المضواحي.. عراب الصحافيين ورائد المطولات الشائقة

حصلت «مجموعة mbc» قبل نحو عامين على حقوق نقل الدوري السعودي لكرة القدم لمدة عشرة أعوام، وامتلأت الصحف السعودية الاقتصادية، وبالأخص الرياضية، بالكتابة والتعليق على الموضوع. في تلك الأثناء انهمك الصحافي الراحل عمر المضواحي، ولفترة قاربت الشهر، في البحث عن معلومات حول عبد الرحمن الراشد، مدير قناة «العربية» (آنذاك)، وعندما سألته: لماذا الآن؟ قال: «حان وقت كتابة بروفايل عن عبد الرحمن الراشد».
التقط عمر وقتها خيطًا رفيعًا نشر في مواقع التواصل الاجتماعي عن دور للراشد في حصول المجموعة العملاقة على حقوق بث الدوري السعودي، وجعله فيما بعد مبتدأ القصة لـ«البروفايل» الخاص بالراشد.
نشر «البروفايل»، وطار به محبو عبد الرحمن الراشد في المرئي وفي المكتوب، وأعيد تغريده عشرات مئات المرات، بيد أن العجيب فيه هو أن عمر لم يكن قد التقى الراشد أو عمل معه، ولا توجد بين الرجلين علاقة مباشرة أو غير مباشرة.
مما قاله عمر في وصف عبد الرحمن الراشد: «لم يجاهر قط بوضعية الهجوم، ولا يميل إلى قذف القفازات في وجه الخصوم، يروقه دومًا، وهذا سر قوته، ألا يفقد زمام السيطرة وقيادة الموقف. وعندما يشتد حمى الوطيس، ويضطر إلى الدفاع عن حماه المقدس يبدو قاسيًا مثل قرن وعل، ويسدد ضرباته القاتلة بقفاز من حرير، لكنه محشو دومًا بالمسامير».
ومن يعرف الراشد يعلم تمامًا أن عمر وصف الرجل وصفًا يكاد يكون كاملاً مع براعة تراكيب لغوية ودقة معلوماتية، لدرجة أن الصحافي المخضرم قييان الغامدي غرد تعليقًا على «البروفايل» بكلمة واحدة: «فخم».
إلى هنا ويبدو أن القصة انتهت لمن قرأ «البروفايل»، بيد أن الأمر لم يكن كذلك، فبعد يومين من النشر تلقى عمر المضواحي اتصالاً نادرًا من عبد الرحمن الراشد شكر فيه عمر، وكال له الثناء وختم المكالمة بقوله: «لو أردت الكتابة عن نفسي بهذا الجمال، لوجدت صعوبة في الأمر»، كان المضواحي يقول تلك التفاصيل وهو يحرك ملعقة الشاي في كوبه خجلاً من النظر في مجالسه، لأن من يعرفه يعرف أن عمر هو آخر شخص يتحدث عن نفسه وعمله.
على أن رد فعل الراشد عن كتابة عمر عنه يبدو منطقيًا للغاية، وهو الأمر الذي ربما سيحصل مع كل محبي الراشد، فلو أراد أحدهم الكتابة عن الراشد لم يكون لينجح مثلما فعل عمر إن استثنينا بتال القوس، اللافت في بروفايل المضواحي عن الراشد، أن الرجلين على طرفي نقيض صحافيًا، فالأول رائد في كتابة المطولات القصصية المشوقة، والثاني رائد الجملة القصيرة دونما اختلال.
وكما الراشد كان داود الشريان عندما حاوره عمر حوارًا شهيرًا، وأطلق فيه على الشريان كبريات الصحافة السعودية الذي تحول إلى رجل إطفاء. ومن يعرف الرجلين لا يجد صعوبة كبرى في ملاحظة الشبه الشديد بينهما، فهما يحبان الصحافة حبًا جمًا.
يقول عمر المضواحي عن الصحافة: «إنها طريقة حياة عشقتها قبل أن أدخل الجامعة وتخصصت فيها، وأخلصت لها، ومن عمل مع الشريان فسيصل بسهولة إلى نتيجة أن الصحافة بالنسبة له طريقة مثل المضواحي حياة، في حين كثير من الصحافيين يعدونها، إما أنها كانت هواية تحولت إلى احتراف، وإما وسيلة لدخل شهري معقول».
كتب كثير من الصحافيين السعوديين في «تويتر»، تعليقًا على وفاة عمر المضواحي، أنه كان «ملك البروفايل» في الصحافة السعودية، وهذا أمر صحيح، كونه يجيد التقاط زوايا لا يراها غيره، فهو لا يكتب عمن يعرفه شخصيًا إلا استثناء، وهذا الاستثناء كان جمال خاشقجي في «بروفايل» عنوانه «جمال خاشقجي: رجل الأقنعة ومهندس المشكلات الرابحة». يقول عمر عن جمال «إنه يحمل طيبة أهل المدينة المنورة ورقتهم ولين عريكتهم، لكنه عندما كتب عنه كتب بمهنية ما للرجل وما عليه».
على أن مسيرة عمر المضواحي الصحافية التي بدأت مطلع تسعينات القرن الماضي، وانتهت أخيرًا لم تخل من منغصات، فهو كان واضحًا شفافًا لجهة عمل موظفي إدارات العلاقات العامة في الجهات الحكومية والخاصة في الصحف المحلية، وكان يرى أن ذلك يضر بمصداقية الصحافي وبالتالي الصحيفة، وهذا الأمر تحديدًا جر عليه كثيرًا من المشكلات، بيد أنه كان صلبًا لا يلين، فهو لم يهادن في هذا النهج، ولم يتراجع، وظل على موقفه حتى توفاه الله.
دفع «السيد» - وهو لقبه المحبب الذي اشتهر به - أثمانًا باهظة لمواقفه التي كان يراها محقة، وهو محق، فهو بقي غير مرة من دون ممارسة عشقه، لكنه لم يطلب عملاً من أحد يومًا من الأيام، بيد أن شهرة عمر المضواحي في كتابة «البروفايل» في الصحافة السعودية لم تكن إلا جبل جليد نجاحاته، فهو في الأساس متخصص في الكتابة عن المواقع والآثار الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويمكن بسهولة الجدل في أنه لا ولن يجاريه أحد في هذا التخصص على المدى المتوسط على الأقل.
أمن المضواحي إيمانًا لا يخالطه شك في قضيته؛ الدفاع عن الآثار الإسلامية في المدينتين المقدستين، وحاول كثير من مقربيه إثناءه، خوفًا عليه من أن يقع عليه ضرر بسببها، لكنه لم يتوقف، وظل يكتب في صحيفته الأخيرة «مكة»، وما لا يُنشر فيها يُنشر في مدونته أو في «تويتر».
خدم عمر المضواحي مدينته التي ولد ودفن فيها أيما خدمة، فهو كان يقول حافظوا على الآثار النبوية للأجيال المقبلة، وسعى في كل اتجاه لذلك، وسعى مع مجموعة من رجال مكة للالتقاء مع المسئولين الحكوميين، للمحافظة على المواقع التاريخية في الأماكن المقدسة.
طوال سنوات لم يكلّ المضواحي، عبر قلمه، في إيصال قضيته التي آمن بها حتى وجدت صدى لدى المسؤول الأول عن السياحة والتراث الوطني في السعودية، الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز.. والمضواحي في أشهره الأخيرة كان دائم الثناء على الأمير سلطان، وعلى شقيقه الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، أمير المدينة المنورة الحالي، الذي يقول عنه المضواحي: «أدبه جم.. صدره يتسع، وابتسامته دافئة».
في منتصف 2002 ظهرت بوادر تغيرات في الصحافة السعودية، فقد وصلت «مجموعة mbc» إلى دبي، واقتربت من سوقها الكبرى ألا وهي السوق السعودية، فكان من الطبيعي استقطاب صحافيي الجرائد.
قبل نحو عامين كان هناك اجتماع في الرياض بين المضواحي وأحد أشهر الإعلاميين السعوديين، ويصنف اليوم في المراتب الأولى، سواء في الإعلام المرئي أو المسموع السعودي.
تلقى عمر ذات يوم اتصالات من الكاتب الشهير والتلفزيوني الأشهر قائلا: «يا عمر أريدك في الرياض..»، سأله عمر: «خير؟»، قال: «أريدك أن تكتب سيرتي الذاتية»، كانت المكالمة القصيرة كلها مفاجآت، فالسوق الإعلامية السعودية ليست رائجة فيه، تلك النوع من الكتب ما خلا كتب السير الذاتية الدعائية، فالإعلامي الذي اختار عمر لكتابة سيرته الذاتية يملك قلمًا يشبه المدفع، يقصف في كل الاتجاهات، وإن أراد مديح شخص أو جهة يستخدم معه المسدس الصغير، فهو حاد في الصحافة، صعب في كل ما يتعلق بها.
التقى الرجلان في الرياض بعد حفاوة وصفها عمر بأنها «سبعة نجوم»، وفاجأ الصحافي الكبير عمر بقوله إنه سيروي كل شيء وبكل صراحة، مما أزال خوف عمر وشجعه على الموافقة المبدئية، لكن ولأسباب لا يعلمها إلا الصحافي الكبير والإعلامي الشهير توقف المشروع، وماتت فكرة كانت من الممكن أن تحرك كثيرًا من المياه الراكدة في الإعلام السعودي، وتضيف فريدة من فرائد المضواحي الكثيرة.
* منتج برامج وثائقية