هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»

دستور المتطرفين الذي سعى إلى استدعاء الصدام مع الغرب عبر العنف الشديد

هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»
TT

هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»

هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»

يلف الغموض هوية المؤلف الحقيقي لكتاب «إدارة التوحش»، الذي يعتبره كثيرون دستور الحركات المتطرفة التي تمارس الإرهاب باسم الإسلام. وفي التحقيق التالي نشير إلى شخصيتين يختلف المطلعون على نشاطات هذه الحركات ومتابعو مسيرتها على نسبة مؤلف الكتاب إلى إحداهما. الشخصية الأولى «أبو مصعب السوري» أو «عمر عبد الحكيم» أو «مصطفى عبد القادر»، وهو مسجون في أحد سجون النظام السوري. والثانية «محمد خليل الحكايمة»، الذي قتل بغارة «درون» أميركية عام 2008 في إقليم وزيرستان الباكستاني على الحدود مع أفغانستان.

في عام 2008، عثرت الاستخبارات الأميركية على وثائق ورسائل موجهة من أسامة بن لادن وإليه تشمل فصولا من كتاب غريب، لم تكن أجهزة الاستخبارات هذه على علم بأن المتطرفين يتداولونه بينهم بكثير من الاحترام والقدسية. وهذا الكتاب يحمل عنوان «إدارة التوحش»، وهو مؤلف صغير الحجم (113 صفحة)، لمؤلف مجهول يحمل اسم «أبو بكر ناجي».
تختلف المعلومات هنا اختلافا كبيرا. ففي العاصمة البريطانية لندن ثمة من يعتقد الآن على نطاق واسع أنه «أبو مصعب السوري» الذي وضع العديد من المؤلفات التي تدعو إلى التطرف، وكان يوقع باسم عمر عبد الحكيم. وهو محتجز الآن في سجون النظام السوري، ويعرف هناك باسم مصطفى بن عبد القادر. وحسب هؤلاء فإن من أبرز كتبه في عدة أجزاء «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، و«المنهج والعقيدة القتالية»، و«التربية والعقيدة القتالية»، و«الجبهات والجهاد الفردي»، و«الأسس الشرعية للإرهاب»، و«التدريب والإعلام والتمويل» وكتبه أبو مصعب السوري إبان وجوده في أوروبا بين إسبانيا وبريطانيا ودول أخرى. وكان «أبو مصعب» واحدا من 35 شخصا تضمنتهم لائحة اتهام من 695 صفحة أصدرها القاضي الإسباني بلتازار غارزون في سبتمبر (أيلول) 2003. ودعت لائحة الاتهام إلى القبض على 34 رجلا آخر، بينهم أسامة بن لادن، بتهم تتضمن عضوية جماعة إرهابية والتخطيط لأعمال إرهابية.
لكن على الجانب الآخر، يتجه عدد من منظرّي «القاعدة» للقول إن مؤلف «إدارة التوحش» - أي «أبو بكر ناجي» - هو محمد خليل الحكايمة، مسؤول الدعاية في «القاعدة»، الذي عاش في بريطانيا لفترة قصيرة، مثل أبو مصعب السوري، بعد طلبه اللجوء السياسي قبل أن يفرّ في أعقاب وضع اسمه على لائحة الإرهاب الأميركية بجانب بن لادن زعيم «القاعدة» الراحل، ثم يقتل في غارة «درون» (طائرة من دون طيار) أميركية في إقليم وزيرستان بباكستان عام 2008.
الكتاب حقا دليل مخيف على تكتيكات عنيفة جدا احتضنت اليوم من قبل تنظيم داعش وقائده أبو بكر البغدادي. ويقترح الكتاب أن يعمل المتشددون على جر الولايات المتحدة إلى حرب ستتحول في نهاية المطاف إلى «حرب استنزاف» قد تجبر الولايات المتحدة على الاستسلام. وتتطلب هذه الاستراتيجية استقطاب العالم الإسلامي وإقناع المسلمين المعتدلين الذين كانوا يأملون بالحماية من جانب الولايات المتحدة بأن هذا الأمر لا يجدي نفعا. وفي مطلق الأحوال كتب «ناجي» خطة الحرب في أعقاب الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 وغزو العراق عام 2003. وكان الموضوع الرئيسي له الحاجة إلى جر الولايات المتحدة إلى أعمق نقطة في الصراع عبر أراضي المسلمين، مع التركيز على تقويض القوة الأميركية عبر العنف الشديد الذي كلما ازداد وحشية يصبح أفضل، كما يكتب المؤلف.
إنه ليس مجرد العنف المتطرف الذي يسعى لإضعاف الغرب، لكنه يسعى أيضا إلى إجبار المسلمين على الاختيار. في الاضطرابات بالأراضي العربية المستقرة سابقا، فإن من سموا بـ«الجهاديين» يستمدون أسماءهم من خلال «إدارة التوحش». ويحث المؤلف «أبو ناجي» في الكتاب القرّاء على مراجعة كتب إدارة الأعمال، ويرى أن فترة «إدارة التوحش» هي الأخطر على الأمة، وذلك بالتحول من مقاتلة «العدو القريب» المتمثل في الأنظمة السياسية والنخب العربية والإسلامية التي يصفها بـ«المرتدة»، إلى مقاتلة «العدو البعيد» المتمثل بالغرب عموما، والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل خصوصا. وللعلم، الكتاب متاح بأكثر من 15 ألف رابط على شبكة الإنترنت، ولقد ترجمته وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) للغة الإنجليزية تحت عنوان «إدارة الوحشية»، وهو محظور في العديد من الدول العربية.
«التوحش»، كما يعرفه الكتاب، حالة من الفوضى تدب في أوصال دولة ما أو منطقة بعينها، ويصار إلى استغلالها إذا ما زالت عنها قبضة السلطات الحاكمة الحديدية أو ضعفت. وهذه الحالة من الفوضى ستكون «متوحشة» وسيعاني منها السكان المحليون، لذلك وجب على «القاعدة» - التي ستحل محل السلطات الحاكمة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية - أن تحسن «إدارة التوحش» إلى أن تستقر الأمور.
ويركز المؤلف على التنظير لما بعد مرحلة سبتمبر 2001، وضرورة استدراج الولايات المتحدة إلى حروب خارج الأراضي الأميركية، لتشتيت قواتها وإضعافها، وهذا ما يفسر تركيزه على العمليات الإرهابية التي تمت في السعودية منذ عام 2003 وتفجيرات بالي بإندونيسيا، وغيرها، للاستفادة منها في عمليات جديدة.
خبراء الأمن لا يجزمون حيال شخصية «أبو بكر ناجي» مع اتفاقهم على أنه شخصية غير حقيقية لشخص محدد.. «وهو في نهاية الأمر اسم حركي مستعار، وليس اسما حقيقيا لشخص معروف، وقد يكون هذا الكتاب هو من صنع (مجموعة عمل) وليس بالضرورة أن يكون شخصا واحدا محددا». لكن اللافت أن أبو مصعب السوري في بيانه ذي الـ1600 صفحة تحت اسم «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، يرى أن ما يسمى «النموذج المركزي لإدارة الجهاد» لا يمكن أن يتغلب على الجيش الأميركي بإعداداته التقنية المتقدمة، وأن التحالفات الأمنية الإقليمية مثل التحالف بين واشنطن وإسلام آباد، يعرض النموذج المركزي للخطر، ولذا يجادل بأن اللامركزية تجعل ما يسمى «السرايا الجهادية» في مأمن من الاكتشاف. وعليه فإن تشخيص أبو مصعب السوري يعني أنه على المقاتلين أن ينخرطوا بالتدريب في معسكرات إقليمية متحركة. وكتاب «إدارة التوحش» يجادل بأنه يتعين على من يسميهم «المجاهدين» إن هم سيطروا على منطقة ما أن يقيموا فيها إمارة لتطبق الشرع ورعاية مصالح الناس فيها من طعام وعلاج، في حين تتولى القيادة العليا (المركزية) التنسيق بين تلك المناطق وترتيب الأولويات.
ونظرية «أبو بكر ناجي» هي ما عليه «القاعدة» اليوم لأسباب كثيرة، ربما كانت فيها العوامل الخارجية الأكثر تأثيرا، فكلما اكتسبت «القاعدة» مكامن آمنة في سوريا والعراق وما خلفهما، تغدو نظرية المؤلف هي الأنسب.
وحقا «القاعدة» نفسها مرّت بمخاض فكري داخلي حول المستقبل، إذ قدّم «أبو مصعب السوري» - أحد أبرز منظّري «الجهاد» - نموذجا مركزيا لإدارة القتال، في حين يقدم أبو بكر ناجي نموذجا لا مركزيا. ومع أنه من الصعب التنبؤ بما ستكون عليه استراتيجيات وتكتيكات المواجهة المقبلة، فالمؤكد أن العالم الجديد بما فيه الشرق الأوسط الجديد الذي هو قيد التشكل يمر بمخاض عسير ومكلف. ولا يبدو فيه العرب إطلاقا في أحسن الأحوال، خاصة أن حالات التشظي بالانتظار.
من ناحية أخرى، أكدت جماعات مطلعة في لندن لـ«الشرق الأوسط» أن الحكايمة إنما هو الذي كتب «إدارة التوحش» خلال فترة وجوده في إيران. وكانت مصادر مطلعة في العاصمة البريطانية قد كشفت أيضا عن معلومات موثقة بأن أجهزة الأمن الإيرانية أبرمت اتفاقا مع الحكايمة قبل انتقاله إلى بريطانيا طلبا للجوء السياسي، تتعهد فيه بحمايته وإيوائه مقابل إدارته إذاعة موجهة من طهران لتكون بوقا لعناصر من «القاعدة» وعدد من المطلوبين من عناصر الجماعة الإسلامية لدى الدول العربية.
وأردف هؤلاء أن «إدارة التوحش» كتبه تنظيم القاعدة ووضع فيه معالم فكره المتسم «بصناعة الفوضى والقتل والتدمير والإفساد في الأرض والهيمنة على البلاد التي يريدون السيطرة عليها».
في مطلق الأحوال تحول كتاب «إدارة التوحش» إلى ما يشبه الدستور للمقاتلين المتشددين. ولذلك، وبمجرد جمع كل أجزائه، تولى «مركز مكافحة الإرهاب» في الأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت ترجمته إلى الإنجليزية، ومنحه عنوانا آخر هو «إدارة الوحشية»، وجرى توزيعه على المسؤولين في الدوائر السياسية للحكومة الأميركية والمسؤولين في وزارة الدفاع. ولكن بعد أقل من سنتين من إعلان ما سمي بـ«دولة الخلافة»، استطاع تنظيم داعش أن يخلق حالة من الخوف والدهشة والارتياب لدى جميع المتابعين عبر العالم. إذ ظهرت حالة مؤسسة من الرهبة وفق تنظيم أبو بكر البغدادي في إشاعتها وتسويقها، وثمة ترتيب محكم ومدروس لصناعة الرعب هذه. وفي الوقت الذي كان فيه «داعش» يتمادى في بربريته وتسجيل تقدمه في مناطق واسعة، كان خصومه والمحللون السياسيون والجواسيس والصحافيون يبحثون عن سر هذا التوسع المخيف الذي نجح في تحقيقه أصحاب الرايات السوداء.
لقد تحدث عبد السلام فرج، المنظّر الأول للحركات المتطرفة عن «الجهاد»، فعدّه «الفريضة الغائبة» قبل صدور «إدارة التوحش» بسنوات، مع أن فرض «الجهاد» لم يكن غائبا عن الأمة في أي مرحلة من مراحل حياتها، وبخاصة حين كانت تستدعي هذه المرحلة «الجهاد»، فإذا رأينا أن «الجهاد» هو «الجانب القتالي من الدين الذي يستخدم فيه المسلم بدنه وسلاحه، ويكون جنديا ضمن تشكيلات قتالية، فإننا نقر بأنه لم يكن غائبا عن الأمة في العصر الحديث». من جهته، يؤكد الدكتور هاني السباعي، مدير مركز «المقريزي» للدراسات في لندن، أن مؤلف كتاب «إدارة التوحش» هو محمد خليل الحكايمة، الذي عرف بكنية (أبو جهاد)، وهو قيادي الجماعة الإسلامية بأسوان، ثم انشق عن الجماعة احتجاجًا على مبادرتها الشهيرة - أي المراجعات الفكرية والفقهية التي على أساسها تم الإفراج عن أفرادها.
حسب السباعي، فإن الحكايمة هو المؤلف الحقيقي لـ«إدارة التوحش»، وأنه كتبه إبان وجوده في إيران. وقد سبقه كتاب آخر شهير له اسمه «وهم القوة». وأضاف السباعي: «انضم الحكايمة وهو من مواليد 1961 إلى (قاعدة الجهاد) بمبايعته لأيمن الظواهري في التسعينات. وعمل في بيشاور (بشمال غربي باكستان) في مجال الإعلام، ثم في إذاعة فلسطين من إيران في ذلك الوقت، قبل أن ينتقل إلى بريطانيا طلبا للجوء السياسي. ومن هناك رحل مرة أخرى إلى إيران مع أسامة حسن، صهر الظواهري، ومنها إلى إقليم وزيرستان الباكستاني الحدودي». ويفصّل السباعي - وهو باحث إسلامي مصري - أنه في عام 1999 بعيد وصوله إلى بريطانيا أصدر جاك سترو، وزير داخلية بريطانيا يومذاك، أمرا باعتقاله لقوة علاقته برفاعي طه (أبو ياسر) المسؤول العسكري لما يسمى بـ«الجماعة الإسلامية» ومهندس محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا (1995)، ففر إلى إيران، ثم الشريط الحدودي في أفغانستان.
وتابع السباعي، في اتصال هاتفي أجرته معه «الشرق الأوسط»، أنه تلقى من الحكايمة قبل مقتله عام 2008 بيان «الثابتون على العهد» عبر البريد الإلكتروني، بهدف توزيعه على وسائل الإعلام العربية والغربية. وقال إن الحكايمة يدافع عن نفسه، وهو يريد أن يقول إن وضع اسمه على قائمة المطلوبين إلى جانب بن لادن لا يخيفه، لأنه تعرض للموت عدة مرات في مصر وباكستان وأفغانستان. وكانت الولايات المتحدة قد أعلنت أنها خصصت مكافأة بقيمة ثلاثة ملايين دولار، مقابل اعتقال ثلاثة قياديين من «القاعدة»، هم محمد خليل الحكايمة (أبو جهاد) والليبي عطية عبد الرحمن، الفقيه الشرعي وخبير المتفجرات، وعبد الهادي العراقي الذي كان رجل بن لادن في أرض الرافدين. وظهر الحكايمة أو «أبو جهاد المصري» عام 2006 في شريط فيديو إلى جانب أيمن الظواهري الرجل الثاني في «القاعدة» حينها، وأكد أن مجموعته المتطرفة (الجماعة الإسلامية) انضمت إلى «القاعدة».
الحكايمة كان يعتبر أن مهمات «إدارة التوحش» هي «نشر الأمن الداخلي، وتوفير الطعام والعلاج، وتأمين منطقة التوحش من الأعداء، وإقامة القضاء الشرعي بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش، ورفع المستوى الإيماني أثناء تدريب شباب منطقة التوحش على القتال، وبث العيون، واستكمال بناء جهاز الاستخبارات المصغر».
ويقول السباعي، الذي كشف أنه عرف الحكايمة عن قرب واستقبله في منزله بلندن عدة مرات قبل أن يرحل عن بريطانيا، إن أفكار الحكايمة تتلخص في أن بيئة التوحش هي أفضل بيئة للجماعات المتشددة، حيث يمكنهم إثارة الفوضى، وتدريب أنفسهم، وجذب مزيد من الأنصار. ويحث الحكايمة على استهداف المصالح النفطية للدول والمنتجعات السياحية وكل ما من شأنه استنزاف هذه الدول، منبها إلى ضرورة اعتماد أقصى درجات الشدة عند تنفيذ المهمات في مرحلة شوكة النكاية، ولا مانع من تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب في قلوب العدو وأعوانه، وهو ما يفعله «داعش» اليوم.
اليوم يعتبر كثير من الخبراء «إدارة التوحش» من الكتب التأسيسية التي أثرت في تشكيل تنظيم داعش، مع أن مؤلفه كتبه قبل تأسيس «داعش» بعدة سنوات، وهو مهم أيضا لفهم خطاب الحركات المتطرفة في سوريا خاصة «داعش» و«جبهة النصرة»، وهو الكتاب الثاني الذي صحت نسبته إلى «القاعدة» بعد كتاب «الفريضة الغائبة» لعبد السلام فرج.
ولكن مثلما كان الخطأ الأبرز في كتاب «الفريضة الغائبة» تضخيم «حكم الجهاد»، وقع كتاب «إدارة التوحش» في الخطأ نفسه، مضخما «حكم الجهاد». وجرى تشكيل «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين» بين حركتي «القاعدة» و«الجهاد» اللتين كان يرأسهما أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في قندهار في 23 فبراير (شباط) 1988، ثم جاءت بعد ذلك العملية المزدوجة في تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا خلال أغسطس (آب) 1988، والتي كانت ثمرة لتشكيل ما سمي «قاعدة الجهاد» وخطوة في تحقيق أهداف التنظيم الجديد.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».