المشهد

المشهد
TT

المشهد

المشهد

الحجر له منطق‬

* «لا تستطيع أن تزيّف الحجرة، لأن كل حجرة لها منطقها الخاص». هكذا قال أحد أساتذة السينما الكبار واسمه ستانلي كوبريك. ما عناه هو أن كل شيء على الشاشة يجب أن يكون حقيقيًا، بدءًا بالأشخاص، مرورًا بالمناظر المحيطة بهم، بالمدن التي يعيشون فيها، بالماء الذي يستحمون فيه أو الطرق التي يقودون عليها سياراتهم.‬

* صاحب «سترة معدنية كاملة» و«باري ليندون» و«اللمعان» لم يقصد أن على الفيلم أن يكون واقعيًا بالمعنى الإيطالي للكلمة أو بحسب أسلوب أفلام شانتال أكرمان أو روبير بريسون أو سينما الطليعة وأفلام ما يُسمى (خطأ) بالدوكيودراما. هو أيضا أخرج «أوديسا الفضاء: 2001» من دون أن يغادر أرض الاستوديو، لكن ما عناه هو أن كل ما يستخدمه لتصوير أي فيلم من أي نوع يجب أن يكون حقيقيًا.‬

* ستيفن سبيلبرغ في حديث له ذكر تحديدًا أن تصوير الدجيتال ليس مثل تصوير الفيلم. الدجيتال، قال، لا يمنحك ذلك العمق في نظرات الممثل كما يفعل الفيلم التقليدي. وهذا ليس سرًّا، وثمة عشرة أفلام هوليوودية جديدة ظهرت في الشهرين الأخيرين مصوّرة بالفيلم وليس بالدجيتال، من بينها فيلم كوينتين تارنتينو «الكارهون الثمانية»، ومن قبله فيلم المجري لازلو نيميس «ابن شاوول». ‬

* وتستطيع أن ترى الفارق بالعين المجرّدة فيما لو حصلت على نسخة جيدة من فيلم «موبي دِك» لجون هيوستون (1956) وتصوير أوزوولد موريس بنسخة حاضرة من فيلم «في قلب البحر» تصوير أنطوني دود مانتل. الفيلم الحديث «في قلب البحر» شبيه بالفيلم السابق من حيث هو رحلة صيد حيتان في البحار الشمالية. وهو مأخوذ من كتاب بالعنوان نفسه بالإضافة إلى كتاب آخر عنوانه «مأساة سفينة الحيتان إيسكس»، وكلاهما يؤرخ لمصير رحلة سفينة بريطانية في مطلع القرن التاسع عشر غرقت عندما أطاح بها حوت غاضب. عن تلك الحكاية الواقعة، قام جون هيوستون بإخراج «موبي دِك».‬

* الآن ليس عليك سوى المقارنة بين العواصف العاتية التي تم تصويرها في فيلم هيوستون بتلك التي صورها هوارد. لم يكن الدجيتال موجودًا آنذاك، لذا من الممكن القول إن العواصف التي كانت تضرب السفينة في الفيلم الأول كانت طبيعية (ربما ليست بتلك الضراوة لكن هذا موضوع آخر). العواصف التي تضرب سفينة الفيلم الثاني مزيّفة وغير مقنعة. نعم في الحالتين السفينة في خطر الغرق، لكن الإبداع في إيصال المفاد والإشعار بالخطر المحدق وذلك التفاني في تقديم ما يبدو واقعًا ونجاح هذا التقديم من نصيب الفيلم الأول المصوّر بالفيلم.‬

* نعم، معظم ما يصدر من أفلام عربية بات يستسهل الدجيتال. أرخص. تستطيع أن تحمل الكاميرا معك إلى حيث تريد من دون فريق عمل الخ.. لكن إذا ما أردت هذا الحد الأدنى من الإنجاز هنيئًا لك. إذا أردت الفن كاملاً متكاملاً.. اذهب إلى الفيلم.‬



«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).