لبنان: «ستينية مهرجانات بعلبك ومعرض بيروت للكتاب» عام 2016

فنون الفرجة تفتن اللبنانيين.. والكتب تعاني الفوضى

ميراي ماتيو في «بيبلوس»، لقطة من «الست نجاح والمفتاح»
ميراي ماتيو في «بيبلوس»، لقطة من «الست نجاح والمفتاح»
TT

لبنان: «ستينية مهرجانات بعلبك ومعرض بيروت للكتاب» عام 2016

ميراي ماتيو في «بيبلوس»، لقطة من «الست نجاح والمفتاح»
ميراي ماتيو في «بيبلوس»، لقطة من «الست نجاح والمفتاح»

لبنان لا يتقاعس، يجهد كي لا يتراجع.. ثمة، لحسن الحظ، آلة ديناميكية يصعب إيقافها. الحياة الثقافية تمضي ما دام الجمهور بمقدوره أن يتنقل ليشارك ويستمتع. الشلل السياسي والشح الاقتصادي لا يوقفان العجلة.. السر ربما في تقاليد ثقافية صارت مواعيد يصعب التراجع عنها.. هناك أنشطة صارت لها عقود وأرست لنفسها تاريخًا. «مهرجانات بعلبك الدولية» تحتفل عام 2016 بمرور ستين سنة على انطلاقتها.. «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» يحتفي في دورته المقبلة بستين سنة أيضًا.. «معرض الكتاب الفرنكفوني» بلغ عمره الثاني والعشرين.. «مهرجانات بيت الدين» أطفأت شمعتها الثلاثين.. «مهرجان البستان الدولي للموسيقى» بلغ عامه الثالث والعشرين.. «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» الذي صار عنوانا للحداثة ولتعريف اللبنانيين بكل جديد بلغ عشر سنوات ونيفًا.. «مهرجان بيروت الدولي للسينما» وصل إلى دورته الخامسة عشرة.. أنشطة «أشكال ألوان» بلغت سنتها السابعة.. هذا غيض من فيض المواعيد السنوية التي باتت ثابتة وينتظرها اللبنانيون سلفًا، كل منها يمتد إلى أسبوعين ويصل غالبًا إلى أربعة.. هي في معظمها دولية الطابع، منفتحة على عروبتها وما يستجد في العالم.
قد يكون التمويل الخارجي هو حبل الخلاص الذي منه تتنفس بيروت ثقافتها، وغربتها عن نفسها أيضًا. ما إن تنتهي احتفالية كبرى حتى تبدأ أخرى، وكثيرا ما تتزامن المناسبات التي تستحق المتابعة، ويجد اللبنانيون صعوبة في التوفيق بينها، كأنما بيروت اعتادت على النيران المشتعلة حولها، صار التعايش معها طبيعيا، كيف لا والعاصمة اللبنانية تغلبت على الحرب وهي في حواريها وأزقتها.
المكابدة لا تتوقف، والتحديات لا بد من مواجهتها، عن هذا تحدثت كريستين طعمة، مديرة مهرجان «أشكال ألوان»، وهي تقول: «الأمور ذاهبة إلى هاوية حقيقية.. أنا اجترحت مغامرة ومستمرة فيها، وأعرف أنني أعمل في ظل ظروف بلد مؤجل، ومدينة مؤجلة، ومع ذلك تستمر المغامرة»، هذه المغامرة العفية أنجبت هذه السنة أكثر من 13 عرضا مسرحيا وأدائيا، و26 محاضرة، وأربع ندوات، و15 فيلما، ونشاطات أخرى، بينها عروض الأداء وأفلام فيديو ومحاضرات أدبية وندوات ومعارض وتجهيز، تمثل جميعها تيارات مختلفة، وضمن برنامج نشاط واحد دام أربعة أسابيع.
الإصرار كبير، ليس من اللبنانيين وحدهم، بل ممن يأتون وقد جذبتهم الأجواء البيروتية، لور دوهوتفيل الفرنسية التي أسست لـ«بيروت آرت فير» لا تني تحاول أن تتوسع، هذه السنة كما العام الماضي، قررت أن تخرج الأعمال الفنية إلى وسط بيروت، رغم المظاهرات الشعبية الحاشدة. افتتحت الدورة السادسة، بحضور رسمي، بينما كانت المظاهرات الشعبية المطالبة برفع النفايات ومعاقبة المسؤولين على أشدها. السيدة الفرنسية فخورة أنها لن تنكسر، ولن تتراجع، وأن لا شيء يثنيها عن الاستمرار في أنشطتها في بيروت.
ليست الكتب على ما يرام.. المسرح الذي غاب طويلا عن المدينة ونبذته لسنوات يبدو أنه يعود إليه الوهج على نحو مفاجئ منذ ما يقارب العامين، من لحظة انتبه التجريبيون إلى أن عليهم أن ينضموا في بيع تذاكرهم إلى الأماكن التي تسوق فيها تذاكر الحفلات الموسيقية الكبرى.. هناك يأتي الشباب ويبحثون عن ضالتهم.
مع نهاية السنة، كان يمكن للحيرة أن تنتابك وأنت تختار مسرحيتك المفضلة، من «ست نجاح والمفتاح» التي عادت بها عايدة صبرا إلى المسرح، إلى «أسرار الست بديعة» للفنانة القديرة ندى أبو فرحات، إضافة إلى «بيروت فوق الشجرة» للثنائي يحيي جابر وزياد عيتاني بعد نجاح مسرحيتهما «بيروت طريق الجديد» التي عرضت لسنتين متتاليتين وسط إقبال كبير، وكذلك بيتي توتل في مسرحيتها «مسرح الجريمة»، ومسرحية تشيخوف «بساتين الكرز» من إخراج كارلوس شاهين.. اللائحة طويلة والعروض كثيرة.
الفرجة تخلب الألباب، وعرض مثل «هشك بشك» غنائي راقص يستعيد أجواء البارات المصرية، استمر لأكثر من سنة، أعيدت صياغته بنكهة أخرى ليقدم ملبننا في «مهرجانات بيت الدين»، ومن ثم في «مترو المدينة»، ويبقى الإقبال عليه كبيرًا.
هذه الشعبية ليست من حظ الكتاب، حيث إن المعرض السنوي للكتب بقي فاترًا، والمبيع ليس كما ينبغي، وجاءت إحصاءات «النادي الثقافي العربي» وهي الجهة المنظمة، لتشير إلى تقدم ثلاثة دواوين في مجال الشعر، هي: «كان يكفي أن نكون معًا» لطلال شتوي، عن دار الفارابي، و«إلى أين تأخذني أيها الشعر؟» لشوقي بزيع، عن دار الآداب، و«في فم الغراب»، ليوسف بزي، عن رياض الريس للكتب والنشر، وديوان «وما أرسلناك إلا وردة لعاشقين» للشاعر لامع الحر.
أما في مجال الرواية فبدا في الإحصائيات أن الأكثر مبيعا هو: روايات «النوم الأبيض»، لجنى نصر الله، و«البند العثماني» سمير زكي، و«خمسون غرامًا من الجنة» إيمان حميد، و«مومس بالمذكر» فارس خشان، و«أولاد الغيتو»، إلياس خوري، و«قواعد العشق الأربعون»، أليف شافاك، ورواية «شخص آخر» نرمين الخنسا.
في ظل ظروف الكتاب الصعبة والفوضوية، من الصعب أن تعرف ماذا يقرأ اللبنانيون فعلا، فدور النشر المعنية بالرواية تخبرك أن الروايات لا تزال هي الأولى، وتلك التي تنشر الكتب الفكرية تخبرك أن هذا هو المطلوب اليوم، وكذلك المهتمون بالكتب التراثية. وبالتالي، ليس من السهل الوصول إلى نتيجة محسومة، خصوصا أن معرض الكتاب يقيم إحصائياته التي اعترض على صدقيتها البعض، مقسمة بين شعر ورواية وقانون ومعاجم وأطفال وأعمال عامة وفكر. وفي النهاية كل يقرأ تبعًا لتخصصه أو المجال الذي يعمل فيه.
ليس لبنانيا فقط، بل عربيا، تبقى معرفة أهم الكتب المقروءة عسيرة، إذا ما فتحت على موقع «غود ريدرز» مثلا ستجد كتبا مختلفة عن تلك التي يقول موقع «نيل وفرات» إنها الأكثر رواجا وطلبا من القراء، وهؤلاء تختلف كتبهم عما تجده على صفحة «بيست سيلرز الفيسبوكية».
قرأت التشكيلية اللبنانية نجاح طاهر رواية «فتاة القطار» لبولا هوكينز، و«ما بعد الحفلة» ليحيى الجمال، وقرأت ثناء الحلوة، منسقة مادة علم الاجتماع في الإرشاد والتوجيه، في وزارة التربية اللبنانية، كتاب «آخر الخوارج.. أشياء من سيرة صحافية» لرياض نجيب الريس، و«تاريخ بيروت» لسمير قصير، وكذلك «العلم مقابل الروحانية - حروب وجهات نظر» لديباك شوبرا وليوناردو ميلوديناو.
الحياة الثقافية اللبنانية لا تزال حافلة، فعلا، قد لا يعجبك مستوى بعض الأعمال المقدمة، وكثير من الكتب المنشورة. الرهان اليوم هو على الاستمرار، ورفض التوقف، مهما كانت الظروف. تقول كريستين طعمة: «هل لدينا خيار آخر، غير أن نعمل وكل واحد ويجتهد على طريقته؟».



حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب
TT

حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب

في عام 2011 كنت على موعد للحصول على فيزا لإقامة معرض في نورث كارولينا بدعوة من جامعة دافيدسون وحصلت على الفيزا في آخر يوم قبل إغلاق السفارة بدمشق.

سافرت عام 2012 ورجعت إلى دمشق، وكانت المظاهرات والاحتجاجات تعم المدن السورية والقرى وأنا أعيش في دمشق أحاول أن أساعد بجهد شخصي أبناء الريف المتضرر والمحاصر، فهناك الكثير من المهنيين والمعارف الذين تضرروا وبحاجة لكثير من الطعام والمستلزمات. كنت أحملها بسيارتي وأحمل معها روحي وأمضي وفي رأسي سيناريوهات العالم كلها. أحضر أجوبة على كل احتمالات الحواجز والشبيحة وعناصر الأمن، عما كنت أكتب بحس ساخر على فيس بوك وأناهض الفساد والقتل. أنا امرأة متمردة بطبعي على الظلم وأمشي عكس التيار، أعشق الحرية والسفر لأعود إلى بلدي بشوق أكثر. هناك تحديات كثيرة كانت أمامنا في بلد كل زاوية فيها حاجز أمني وشبيحة. كانت رعاية ملائكية تنقذني دوماً من رش للرصاص على سيارتي في حاجز حرستا ووضع عبوة ناسفة قرب سيارتي أمام بيتي بعد أن نزلت منها، وتصويب البندقية عليَّ في تأبين باسل شحادة. هربت بأعجوبة. هذه ليست بطولات أرويها ولكن كان حماساً وواجباً علي. ويوماً كنت على حدود لبنان للسفر إلى المغرب لإقامة معرض. أخذوني من الحدود وبدأت التحقيقات معي عن كتاباتي على صفحتي بفيسبوك. وانتهى التحقيق بالتوقيع على ورقة بعدم كتابة أي شيء. وفي اليوم التالي أُلغي منع السفر. وعندما عدت استدعوني مرة أخرى. قلت للمحقق ضاحكة لم أكتب شي مثل ماوعدتكم، فقال لي: رسمتِ. لقد شاهد لوحة فيها قطعة ممزقة من كلمة الثورة التي على الجريدة، فأجبته باستغباء: هذه الجريدة الوطنية ليش ممنوع نحطها، فقال لي: أعرف ما تريدين أن تقولي مع هذه الشخبرة. يصف لوحاتي بـ«الشخابير».

ثم قال لي: نريدك أن ترسمي لنا صورة المعلم، فقلت له: أنا أرسم مناظر وزهوراً لا أرسم حيوانات ولا بشراً واسأل عني مرة باسل الأسد فقد طلب مني ومن مجموعة من الفنانين رسم أحصنته فرفضت لأني لا أعرف، فأجابني: لا أنت فنانة قديرة رح ترسميها فقلت له سأحاول سأطلب من أحد يجيد رسم البورتريه، فقال لي: لا أنت يجب أن ترسميها وتوقعي عليها اسمك.

بقيت أشهراً أماطل ويسألني دائماً على الهاتف: ما خلصتِ، ألاقي الأعذار كل مرة بالكهرباء والتدفئة وعدم جفاف الألوان بالبرد. كنت أنام وأصحو في رعب وسخرية أيضاً. أحياناً أفكر أن أرسم حماراً وفوقه أرسم صورته بألوان تزال بالماء وأرسلها بعد أن أخرج من البلد مع رسالة «امسح الصورة تجد المعلم». المهم كان هذا مسلياً لي في أوقات القلق والتوتر إلى أن قدمت استقالتي من عملي وطلبت من الأمن موافقة أمنية للسفر لمرة واحدة قبل انتهاء الفيزا، وحصلت عليها.

قبل يومين من تحرير حلب كنت في حالة شوق مكبوت لسوريا، وأتمنى بشدةٍ العودة. وكنت أحاول أن أقنع نفسي بأن وضعي في أميركا جيد وصرت مواطنة أميركية وعندي جواز سفر مثل جناحين أطير به بين البلدان بكل سلاسة. وأقنعت نفسي من أول يوم أتيت إلى شيكاغو أنني سأبدأ حياة جديدة وتناسيت بيتي بالشام ومرسمي ولوحاتي وذكرياتي وأصدقائي الذين لم يبق منهم إلا القليل في دمشق. أخوتي قاطعتهم لاختلافي معهم في المبدأ فقد كانوا يقفون مع النظام.

وزاد فقداني لابني الذي قُتل عام 2014 كرهاً لتلك البلاد التي لفظتنا ولم تقدم لنا إلا العنف والنبذ والقتل والتهميش. أنا قدمت الكثير لسوريا، وكنت أقوم بأعمال تطوعية مع الأطفال والشباب لتأجيج روح الفن والحب والحياة والحرية. كنت أعيش مع أجيال متتابعة في عملي معلمة فنون في مدارس سوريا ومعاهدها وجامعاتها.

تحرير حلب كان فرحاً مشوباً بالخوف... أتابع ليل نهار كل وسائل التواصل. لم أعد أنام. عاد الأدرنالين للصعود مثل بدايات الثورة عام 2011 والترقب والحماس، وكنت أقول لنفسي إن لم يصلوا إلى دمشق لن أفرح. كنت ذلك اليوم أبكي، ولم أخرج إلى الشارع لأن دموعي كانت لا تتوقف.

فجأة الحلم عاد، واليأس اختفى، وصار عنا مستقبل مختلف. صار عندي وطن أعود إليه مع أبنائي وأحفادي. صار عندي أمل أعود لأعرف أين قتل ابني وأين رفاته، أعود لأقبل بناته حفيداتي اللاتي لم أرهن منذ سافرت.

* فنانة تشكيلية