من التاريخ: الآيديولوجية والحروب

من التاريخ: الآيديولوجية والحروب
TT

من التاريخ: الآيديولوجية والحروب

من التاريخ: الآيديولوجية والحروب

لقد اهتم علماء العلاقات الدولية بدراسة أسباب الحروب، وأفنى كثيرون منهم حياتهم سعيًا لمعرفة السبب الرئيس وراء اندلاع الحروب. فما الأمر الذي يدفع الساسة لإعلان الحروب، والدخول في أكثر التفاعلات الدولية كلفة بشريًا وماليًا؟
ثمة نظريات كثيرة في هذا المجال تسعى إلى شرح أسباب اللجوء للحروب أو الانزلاق إليها. وخصّ عدد منهم الآيديولوجية كعامل محرّك للحروب بين الدول، فكثرة من الحروب وصفت وتوصف بأنها حروب «دينية» أو «فكرية» أو «آيديولوجية»، إلا أن غالبيتها في الحقيقة لا يخلو من كونها عنصرًا واحدًا فقط ضمن تركيبة أسباب مختلفة تؤدي للحرب. وأغلب هذه الأحيان يكون الشكل هنا على حساب المضمون، فمعظم الحروب الآيديولوجية اندلعت لوجود أسباب أخرى مهمة وراء اندلاعها. ولقد تناولنا على مدار أسابيع طويلة في العام الماضي الحروب الصليبية (أو كما وصفها المؤرّخون المسلمون «حروب الفرنجة») - على سبيل المثال - وثبت أن أسبابها كانت سياسية وتوسعية وتجارية أكثر منها متصلة بالدين. والقصد أن الدين ما كان إلا غلالة تستر أهداف الملوك والأمراء من وراء تلك الحروب التي أعلنتها كنيسة روما على الإسلام. وبالتالي فإن ربط هذه الحروب بالدين حصرًا ربط غير دقيق، خصوصًا أن الدول كانت تلجأ لهذا الهدف كتبرير لكون الدين خير وسيلة للتعبئة الشعبية تاريخيًا في معظم الدول، وإن كان اليوم وسيلة قليلة الفعالية في بعض الدول، ولا سيما الدول الغربية حيث جرى فصل «المسيحية» عن «الدولة».
وارتباطًا بهذه الأطروحة وجدت في الدراسة العملية لعالم العلاقات الدولية كاليفي هولستي K. Holsti أفضل خريطة لفهم الحروب الدولية خلال الفترة الممتدة من عام 1648 وحتى عام 1989 (أي بُعيد سقوط الاتحاد السوفياتي). وتعكس هذه الدراسة بوضوح أن الدين أو الآيديولوجية لم يلعبا دورًا محوريًا كسبب أساسي لاندلاع الحروب على المستوى الدولي، وتستند الدراسة في ذلك إلى أهم التحليلات التالية:
أولاً: أن العامل المشترك لأغلبية الحروب على مدار هذه الفترة كان الاستحواذ على الأرض أو نشر النفوذ أو لأسباب استراتيجية مرتبطة بالأرض. ولقد مثل ذلك ما يقرب من 34% من الأسباب المؤدية لاندلاع الحروب خلال الفترة بين عامي 1648 و1814، سواء كسبب منفرد أو ضمن أسباب أخرى. ويلاحظ أن هذا العنصر بدأ يقل تدريجيًا بعد هذا التاريخ ليصبح قرابة 20% خلال الفترة من عام 1814 إلى عام 1945 (أي بنهاية الحرب العالمية الثانية). ثم تنحدر هذه النسبة لتصل لقرابة 8% خلال حقبة «الحرب الباردة». وهو ما يعني أن عامل التوسع الجغرافي بدأ يقل تدريجيًا مع انخفاض نسبة الحروب الدولية أخيرًا، ويرجع ذلك في التقدير إلى أن في العالم اليوم حدودًا دولية معروفة تحظى بالاعتراف والاحترام الدوليين، ومن ثم ما عاد عنصر الأرض يشكّل سببًا قويًا في الحروب الحديثة.
ثانيًا: مثّل عامل التجارة والاستحواذ على الطرق التجارية الدولية قرابة 15% من الأسباب المؤدية للحروب خلال الفترة من عام 1648 وحتى عام 1814، وهو أمر طبيعي بسبب الصراع الدولي على هذه الطرق خلال هذه الفترة وانتشار مفهوم «المركانتيلية» أو قصر التجارة بين الدولة الأم ومستعمراتها. ولكن بمرور الوقت أصبحت هذه النسبة منعدمة مع تطور الظروف الدولية، وإقرار مبدأ حرية التجارة الدولية وانتهاء السيطرة على الطرق الدولية للتجارة.
ثالثًا: مثلت وراثة العروش سببًا ملحوظًا في بعض الحروب – وبالذات في أوروبا – خلال الفترة من عام 1648 وحتى عام 1814، وصلت إلى قرابة 12%. ولكن مع تغير السياسة الدولية واستقرار مفهوم الدولة وسبل الحكم فيها اندثر هذا العنصر كسبب للحروب الدولية بشكله التقليدي.
رابعًا: مثل عنصر الحفاظ على الدولة وأنظمتها أكثر العناصر المستقرة على مر الفترات الزمنية بمعدل يصل إلى 7.5% تقريبًا. وهذا أمر مفهوم إذ إن بقاء الدول يعد عاملاً مستمرًا في السياسة الدولية ويؤدي إلى الحروب، فالتحالفات الدولية وأهداف كل دولة تمثل سببًا مباشرًا حتى اليوم في الحفاظ على الدولة أو تغيير نظامها السياسي. خامسًا: لم تمثل الآيديولوجية كعنصر مسبب للحروب إلا نسبة ضئيلة للغاية من أسباب الصراع الدولي لم تتخط في أحسن الحالات أكثر من 3% من أسباب اندلاع الصراعات. وهذا ما يعكس حقيقة أساسية هي أن الدين وحده ليس محركًا للحروب، بل لا بد من البحث عن المسبب الحقيقي بدل التركيز على الأسباب الشكلية.
سادسًا: تشير الدراسة إلى أنه خلال الفترة الباردة تلاحظ وجود تفتّت ملحوظ في الأسباب المؤدية للصراعات، إذ لم يعد هناك سبب واحد مهيمن على أسباب اندلاع الحروب، فغدا عنصر الإبقاء على الدولة أو النظام الحاكم يمثل قرابة 9%، بينما صارت العناصر الأخرى مثل الأراضي والحركات التحرّرية وبناء الدولة.. إلخ. أكثر ظهورًا من غيرها بنسب غير بعيدة عن الرقم سالف الذكر.
من كل ما سبق، يبدو واضحًا أن الآيديولوجيا والدين لم يلعبا دورًا سببًا محوريًا في اندلاع الحروب، ولكن تظل هناك آراء مختلفة تدفع بأن الدين يمثل سببًا مباشرًا على الرغم دحض الإحصائيات العلمية لدراسة الحرب على المستوى الدولي هذه التوجه. وهو ما يدفعنا للتأكيد على أن من الأسباب الأساسية وراء هذا الطرح تعدد نماذج الحروب الحديثة، لا سيما الحروب الأهلية منها، لتي تختلف بشكل شبه كامل عن أسباب اندلاع الحروب بين الدول. وهذا أمر مفهوم في ظل تغير أشكال النظام الدولي وانتشار عوامل العولمة على المستوى الدولي وأثرها المباشر على مفهوم «الدولة».
وتحضرني في هذه المرحلة نظرية «الحروب الجديدة» في العلاقات الدولية، التي تشير إلى أن من الأسباب الأساسية المؤدية لاندلاع هذه الحروب.. الضغوط التي تفرضها العولمة وتطور وسائل الاتصالات على هيكل الدولة وأنظمتها ومفاهيمها الداخلية بل وشرعية نظام الحكم فيها، خصوصًا الضغوط الثقافية والآيديولوجية. كل هذه الأسباب تؤثر مباشرة على تماسكها، وبالأخص، لأنها تمسّ تكوين الدولة وهويتها. وكثيرًا ما تُحدث هذه العوامل حالة من الانشطار الفكري لهوية دولة، وتشير هذه النظرية أيضًا إلى الدور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني سواءً إيجابا أو سلبًا في هذا الإطار من خلال استيعاب مفاهيم دولية قد لا تكون بالضرورة مناسبة للدولة وشعبها، والعكس صحيح. كل هذه العوامل تجعل الدول ومكوّنات تماسكها سببًا مباشرًا للتقويض الداخلي أو ظهور حالة تنافر ناتج عن التعددية الفكرية، مما يجعل الصراع ممكنًا ليس بين الدول بل على مستوى الدولة ذاتها Sub - state level، ويعضد من هذا التوجّه النظري لـ«الهيكليين» Constructivists في نظريات العلاقات الدولية، الذي يدفع بأن «الهوية الجماعية» هي العنصر الأساسي الذي يجب التركيز عليه لفهم الدولة وسياستها الخارجية بل وتركيبتها الداخلية أيضًا. وهنا يدخل الدين كمكون أساسي في الكثير من الدول التي أخذت تتأثر بشكل مباشر بالمفاهيم الجديدة التي تنشرها العولمة، فتجعل المجموعات داخل الدولة الواحدة تتأثر بشكل مباشر بما يحدث في العالم. وهو ما بات يهدد كثرة من الدول، وبخاصة تلك التي تفتقر إلى عناصر الوحدة الداخلية أو مفهوم «الشرعية» فيها، أو بدأت الأفكار الخارجية تؤثر سلبًا على التركيبة الفكرية لكثير من المجموعات المكونة للدولة فيها.
حقيقة الأمر أن الوقت قد حان لتسمية الأمور بأسمائها. فالدين لم يكن، ولا أتوقع أن يكون في المستقبل، عنصرًا حاسمًا للدفع بالعنف كسبب وراء اندلاع الحروب سواء القديمة منها أو الحديثة، ولكنه على أفضل الأحوال عنصرًا مساعدًا.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.