هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»

دستور المتطرفين الذي سعى إلى استدعاء الصدام مع الغرب عبر العنف الشديد

هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»
TT

هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»

هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»

يلف الغموض هوية المؤلف الحقيقي لكتاب «إدارة التوحش»، الذي يعتبره كثيرون دستور الحركات المتطرفة التي تمارس الإرهاب باسم الإسلام. وفي التحقيق التالي نشير إلى شخصيتين يختلف المطلعون على نشاطات هذه الحركات ومتابعو مسيرتها على نسبة مؤلف الكتاب إلى إحداهما. الشخصية الأولى «أبو مصعب السوري» أو «عمر عبد الحكيم» أو «مصطفى عبد القادر»، وهو مسجون في أحد سجون النظام السوري. والثانية «محمد خليل الحكايمة»، الذي قتل بغارة «درون» أميركية عام 2008 في إقليم وزيرستان الباكستاني على الحدود مع أفغانستان.

في عام 2008، عثرت الاستخبارات الأميركية على وثائق ورسائل موجهة من أسامة بن لادن وإليه تشمل فصولا من كتاب غريب، لم تكن أجهزة الاستخبارات هذه على علم بأن المتطرفين يتداولونه بينهم بكثير من الاحترام والقدسية. وهذا الكتاب يحمل عنوان «إدارة التوحش»، وهو مؤلف صغير الحجم (113 صفحة)، لمؤلف مجهول يحمل اسم «أبو بكر ناجي».
تختلف المعلومات هنا اختلافا كبيرا. ففي العاصمة البريطانية لندن ثمة من يعتقد الآن على نطاق واسع أنه «أبو مصعب السوري» الذي وضع العديد من المؤلفات التي تدعو إلى التطرف، وكان يوقع باسم عمر عبد الحكيم. وهو محتجز الآن في سجون النظام السوري، ويعرف هناك باسم مصطفى بن عبد القادر. وحسب هؤلاء فإن من أبرز كتبه في عدة أجزاء «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، و«المنهج والعقيدة القتالية»، و«التربية والعقيدة القتالية»، و«الجبهات والجهاد الفردي»، و«الأسس الشرعية للإرهاب»، و«التدريب والإعلام والتمويل» وكتبه أبو مصعب السوري إبان وجوده في أوروبا بين إسبانيا وبريطانيا ودول أخرى. وكان «أبو مصعب» واحدا من 35 شخصا تضمنتهم لائحة اتهام من 695 صفحة أصدرها القاضي الإسباني بلتازار غارزون في سبتمبر (أيلول) 2003. ودعت لائحة الاتهام إلى القبض على 34 رجلا آخر، بينهم أسامة بن لادن، بتهم تتضمن عضوية جماعة إرهابية والتخطيط لأعمال إرهابية.
لكن على الجانب الآخر، يتجه عدد من منظرّي «القاعدة» للقول إن مؤلف «إدارة التوحش» - أي «أبو بكر ناجي» - هو محمد خليل الحكايمة، مسؤول الدعاية في «القاعدة»، الذي عاش في بريطانيا لفترة قصيرة، مثل أبو مصعب السوري، بعد طلبه اللجوء السياسي قبل أن يفرّ في أعقاب وضع اسمه على لائحة الإرهاب الأميركية بجانب بن لادن زعيم «القاعدة» الراحل، ثم يقتل في غارة «درون» (طائرة من دون طيار) أميركية في إقليم وزيرستان بباكستان عام 2008.
الكتاب حقا دليل مخيف على تكتيكات عنيفة جدا احتضنت اليوم من قبل تنظيم داعش وقائده أبو بكر البغدادي. ويقترح الكتاب أن يعمل المتشددون على جر الولايات المتحدة إلى حرب ستتحول في نهاية المطاف إلى «حرب استنزاف» قد تجبر الولايات المتحدة على الاستسلام. وتتطلب هذه الاستراتيجية استقطاب العالم الإسلامي وإقناع المسلمين المعتدلين الذين كانوا يأملون بالحماية من جانب الولايات المتحدة بأن هذا الأمر لا يجدي نفعا. وفي مطلق الأحوال كتب «ناجي» خطة الحرب في أعقاب الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 وغزو العراق عام 2003. وكان الموضوع الرئيسي له الحاجة إلى جر الولايات المتحدة إلى أعمق نقطة في الصراع عبر أراضي المسلمين، مع التركيز على تقويض القوة الأميركية عبر العنف الشديد الذي كلما ازداد وحشية يصبح أفضل، كما يكتب المؤلف.
إنه ليس مجرد العنف المتطرف الذي يسعى لإضعاف الغرب، لكنه يسعى أيضا إلى إجبار المسلمين على الاختيار. في الاضطرابات بالأراضي العربية المستقرة سابقا، فإن من سموا بـ«الجهاديين» يستمدون أسماءهم من خلال «إدارة التوحش». ويحث المؤلف «أبو ناجي» في الكتاب القرّاء على مراجعة كتب إدارة الأعمال، ويرى أن فترة «إدارة التوحش» هي الأخطر على الأمة، وذلك بالتحول من مقاتلة «العدو القريب» المتمثل في الأنظمة السياسية والنخب العربية والإسلامية التي يصفها بـ«المرتدة»، إلى مقاتلة «العدو البعيد» المتمثل بالغرب عموما، والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل خصوصا. وللعلم، الكتاب متاح بأكثر من 15 ألف رابط على شبكة الإنترنت، ولقد ترجمته وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) للغة الإنجليزية تحت عنوان «إدارة الوحشية»، وهو محظور في العديد من الدول العربية.
«التوحش»، كما يعرفه الكتاب، حالة من الفوضى تدب في أوصال دولة ما أو منطقة بعينها، ويصار إلى استغلالها إذا ما زالت عنها قبضة السلطات الحاكمة الحديدية أو ضعفت. وهذه الحالة من الفوضى ستكون «متوحشة» وسيعاني منها السكان المحليون، لذلك وجب على «القاعدة» - التي ستحل محل السلطات الحاكمة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية - أن تحسن «إدارة التوحش» إلى أن تستقر الأمور.
ويركز المؤلف على التنظير لما بعد مرحلة سبتمبر 2001، وضرورة استدراج الولايات المتحدة إلى حروب خارج الأراضي الأميركية، لتشتيت قواتها وإضعافها، وهذا ما يفسر تركيزه على العمليات الإرهابية التي تمت في السعودية منذ عام 2003 وتفجيرات بالي بإندونيسيا، وغيرها، للاستفادة منها في عمليات جديدة.
خبراء الأمن لا يجزمون حيال شخصية «أبو بكر ناجي» مع اتفاقهم على أنه شخصية غير حقيقية لشخص محدد.. «وهو في نهاية الأمر اسم حركي مستعار، وليس اسما حقيقيا لشخص معروف، وقد يكون هذا الكتاب هو من صنع (مجموعة عمل) وليس بالضرورة أن يكون شخصا واحدا محددا». لكن اللافت أن أبو مصعب السوري في بيانه ذي الـ1600 صفحة تحت اسم «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، يرى أن ما يسمى «النموذج المركزي لإدارة الجهاد» لا يمكن أن يتغلب على الجيش الأميركي بإعداداته التقنية المتقدمة، وأن التحالفات الأمنية الإقليمية مثل التحالف بين واشنطن وإسلام آباد، يعرض النموذج المركزي للخطر، ولذا يجادل بأن اللامركزية تجعل ما يسمى «السرايا الجهادية» في مأمن من الاكتشاف. وعليه فإن تشخيص أبو مصعب السوري يعني أنه على المقاتلين أن ينخرطوا بالتدريب في معسكرات إقليمية متحركة. وكتاب «إدارة التوحش» يجادل بأنه يتعين على من يسميهم «المجاهدين» إن هم سيطروا على منطقة ما أن يقيموا فيها إمارة لتطبق الشرع ورعاية مصالح الناس فيها من طعام وعلاج، في حين تتولى القيادة العليا (المركزية) التنسيق بين تلك المناطق وترتيب الأولويات.
ونظرية «أبو بكر ناجي» هي ما عليه «القاعدة» اليوم لأسباب كثيرة، ربما كانت فيها العوامل الخارجية الأكثر تأثيرا، فكلما اكتسبت «القاعدة» مكامن آمنة في سوريا والعراق وما خلفهما، تغدو نظرية المؤلف هي الأنسب.
وحقا «القاعدة» نفسها مرّت بمخاض فكري داخلي حول المستقبل، إذ قدّم «أبو مصعب السوري» - أحد أبرز منظّري «الجهاد» - نموذجا مركزيا لإدارة القتال، في حين يقدم أبو بكر ناجي نموذجا لا مركزيا. ومع أنه من الصعب التنبؤ بما ستكون عليه استراتيجيات وتكتيكات المواجهة المقبلة، فالمؤكد أن العالم الجديد بما فيه الشرق الأوسط الجديد الذي هو قيد التشكل يمر بمخاض عسير ومكلف. ولا يبدو فيه العرب إطلاقا في أحسن الأحوال، خاصة أن حالات التشظي بالانتظار.
من ناحية أخرى، أكدت جماعات مطلعة في لندن لـ«الشرق الأوسط» أن الحكايمة إنما هو الذي كتب «إدارة التوحش» خلال فترة وجوده في إيران. وكانت مصادر مطلعة في العاصمة البريطانية قد كشفت أيضا عن معلومات موثقة بأن أجهزة الأمن الإيرانية أبرمت اتفاقا مع الحكايمة قبل انتقاله إلى بريطانيا طلبا للجوء السياسي، تتعهد فيه بحمايته وإيوائه مقابل إدارته إذاعة موجهة من طهران لتكون بوقا لعناصر من «القاعدة» وعدد من المطلوبين من عناصر الجماعة الإسلامية لدى الدول العربية.
وأردف هؤلاء أن «إدارة التوحش» كتبه تنظيم القاعدة ووضع فيه معالم فكره المتسم «بصناعة الفوضى والقتل والتدمير والإفساد في الأرض والهيمنة على البلاد التي يريدون السيطرة عليها».
في مطلق الأحوال تحول كتاب «إدارة التوحش» إلى ما يشبه الدستور للمقاتلين المتشددين. ولذلك، وبمجرد جمع كل أجزائه، تولى «مركز مكافحة الإرهاب» في الأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت ترجمته إلى الإنجليزية، ومنحه عنوانا آخر هو «إدارة الوحشية»، وجرى توزيعه على المسؤولين في الدوائر السياسية للحكومة الأميركية والمسؤولين في وزارة الدفاع. ولكن بعد أقل من سنتين من إعلان ما سمي بـ«دولة الخلافة»، استطاع تنظيم داعش أن يخلق حالة من الخوف والدهشة والارتياب لدى جميع المتابعين عبر العالم. إذ ظهرت حالة مؤسسة من الرهبة وفق تنظيم أبو بكر البغدادي في إشاعتها وتسويقها، وثمة ترتيب محكم ومدروس لصناعة الرعب هذه. وفي الوقت الذي كان فيه «داعش» يتمادى في بربريته وتسجيل تقدمه في مناطق واسعة، كان خصومه والمحللون السياسيون والجواسيس والصحافيون يبحثون عن سر هذا التوسع المخيف الذي نجح في تحقيقه أصحاب الرايات السوداء.
لقد تحدث عبد السلام فرج، المنظّر الأول للحركات المتطرفة عن «الجهاد»، فعدّه «الفريضة الغائبة» قبل صدور «إدارة التوحش» بسنوات، مع أن فرض «الجهاد» لم يكن غائبا عن الأمة في أي مرحلة من مراحل حياتها، وبخاصة حين كانت تستدعي هذه المرحلة «الجهاد»، فإذا رأينا أن «الجهاد» هو «الجانب القتالي من الدين الذي يستخدم فيه المسلم بدنه وسلاحه، ويكون جنديا ضمن تشكيلات قتالية، فإننا نقر بأنه لم يكن غائبا عن الأمة في العصر الحديث». من جهته، يؤكد الدكتور هاني السباعي، مدير مركز «المقريزي» للدراسات في لندن، أن مؤلف كتاب «إدارة التوحش» هو محمد خليل الحكايمة، الذي عرف بكنية (أبو جهاد)، وهو قيادي الجماعة الإسلامية بأسوان، ثم انشق عن الجماعة احتجاجًا على مبادرتها الشهيرة - أي المراجعات الفكرية والفقهية التي على أساسها تم الإفراج عن أفرادها.
حسب السباعي، فإن الحكايمة هو المؤلف الحقيقي لـ«إدارة التوحش»، وأنه كتبه إبان وجوده في إيران. وقد سبقه كتاب آخر شهير له اسمه «وهم القوة». وأضاف السباعي: «انضم الحكايمة وهو من مواليد 1961 إلى (قاعدة الجهاد) بمبايعته لأيمن الظواهري في التسعينات. وعمل في بيشاور (بشمال غربي باكستان) في مجال الإعلام، ثم في إذاعة فلسطين من إيران في ذلك الوقت، قبل أن ينتقل إلى بريطانيا طلبا للجوء السياسي. ومن هناك رحل مرة أخرى إلى إيران مع أسامة حسن، صهر الظواهري، ومنها إلى إقليم وزيرستان الباكستاني الحدودي». ويفصّل السباعي - وهو باحث إسلامي مصري - أنه في عام 1999 بعيد وصوله إلى بريطانيا أصدر جاك سترو، وزير داخلية بريطانيا يومذاك، أمرا باعتقاله لقوة علاقته برفاعي طه (أبو ياسر) المسؤول العسكري لما يسمى بـ«الجماعة الإسلامية» ومهندس محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا (1995)، ففر إلى إيران، ثم الشريط الحدودي في أفغانستان.
وتابع السباعي، في اتصال هاتفي أجرته معه «الشرق الأوسط»، أنه تلقى من الحكايمة قبل مقتله عام 2008 بيان «الثابتون على العهد» عبر البريد الإلكتروني، بهدف توزيعه على وسائل الإعلام العربية والغربية. وقال إن الحكايمة يدافع عن نفسه، وهو يريد أن يقول إن وضع اسمه على قائمة المطلوبين إلى جانب بن لادن لا يخيفه، لأنه تعرض للموت عدة مرات في مصر وباكستان وأفغانستان. وكانت الولايات المتحدة قد أعلنت أنها خصصت مكافأة بقيمة ثلاثة ملايين دولار، مقابل اعتقال ثلاثة قياديين من «القاعدة»، هم محمد خليل الحكايمة (أبو جهاد) والليبي عطية عبد الرحمن، الفقيه الشرعي وخبير المتفجرات، وعبد الهادي العراقي الذي كان رجل بن لادن في أرض الرافدين. وظهر الحكايمة أو «أبو جهاد المصري» عام 2006 في شريط فيديو إلى جانب أيمن الظواهري الرجل الثاني في «القاعدة» حينها، وأكد أن مجموعته المتطرفة (الجماعة الإسلامية) انضمت إلى «القاعدة».
الحكايمة كان يعتبر أن مهمات «إدارة التوحش» هي «نشر الأمن الداخلي، وتوفير الطعام والعلاج، وتأمين منطقة التوحش من الأعداء، وإقامة القضاء الشرعي بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش، ورفع المستوى الإيماني أثناء تدريب شباب منطقة التوحش على القتال، وبث العيون، واستكمال بناء جهاز الاستخبارات المصغر».
ويقول السباعي، الذي كشف أنه عرف الحكايمة عن قرب واستقبله في منزله بلندن عدة مرات قبل أن يرحل عن بريطانيا، إن أفكار الحكايمة تتلخص في أن بيئة التوحش هي أفضل بيئة للجماعات المتشددة، حيث يمكنهم إثارة الفوضى، وتدريب أنفسهم، وجذب مزيد من الأنصار. ويحث الحكايمة على استهداف المصالح النفطية للدول والمنتجعات السياحية وكل ما من شأنه استنزاف هذه الدول، منبها إلى ضرورة اعتماد أقصى درجات الشدة عند تنفيذ المهمات في مرحلة شوكة النكاية، ولا مانع من تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب في قلوب العدو وأعوانه، وهو ما يفعله «داعش» اليوم.
اليوم يعتبر كثير من الخبراء «إدارة التوحش» من الكتب التأسيسية التي أثرت في تشكيل تنظيم داعش، مع أن مؤلفه كتبه قبل تأسيس «داعش» بعدة سنوات، وهو مهم أيضا لفهم خطاب الحركات المتطرفة في سوريا خاصة «داعش» و«جبهة النصرة»، وهو الكتاب الثاني الذي صحت نسبته إلى «القاعدة» بعد كتاب «الفريضة الغائبة» لعبد السلام فرج.
ولكن مثلما كان الخطأ الأبرز في كتاب «الفريضة الغائبة» تضخيم «حكم الجهاد»، وقع كتاب «إدارة التوحش» في الخطأ نفسه، مضخما «حكم الجهاد». وجرى تشكيل «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين» بين حركتي «القاعدة» و«الجهاد» اللتين كان يرأسهما أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في قندهار في 23 فبراير (شباط) 1988، ثم جاءت بعد ذلك العملية المزدوجة في تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا خلال أغسطس (آب) 1988، والتي كانت ثمرة لتشكيل ما سمي «قاعدة الجهاد» وخطوة في تحقيق أهداف التنظيم الجديد.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.