ليبيا.. عام من المفاوضات ينتهي بحكومة ثالثة

في يوم من أيام خريف عام 2014 التقى المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، السيد برناردينيو ليون، مع عدد من نواب البرلمان الليبي، في بلدة غدامس الواقعة إلى الجنوب الغربي من طرابلس. كان الخصام على أشده بين الفرقاء الذين أطاحوا بحكم القذافي في 2011. وبعد نحو أربع سنوات على رحيل النظام السابق، كانت قوافل تشييع القتلى لا تتوقف ضمن حرب ضروس على السلطة. وحين ظهر بعض النواب من وراء دخان الحرائق على طاولة الحوار لأول مرة في غدامس، بدأ كل طرف من طرفي الصراع يصف المشاركين في اللقاء بالخيانة.
لكن انسداد الآفاق السياسية بين الليبيين جعل محاولات ليون تسير إلى الأمام، رغم انتقالها بعد ذلك إلى خارج ليبيا. من جنيف إلى تونس والجزائر وأخيرا بلدة الصخيرات المغربية. وأصبح الكثير من القادة المتشددين يميلون إلى مقترحات الأمم المتحدة بشأن إمكانية إنقاذ الدولة الليبية من الفشل. لقد استغل المتطرفون حالة الصراع الأهلي، وانتشروا في المدن، والشوارع، وتمركزوا لمواصلة حرب طويلة ضد السلطات الشرعية، بما في ذلك تنظيم داعش.
كان ليون خيارا مناسبا. لكن هذا الدبلوماسي الإسباني أسس للحوار الليبي على قوائم ظهر أنها عرجاء بعد شهور من اللقاءات والمباحثات. لماذا هي عرجاء؟ كانت الأنظار تتطلع إلى ما يمكن عمله تجاه تكتلات لم يضعها ليون في الحسبان منذ البداية، وهي تكتلات معتبرة في ليبيا لا يمكن التوصل إلى حلول دون التعاطي معها وإشراكها في صناعة مستقبل ليبيا الجديدة.
هذه التكتلات هي القبائل التي كانت محسوبة على نظام القذافي، والقيادات السياسية والعسكرية التي كانت تعمل في الدولة في ظل حكم النظام السابق. تركها ليون جانبا، وبدأ في محاولاته للتوفيق بين البرلمان الذي اضطر لعقد جلساته في طبرق، وله حكومة تدير أعمالها من مدينة البيضاء، والمؤتمر الوطني العام (البرلمان المنتهية ولايته) الذي استمر في عقد جلساته في العاصمة وله حكومة خاصة به في طرابلس.
برلمان طبرق ومؤتمر طرابلس، يعملان وفقا لمبادئ ما يطلق عليه «ثورة 17 فبراير» التي قضت على نظام القذافي. واليوم أصبحا يتناحران على السلطة. الأول مدعوم من الجيش الوطني الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر، والثاني يعتمد على ميليشيات وكتائب تضم مقاتلين من مشارب مختلفة لكن يغلب على قادتها الطابع الديني.
وكما استمر ليون في اجتماعاته التي انعقد بعضها في الولايات المتحدة الأميركية أيضا، كلما كبرت الأسئلة وعلامات الاستفهام. لم تكن هناك إجابة مقنعة عن السبب الذي يجعل المجتمع الدولي يحاول التوفيق بين طرفين فقط في ليبيا هما طرفا «ثورة فبراير» وليس بين كل الليبيين.
ووفقا لما اطلعت عليه «الشرق الأوسط» خلال مسيرة المفاوضات التي استغرقت نحو 18 شهرا، فقد كان طرفا «فبراير» يحرصان على وضع مسافة بينهم وبين بقية المكونات الليبية التي تتحفظ على مسمى «ثورة 2011». بل إن بعض قيادات القبائل وبعض الساسة والعسكريين الليبيين، يعدون «الثورة» مجرد انتفاضة مسلحة استغلها حلف الناتو للقضاء على القذافي وعلى الجيش وعلى مؤسسات الدولة.
في وقت من الأوقات في صيف 2015 سأل بعض الدبلوماسيين العرب ليون عن سبب عدم اتصاله بقادة النظام السابق لكي يسهل مسألة حل المعضلة الليبية، لكن ليون قال: هذا رقم هاتفي. من يريد أن يلتحق بالمفاوضات عليه أن يتصل بي. وفي منزل أحد قادة النظام السابق وصلت الرسالة، فرد عليها: لن نتصل به. هل يعتقد أنه سيقرر مصير ليبيا بهذه الطريقة.
كانت مثل هذه المشاعر تطغى على رموز قبلية من الجيل الأوسط في ليبيا التي تعد فيها القبيلة هي صمام الأمان لأي استقرار سياسي أو أمني. وعقدت هذه القبائل اجتماعات بمساعدة من وراء الستار من جانب بعض قيادات النظام السابق. لكنها لم تتمكن من الاتفاق على ما ينبغي عمله. جرت اجتماعات من هذا النوع، والبند الوحيد المشترك بين جميع أبناء هذه الشريحة كان مقاطعة مفاوضات ليون، كما جرى في مؤتمر عقدته القبائل الليبية في فندق يطل على نيل القاهرة منتصف 2015.
في شهر يوليو (تموز)، تمكن طرفا الصراع من توقيع اتفاق بالأحرف الأولى في الصخيرات. وهددت الأمم المتحدة الذين لا يمتثلون للاتفاق بالعقوبات. كان على رأس الرافضين المجموعات المتشددة في طرابلس. وبدأت دول يعنيها استقرار ليبيا مثل مصر تدفع في اتجاه العمل باتفاق يوليو، وحثت المجتمع الدولي على إنفاذ هذا الأمر.
لكن ولأسباب يعتقد أنها تتعلق برغبات مغايرة لدول أخرى، منها الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤهما الإقليميون، أخذ ليون يبطئ من خططه، وبدلا من إنزال العقاب على الرافضين لمخرجات مسودة الصخيرات الأولى، جرى الإعلان عن منح هذا التيار المتشدد المزيد من الفرص. وبهذا تقرر مد المفاوضات مرة أخرى من يوليو إلى نهاية أكتوبر (تشرين الأول)، وذلك حين أعلن ليون عن أسماء الحكومة المقترحة برئاسة فايز السراج، وأسماء مستشار مجلس الأمن القومي ورئيس مجلس الدولة وغيرها من مواقع.
ومن جديد، بدأ المجتمع الدولي يضغط على الليبيين للاعتراف بالحكومة التي رفضها على الفور كل من برلمان طبرق والمؤتمر الوطني. وخرج ليون من المشهد دون أن يحقق أمله في وضع الحكومة الليبية التوافقية على مقعد السلطة. وجاء بعده السيد مارتن كوبلر، ليحل المعضلة من خلال لقاءات ومفاوضات مكوكية، انتهت إلى ضرورة التوقيع بمن حضر للصخيرات على الحكومة برئاسة السراج، مع بعض التعديلات.
الذين حضروا ووقعوا في الصخيرات لم يكونوا مكلفين لا من البرلمان ولا من المؤتمر. مجموعات من نواب طبرق وأخرى من نواب طرابلس، بالإضافة إلى بعض الوجوه السياسية التي كانت قد توارت بفعل المشاحنات السياسية والاقتتال الأهلي. والمشكلة أن حكومة السراج لا يوجد لها سند عسكري يعتد به يمكن الاعتماد عليه للدخول وممارسة العمل من طرابلس أو غيرها.