوسترن لم يمت

من «المنبعث»: البقاء للأقوى  -  سكوت إيستوود في «ديابلو»
من «المنبعث»: البقاء للأقوى - سكوت إيستوود في «ديابلو»
TT

عودة سينما الغرب الأميركي بحلة جديدة

من «المنبعث»: البقاء للأقوى  -  سكوت إيستوود في «ديابلو»
من «المنبعث»: البقاء للأقوى - سكوت إيستوود في «ديابلو»

لا تذكر أمام المخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو أن فيلمه الذهبي «المنبعث» هو فيلم وسترن. لن يغضب منك، لكنه سينفي بشدّة ويؤكد لك أنه لا ينتمي إلى تلك السينما. لا ينتمي إلى أي نوع محدد، فهو دراما عن السعي للبقاء وهذا يمكن له أن يقع في أي مكان وفي أي زمان.
لكن «المنبعث» يسرد أحداثًا تقع في ولاية غربية هي وايومنغ. صحيح أنه لا يدور في بلدة يحكمها «شريف» ولا هو عن عصابة من القتلة يستأجرها أحد كبار قاطنيها لكي يطرد المزارعين من الأراضي التي يريد الاستيلاء عليها، ولا هو عن بطل يواجهه أو يسعى انتقامًا، لكنه يقع في الزمن الصحيح لسينما الغرب، فيه هنود، وفيه رجال مسلّحون بل فيه قلعة كتلك التي كنا نشاهدها في أفلام العسكر والهنود الحمر القديمة.
صحيح أن معالجة إيناريتو لسيناريو يحتوي على ذلك السعي الحثيث للبقاء حيّا في المجهول وعلى قمم جبال ثلجية تعيش فيها الذئاب والدببة والهنود الحمر، مختلفة عما يقدم عليه مخرج آخر يريد تحقيق فيلم نمطي من أفلام الوسترن، لكن المعالجة لا تحدد، إلا بقدر، لأي صنف يستطيع الفيلم أن ينتمي إليه. كذلك فإن هذه الخصائص المذكورة (هنود حمر، ثلج، جبال، دببة، ذئاب) وردت، على سبيل المثال، في فيلم سيدني بولاك «جيراميا جونسون» (1972) بطولة روبرت ردفورد والفيلم كان وسترن.
* ابن إيستوود
مع ظهور هذا الفيلم يصاحبه فيلم وسترن (لا نقاش فيه) هو «الكارهون الثمانية» لعاشق العصر كوينتين تارانتينو، يمكن ملاحظة وجود ردّة صوب هذا النوع من الأفلام التي كانت، إلى الستينات، خبز وملح السينما الأميركية. هناك عشرة أفلام وسترن عرضت في العام الماضي وبعضها يعرض حاليًا، إلى جانب أربعة أفلام نعلم أنها تنتظر العرض من النوع ذاته. وإذا ما شئنا التمحيص، فإن عام 2014 عرف سبعة أفلام وسترن وأحدى عشر فيلما تم إنتاجها وعرضها في عام 2013 ولو أن بعضها تم توزيعه في مطلع السنة التالية.
هذا مجموعه 32 فيلما (حصيلة ما نعرف) أغلبها وسترن غير مدموج مع أي نوع آخر، كالكوميديا أو الرعب، ينضح بحب للنوع مع سوء استخدامه في بعض الأحيان.
«المنبعث» و«الكارهون الثمانية» نفسهما، مصاحبان حاليًا بفيلم عنوان «السخفاء الستة» لفرانك كوراسي مع أدام ساندلر وتايلور لوتنر في البطولة. يدور حول رجل اكتشف أن لديه خمسة أخوة من خمس أمهات مختلفات كلهن من قبيلة هندية فيسعى معهم للبحث عن أبيهم. كعادة أفلام هذا النوع فإن المزيج يهدف لجذب جمهورين في آن واحد.
وهناك فيلم وسترن جاد آخر معروض بعنوان «ديابلو» من إخراج لورنس رووِك مع سكوت إيستوود في البطولة. سكوت إيستوود ليس سوى ابن كلينت إيستوود الذي بنى ما بناه من شهرة على سلسلة أفلام وسترن بدأت بمخرجين آخرين، من بينهم سيرجيو ليوني ودونالد سيغال وجون ستيرجز، ثم تخللتها أفلام وسترن من إخراجه هو حتى عام 1992 عندما أخرج وأنتج كما قام ببطولة «غير المسامَح».
«ديابلو» قريب في دكانة نبرته وحكايته من فيلم «جوال السهول العالية» (High Plains Drifter) سنة 1973 (كان أكثر أفلام إيستوود خروجًا عن صورة البطل المعهودة). في «ديابلو» حكاية مجند سابق في رحلة انتقام فوق ربوع كولورادو بحثًا عن ثلاثة مكسيكيين خطفوا زوجته. الأحداث ستؤكد أن هذا ليس إلا في باله، وأنه في الواقع قاتل ملبوس بالشر وذلك من خلال نقلة مفاجئة تودي الفيلم في متاهة خاسرة. بقدر ما بداية الفيلم جيّدة وقوية، بقدر ما النهاية بشعة وعدمية تلغي معظم حسنات الفيلم.
* غرب المسيسيبي
الثلوج سمة مشتركة بين «المنبعث» و«الكارهون الثمانية» و«ديابلو»: كم كبير منها في الأفلام الثلاثة و«المنبعث» و«ديابلو» تم تصويرهما في ولاية ألبرتا الكندية (جزئيًا بالنسبة لفيلم إيناريتو) التي مثلت ولاية وايومينغ في الفيلم الأول وكولورادو في الفيلم الثاني.
الأفلام الثلاثة المذكورة من تصوير عمالقة في ميدانهم: إيمانويل لوبيزكي («المنبعث») وروبرت رتشردسون («الكارهون الثمانية») ودين كَندي («ديابلو»)، وما تنجح هذه الأفلام في بعثه هو إلقاؤها نظرة على العالم الذي توقفنا عن التعرّف إليه منذ أن لعبت هوليوود بنوع «الوسترن» وصاغته مدموجًا بأعمال كوميدية ورعب («كاوبويز ومصاصو دماء») وحتى خيال علمي («كاوبويز وغرباء فضاء»).
المحاولة كانت نصف جادة وهدفت إلى تعزيز النوع المتراجع في الشعبية (الوسترن) بالنوع الرائج شعبيًا (الرعب والكوميديا خصوصًا) وبقي هذا المنوال سائدًا حتى السقوط الكبير الذي أنجزه فيلم غور فبربينسكي «ذا لون رانجر» قبل عامين عندما حدا التفاؤل بهوليوود لتمويل فيلم ضخم الإنتاج بميزانية 215 مليون دولار (كانت تكفي في الأربعينات لصنع 215 فيلما جيدا) لمجرد أن فربينسكي أنجز إيرادات كبيرة في سلسلة مُعادة بدورها هي «قراصنة الكاريبي». النتيجة ليست قرار الاستوديو المنتج «وولت ديزني» اعتبار الفيلم خاسرًا أكيدًا فقط، بل وبالاً على الممثل جوني دَب الذي كان من بين الطامحين لإضافة نجاح جديد فوق نجاحاته السابقة.
لكن النتيجة المادية لهذا الفيلم (وهو رديء فنيًا أيضًا) لا علاقة لها بعودة الوسترن من عدمها، لأن السبب في أنه لم يمت (ولو أنه في بعض الأحيان يبدو كما لو أنه يلفظ أنفاسه) هو وجود حلم لدى كثير من المخرجين الذين شاهدوا هذه الأفلام وهم صغار أو أدركوا ما احتلته من أهمية غابرة حين قرروا ذات يوم دخول العمل السينمائي. إن تحقق فيلم وسترن اليوم هو كل ما بقي من نوستالجيا حانية لا للغرب ذاته فقط، بل للنوع السينمائي بحد ذاته.
الكلمة ذاتها عنت منذ البداية كل ما هو غرب نهر المسيسيبي، لذلك فإن أفلام الأربعينات والخمسينات التي تداولت المعارك بين البريطانيين والفرنسيين في شرق وشمالي شرق أميركا، مثل «آخر الموهيكانز» (نقلت أربع مرات من الرواية إلى السينما آخرها سنة 1992 على يدي المخرج مايكل مان) لا تعتبر، تصنيفًا، أفلام وسترن.
وفي حين أن التضاريس الجغرافية والطبيعية شاركت في منح أفلام الغرب هذا الاسم، فإن الحكايات التي وردت في مجملها سبب آخر للتمييز. هذه هي أميركا البكر التي لم يتم اكتشافها كاملة إلا من بعد نحو 150 سنة على الاستقلال. الخرائط القديمة الأولى كانت تُظهر ولايات الشرق الأميركي وأعلاه الشمالي حتى نهر المسيسيبي الكبير. غرب ذلك النهر عبارة «أرض غير مكتشفة» وفي بعضها «أرض مجهولة». الانتقال إلى غربي النهر كان انفلاتًا من الشرق المثقّف صوب الغرب المتحرر وبأثمان باهظة مثل الحروب التي قضت على شعوب من المستوطنين الأصليين بكاملها، ومثل العصابات التي استولت على حياة المدن وأولئك الأفراد الذين واجهوها.



«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).