كاميرا قيصر في قلب الجحيم

قصة المصور الذي هرّب وثائق تدين النظام السوري بارتكابه جرائم ضد الإنسانية

الكاتبة والصحافية الفرنسية غارانس لوكن التي التقت قيصر، غلاف الكتاب
الكاتبة والصحافية الفرنسية غارانس لوكن التي التقت قيصر، غلاف الكتاب
TT

كاميرا قيصر في قلب الجحيم

الكاتبة والصحافية الفرنسية غارانس لوكن التي التقت قيصر، غلاف الكتاب
الكاتبة والصحافية الفرنسية غارانس لوكن التي التقت قيصر، غلاف الكتاب

*أمام هول الفاجعة قرر «قيصر» أن ينسخ هذه الصور ويضعها على مفاتيح إلكترونية، يضع المفتاح في كعب الحذاء ويخرج من المستشفى بعد يوم تصوير شاق، خائفا، متوجسا، من أي عملية تفتيش تؤدي به إلى الهاوية الجهنمية

لم يكن العالم الغربي، وعلى مدى أربعة عقود ونيف من حكم العائلة الأسدية لسوريا، يريد أن يرى طبيعة النظام الأسدي على حقيقته، لأسباب شتى، رغم علم الدول الغربية، عبر كل وسائل مخابراتها، علم اليقين، أن نظام الأسد الأب قد كان يرتكب جرائم ضد الإنسانية على مدار الساعة. فالسجون مليئة بسجناء الرأي، والداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود، أو معتوه. والكل علم وسمع بمجزرة سجن تدمر الرهيب في عام 1980، ثم مجزرة حماه التي راح ضحيتها عشرات الآلاف، وتدمير المدينة على رؤوس ساكنيها، والمجازر تكررت في حلب وسرمدا وسواهما.
كان سهلا على الدول الغربية الأخذ بحجة أنه لا يوجد ما يؤكد الفعل، فلا وثائق، أو مستندات يستند عليها. والقانون هو الإثبات، ولا إثبات إلا بحجج دامغة أو وثائق ذات مصداقية. في ذاك الوقت كان التعتيم كليا على كل جرائم النظام.
لكن مع نظام الأسد الابن، واندلاع الثورة السورية، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات الاتصال، بات العالم أجمع شاهدا على قمع النظام الوحشي للمتظاهرين السلميين، لشعب ينشد الحرية، ويدفع ثمنها دما يوميا.
لم يتوان هذا النظام «الممانع» الناشد «للوحدة والحرية» من قصف المدن بالبراميل المتفجرة، والسكود، وراجمات الصواريخ، وبالطبع بالسلاح الكيماوي الذي أعطى بشار «الطبيب» لقب «بشار الكيماوي».
ومع كل هذا وذاك، أصر الغرب على التعامي عما يجري، ورغم كل الإثباتات وتقارير منظمات حقوق الإنسان، التي تدين النظام إدانة شديدة. بعد عدة سنوات من الثورة، بدأت تتسرب معلومات عن القتل الممنهج في المعتقلات، وأقبية الموت لفروع المخابرات المتعددة، وفي السجون وحتى المستشفيات. وتمكنت بعض المنظمات من توثيق بعض الحالات باستقاء بعض المعلومات والمشاهدات من مصادر معارضة. لكنها لم تستطع أن تقنع المجتمع الدولي، والمحاكم الدولية. لأن هذا النظام كان بارعا في طمس حقائق جرائمه التي تخطت حدود اللامعقول في التفنن في طرق التعذيب والقتل. لكن الثغرة التي لم تكن في حسبانه جاءت من داخله.
وهنا تبدأ حكاية «قيصر مصور الموت» الذي وضع أمام العالم أجمع عشرات الآلاف من الصور لجثث أشخاص قتلوا تحت التعذيب على أيدي جلاوذة النظام وجلاديه، وقد قامت الكاتبة والصحافية الفرنسية غارانس لوكن التي التقت «قيصر» (الاسم الحركي للمصور، وأحد مصوري النظام سابقا) بإصدار كتاب كوثيقة تاريخية عن جرائم النظام بعنوان «عملية قيصر: في قلب آلة الموت السورية».
في هذا الكتاب تروي الكاتبة غارانس كيف قامت بالبحث عن قيصر لتدوين قصته، وشهاداته عما كان يجري في أقبية الموت كوثيقة تاريخية دامغة تدين إجرام هذا النظام في حق شعبه. بعد طول بحث واتصالات مختلفة استطاعت الكاتبة - الصحافية الالتقاء به في مكان ما ليروي حكايته المفجعة التي لا تصدق، لولا تلك الصور التي لا يمكن إنكار حقيقتها. مائتا صفحة ونيف تروي كل صفحة معاناة ومآسي هؤلاء الذين شاء قدرهم أن يقعوا تحت أيادي مخابرات وشبيحة النظام.
تبدأ مغامرة قيصر، بل مقامرة قيصر على حياته وحياة أسرته، عندما كان يعمل قبل الثورة، مصورا في الجيش ليلتقط صور قتلى حوادث الطرق، أو الموتى جراء مرض، أو أي حادث عرضي آخر لتحفظ في ملفات تقدم للمحكمة فيما بعد لإصدار شهادة وفاة واستكمال الإجراءات الإدارية والقانونية للفقيد وعائلته.
بعد اندلاع الثورة ثم تحويله من قبل رؤسائه ليقوم بتصوير جثث أخرى، ولكن هذه المرة لأشخاص لا تشبه جثثهم جثث من ماتوا موتا طبيعيا أو جراء حادث. كانت جثثا أقرب إلى هياكل عظمية تحمل آثار تعذيب في أماكن متفرقة من الجسد، قاست من عمليات تجويع وترويع. جثثا فقئت فيها العينان، وأخرى ثقبت بمثقب آلي، أو فقدت عضوا من أعضائها.
في البداية كان المعدل اليومي عشرات الصور لعشرات الجثث كانت تحفظ في ثلاجات المشافي، مع استمرار الثورة، وتصاعد العنف الأسدي، باتت الأعداد في اطراد، من العشرات إلى المئات يوميا، ولم تعد ثلاجات المشافي تتسع لهذه الأعداد المتزايدة.
ذات يوم طلب من قيصر الاتجاه إلى مستشفى المزة العسكري، في مرأب المستشفى الذي أفرغ من السيارات، تكدست عشرات الجثث لأشخاص عذبوا تعذيبا وحشيا ظاهرا على الأجساد الملقاة في العراء، في صيف قائظ، تقف على بعضها الطيور، تنتش من جلدها، والقطط تموء فيما بينها. وقف قيصر مذهولا لهول المنظر الشنيع الذي يدفع ناظره للقيء، أو الإغماء. جثث لشباب جردوا من أسمائهم فور اعتقالهم وباتوا أرقاما. هذه الأرقام ألصقت على جبهات جثثهم، إلى جانب أرقام أفرع المخابرات التي قامت بتعذيبهم وقتلهم، ورقم ثالث للطبيب الشرعي الذي يوثق الوفاة. وكان على قيصر أن يلتقط صورة للوجه، وأخرى كاملة، وثالثة جانبية. توضع الصور في ملف المحفوظات (الأرشيف) فيما بعد لتكون وثيقة أكيدة أمام رؤساء الجلادين بأن فلانا من المعتقلين قد قتل فعلا.
كانت الجثث تجدد كل يوم، (في بعض الأوقات تبقى الجثث لعدة أيام حتى تبلغ مرحلة التفسخ)، تأتي الشاحنات وتلقي في مرأب المستشفى الجثث كما تلقى النفايات، وتعطى الأوامر لقيصر: «صور هؤلاء الكلاب الإرهابيين». بعد عملية التصوير، وتوثيق الموت - القتل تدفن الجثث في مقابر ليس بعيدا عه المستشفى.
هذا المشهد المرعب اليومي جعل «قيصر» يفقد صوابه، بات كابوسا ليليا يقض مضاجعه، بات يعد الجثث، عشرات، مئات، آلاف. ملفات تتراكم فوق ملفات. ملئت الخزائن والأدراج بملفات الموت الممنهج. أمام هول الفاجعة قرر «قيصر» أن ينسخ هذه الصور ويضعها على مفاتيح إلكترونية، يضع المفتاح في كعب الحذاء ويخرج من المستشفى بعد يوم تصوير شاق، خائفا، متوجسا، من أي عملية تفتيش تؤدي به إلى الهاوية الجهنمية ليتحول بدوره إلى جثة من هذه الجثث.
هذه الصور المنسوخة يعطيها فيما بعد لصديقه سامي الذي يقوم بدوره بإرسالها للخارج كي تكون في مأمن. بعد عامين من التصوير، وعامين من القتل منذ بداية الثورة، قرر قيصر الهروب من سوريا بعد أن أصبح في حصيلته أكثر من خمسين ألف صورة، بعد أن أمن على عائلته بإرسالها للخارج.
وهنا تبدأ الفضيحة الكبرى عندما سلمت هذه الصور، بعد أرشيفها وتبويبها، (مع معاينة الصور عن قرب تم الكشف عن الكثير من الأشخاص الذين كانوا مفقودين وابتزت عائلاتهم ماليا ليعرفوا مكان وجودهم أو إذا ما كانوا على قيد الحياة، ومن بين هذه الصورة كانت صورة أيقونة الثورة السورية حمزة الخطيب الذي عذب ببتر أعضائه التناسلية وتعذيبه حتى الموت) لجهات دولية إلى أن وصلت إلى وزارة الخارجية الفرنسية وعلى مرأى وزير الخارجية لوران فابيوس الذي كان برفقة سبعة وزراء خارجية أوروبية وأميركية الذين قاموا بمشاهدة هذه الصور التي منعتهم من تناول العشاء فقد وجدوا أنفسهم أمام نازية جديدة لا يمكن تجاهلها أو السكوت عنها.
ثم قامت دولة قطر بتكليف كبار المحامين البريطانيين معاينة هذه الصور للتأكد من صحتها، والالتقاء بالمصور «قيصر» لتدوين شهاداته، ما فعلت الكاتبة غارانس التي قامت بلقاءات مطولة معه، ومع عدد من الهاربين الآخرين، ومنهم من نجا بأعجوبة من أقبية الموت الأسدية، يروون كيف كانت معاناتهم اليومية، وكيف كانت عمليات التعذيب والقتل، ورمي الجثث في الممرات، وفي المراحيض بانتظار أن تأتي الشاحنات لتقلهم إلى مرأب مستشفى المزة، أو مستشفى تشرين، ليرموا مجددا كالقمامة، ويأتي الأمر لـ«قيصر»: «صور هؤلاء الكلاب الإرهابيين».
هذه الصور، وهذا الكتاب تمثل اليوم وثائق دامغة تدين هذا النظام بارتكابه جرائم ضد الإنسانية، ولم يعد بإمكان الغرب الإنكار أو المواربة، فالحقيقة باتت فاقعة كالشمس ولا يمكن أن نحجبها بغربال.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.