الفلسفة.. خمس فترات كبرى

الوزير السابق وفيلسوف فرنسا الأول يروي قصتها من هيراقليطس حتى فوكو

الكتاب: الأجمل.. تاريخ الفلسفة  -  المؤلف: لوك فيري
الكتاب: الأجمل.. تاريخ الفلسفة - المؤلف: لوك فيري
TT

الفلسفة.. خمس فترات كبرى

الكتاب: الأجمل.. تاريخ الفلسفة  -  المؤلف: لوك فيري
الكتاب: الأجمل.. تاريخ الفلسفة - المؤلف: لوك فيري

هل يمكن لكتاب واحد مهما علا شأنه وكبر حجمه أن يلم بتاريخ الفلسفة منذ نحو الثلاثة آلاف عام وحتى اليوم؟ هل يمكن لمثقف واحد أن يستعرض لنا نظريات الفلاسفة الكبار بدءا من هيزيود وهيراقليطس وأفلاطون وأرسطو وانتهاء بميشال فوكو وهابرماس مرورا بديكارت وسبينوزا وجان جاك روسو وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد وهيدغر وسارتر، إلخ، إلخ..؟ هذا هو التحدي الكبير الذي واجهه لوك فيري ولم يفشل في المواجهة بل كان على مستوى التحدي. والسبب هو أنه مختص كبير في تاريخ الفلسفة وقد أمضى عمره في دراستها وتدريسها. وعلى سبيل النكتة فقد كان يعزف الموسيقى في مقاهي ميونيخ ويمد يده لكي يعطوه بعض الفلوس كما يفعل الشحاذون المحترمون. على هذا النحو كان يكسب رزقه في شبابه الأول لكي يستطيع إكمال دراساته الفلسفية في الجامعات الألمانية. ثم قفز بعدئذ في سلم الشهرة والمجد حتى بلغ أعلى الدرجات الجامعية والأكاديمية، بل وأصبح وزيرا للتربية والتعليم في عهد جاك شيراك. وهكذا أضاف إلى ثقافته النظرية الواسعة تلك الخبرة العملية والسياسية التي تنقص المثقفين عادة. وعن كل ذلك نتج لوك فيري الحالي: أي فيلسوف فرنسا الأول في هذا العصر. وبالتالي فهو قادر على أن يطل على تاريخ الفلسفة من عل شاهق ويراه من خلال نظرة بانورامية شاملة من أوله إلى آخره. وهذا ما يهمنا نحن المثقفين العرب في الموضوع. نحن أيضا نريد أن نعيد للفلسفة احترامها ومكانتها في بلادنا بعد أن فقدتها منذ الدخول في عصر الانحطاط. بل ونحن أحوج إلى تاريخ الفلسفة هذا من الفرنسيين والإنجليز والألمان وبقية الأوروبيين. لماذا؟ لأنهم شبعوا فلسفة وتفلسفا منذ قرنين وحتى الآن. ثم لأن المراجع الفلسفية في لغاتهم لا تحصى ولا تعد. ثم لأن الفلسفة ليست محاربة عندهم أبدا كما هو عليه الحال عندنا حيث يلعنها المتطرفون ويكفرونها منذ زمن طويل.
لكي يستعرض المؤلف تاريخ الفلسفة بشكل منهجي واضح فإنه يقسمه إلى خمس فترات أساسية. الفترة الأولى تخص العصور اليونانية - الرومانية القديمة الممتدة من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الخامس بعد الميلاد: أي من هزيود وطاليس إلى أرسطو وفلاسفة الرومان.. وفي هذه المرحلة سيطرت رؤية معينة للعالم هي التي يدعوها المؤلف: بالنظام المتناغم للكون. بمعنى أنهم كانوا ينظرون إلى العالم بصفته كونا مشكلا بطريقة متناغمة ومتناسقة ومنسجمة. وهدف كل إنسان بعد موته أن يندرج في هذا النظام المتناسق للعالم. وأما الفترة الثانية فتخص العصور المسيحية التي انتصرت على الفلسفة اليونانية وعلى الديانة اليهودية في آن معا. وهي ممتدة على عشرة قرون بدءا من القديس أغسطينوس وحتى القديس توما الأكويني. ولكنها تشمل أيضا الفلسفة العربية من خلال ممثلين أساسيين هما ابن رشد وابن ميمون. صحيح أن ابن ميمون كان يهوديا ولكنه عاش في بلاد الإسلام طيلة حياته كلها وكتب مؤلفه الأساسي باللغة العربية: «دلالة الحائرين». وبالتالي فهو يعد عربيا من الناحية الثقافية. كل من ألف وأبدع في اللغة العربية فهو عربي. وهذه الفترة التي شهدت انتصار الدين لم تعد تجد الخلاص في الاندراج في النظام الكوني المتناسق للعالم وإنما من خلال الإيمان بالله والنجاة في الدار الآخرة. وأما الفترة الثالثة من تاريخ الفلسفة الطويل فقد ابتدأ مع عصر النهضة الذي كان بمثابة انقلاب على العصور الوسطى المسيحية. فكما أن المسيحية انتصرت على الفلسفة قبل ألف سنة فإن الفلسفة انتقمت لذاتها وانتصرت على المسيحية بدءا من انبثاق الأزمنة الحديثة في عصر النهضة. وهذا ما يدعوه لوك فيري باسم: استهلال عهد النزعة الإنسانية الأولى. وهذه الفترة تمتد من «بيك الميراندولي» في القرن الخامس عشر وحتى كلود ليفي ستروس في القرن العشرين. ولكن هذه الفترة التنويرية الضخمة التي شهدت انتصار الحداثة في أوروبا تشمل عدة لحظات أساسية كاللحظة الديكارتية، واللحظة الكانطية، واللحظة الهيغلية - الماركسية، إلخ.. وهذه الفترة الضخمة شهدت انتصار الأنوار على الأصولية المسيحية. وساد عندئذ الاعتقاد بأن خلاص الإنسان سيكون عن طريق شيء جديد هو: الإيمان بفكرة التقدم التاريخي الناتج عن العلم والتكنولوجيا. أما الفترة الرابعة من تاريخ الفلسفة فيدعوها المؤلف: بزمن التفكيك. وهنا يتحدث عن ثلاث لحظات أساسية: لحظة شوبنهاور، ولحظة نيتشه، ولحظة هيدغر. ولكنه يتحدث أيضا عن تلامذة هؤلاء من أمثال فوكو وديلوز ودريدا.. وهذه الفترة حاولت تفكيك أوهام الفترة السابقة التي أغرقت في الإيمان بالعلم والتكنولوجيا. ولهذا السبب انهمك هؤلاء الفلاسفة في تفكيك الأنظمة الفلسفية الكبرى لديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل وسواهم من فلاسفة الأنوار. وهنا نلاحظ أن فلاسفة الأنوار الذين فككوا الأصولية المسيحية وانتصروا عليها تعرضوا هم بدورهم للتفكيك! أما اللحظة الخامسة والأخيرة من تاريخ الفلسفة، أي لحظتنا نحن، فيدعوها لوك فيري باستهلال عهد النزعة الإنسانية الثانية: أو ثورة الحب. وهنا يعد نفسه المنظر الأكبر لهذه المرحلة من تاريخ الفلسفة الغربية. هنا يبلور الخطوط العريضة لفكره أو نظريته الفلسفية الشاملة عن معنى الوجود.
لنحاول الآن أن ندخل في التفاصيل أكثر. يرى لوك فيري أن هذه الفترات الخمس الكبرى من تاريخ الفلسفة كانت تحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي الحياة الطيبة والخيرة؟ ما معنى الوجود؟ كيف يمكن أن نفسر العالم والكون؟ كيف يمكن أن ننتصر على الخوف من الموت؟ وهل يوجد شيء بعد الموت يا ترى أم لا؟ هل هناك عدم أو فناء أبدي كما يقول الملاحدة؟ من الواضح أن كل فترة كانت تقدم أجوبتها. وهي أجوبة تختلف من فترة إلى أخرى. فمثلا نلاحظ أن المسيحية انتصرت على الفلسفة اليونانية لأنها قدمت جوابا أكثر إغراء عن مسألة الموت. الفلسفة اليونانية كانت تعتبر أن الموت هو فناء أبدي ولا يوجد شيء بعده. كل واحد منا يلتحق بالمكان المخصص له في إحدى زوايا الكون ويصبح ذرة من ذراته وانتهى الأمر. أما المسيحية فقالت بوجود خلاص فردي إذا ما آمن الإنسان بالله والدين. قالت للأوروبيين: ستبعثون بعد الموت جسدا وروحا وسوف تلتقون بأحبتكم وكأنكم فارقتموهم البارحة. بمعنى آخر فإن الإيمان بالدين يعني «موت الموت» أو الانتصار على الموت من خلال البعث والنجاة في الدار الآخرة. ومن هذه الناحية فإن الإسلام قدم التصور الأكمل والأجمل على حياة ما بعد الموت والنعيم الأبدي «وجنة عرضها السماوات والأرض». هنا يتفوق جواب الدين على جواب الفلسفة بما لا يقاس.
أما المرحلة الثالثة من تاريخ الفلسفة أي مرحلة الحداثة فقد بنت نظريتها على الإيمان بالإنسان ومقدرته على صنع المعجزات. من هنا تسميتها بالنزعة الإنسانية الأولى. إنها تثق بالإنسان ومقدرته على تحسين وضعه بواسطة العقل لا النقل، بواسطة العلم الطبيعي لا اللاهوت المسيحي. وهي التي دشنها ديكارت عندما قال عبارته الشهيرة: «ينبغي أن نصبح أسيادا على الطبيعة ومالكين لها». كيف؟ عن طريق العلم والتكنولوجيا. وهذا هو مشروع الأنوار الذي وصل إلى غايته عندما شكل أكبر حضارة صناعية تكنولوجية على وجه الأرض. وعلى أثر ديكارت مشى كانط وهيغل وكل فلاسفة الحداثة الذين فككوا التراث المسيحي والعقلية الغيبية للقرون الوسطى. ولكن بعدئذ جاء دور فلاسفة الشك والارتياب بحسب تسمية بول ريكور. وهم ماركس ونيتشه وفرويد ولكن قبلهم شوبنهاور. وهؤلاء راحوا يفككون الفلسفة الكلاسيكية ويشككون بثقتها المطلقة بذاتها. ولكن هذه المرحلة التفكيكية للعقل الغربي وصلت إلى نهاياتها على يد هيدغر وفوكو ودريدا وديلوز. فقد بالغ هؤلاء في تفكيك العقلانية الغربية إلى حد الإطاحة بها. لقد انتقلوا من النقيض إلى النقيض وسقطوا في مطب النسبوية والعدمية. لا ريب في أن تفكيكهم للدوغمائية الفلسفية الانغلاقية كان تحريريا وضروريا. ولكن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده. ولهذا السبب فإن لوك فيري يدعونا إلى إغلاق مرحلة التفكيك والانتقال إلى ما بعدها. وما بعدها هو المرحلة الحالية التي يعد نفسه المنظر الأكبر لها.
إنه كتاب ممتع حقا ومفيد جدا لمن يريد التعرف على مختلف مراحل الفكر البشري. إنه يلقي إضاءات ساطعة على تاريخ الفلسفة والفلاسفة على مر العصور. إنه لشيء مهم أن نعرف ما الذي أضافه ديكارت إلى أرسطو، أو سبينوزا إلى ديكارت، أو كانط إلى سبينوزا ولايبنتز وديكارت، أو هيغل إلى كانط، أو نيتشه إلى هيغل، أو هيدغر إلى نيتشه، إلخ، إلخ.. كلها أشياء يتخبط فيها المثقفون العرب حاليا دون أن يصلوا إلى نتيجة واضحة في معظم الأحيان. والسبب هو أننا نتسرع في نقل النظريات الفلسفية الغربية دون أن تكون ناضجة في أذهاننا. ميزة لوك فيري في كتابه هذا ومعظم كتبه الأخرى هي أنه يحاول أن يكون واضحا كل الوضوح فلا يلقي الكلام على عواهنه ولا يسقط في لغة المعميات الغامضة التي توهمنا بأن الفلسفة كلها ليست إلا مجموعة طلاسم مبهمة. ولهذا السبب كرهها الكثيرون عندنا وانصرفوا عنها معتقدين أنه لا طائل من ورائها. ولكن الفلسفة الحقيقية ليست كذلك. إنها فكر نير، واضح، لا لبس فيه ولا غموض. إنها تساعدنا على فهم المجتمع والعالم والقضايا الكبرى. لا يوجد فيلسوف كبير واحد إلا وهو يريد التوصل إلى نتيجة محسوسة، إلى فتح جديد من فتوحات الفكر. ولذا ينبغي التخلي عن التصور القديم العقيم للفلسفة: أي عن الفهم التجريدي السائد عنها في العالم العربي.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي