اليمين الفرنسي المتطرف وإرهاب 13 نوفمبر

على الرغم من نجاح القوى السياسية الرئيسية في احتواء الخطر مؤقتًا

رئيسة حزب الجبهة الفرنسية ماريون لوبن تتحدث لوسائل الإعلام بعد الإعلان عن الجولة الثانية للانتخابات المحلية (أ.ب)
رئيسة حزب الجبهة الفرنسية ماريون لوبن تتحدث لوسائل الإعلام بعد الإعلان عن الجولة الثانية للانتخابات المحلية (أ.ب)
TT

اليمين الفرنسي المتطرف وإرهاب 13 نوفمبر

رئيسة حزب الجبهة الفرنسية ماريون لوبن تتحدث لوسائل الإعلام بعد الإعلان عن الجولة الثانية للانتخابات المحلية (أ.ب)
رئيسة حزب الجبهة الفرنسية ماريون لوبن تتحدث لوسائل الإعلام بعد الإعلان عن الجولة الثانية للانتخابات المحلية (أ.ب)

منذ الإعلان عن نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الإقليميّة الفرنسيّة وفرنسا تعيش حالة من «الصدمة»، مع تحقيق اليمين المتطرف اختراقا تاريخيّا، محتلا بلوائحه موقع الصدارة في 6 أقاليم من أصل 13 في الدورة الأولى. والواقع أنه لا يمكن فصل هذه النتائج على الإطلاق عن الهجمات التي وقعت في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في العاصمة الفرنسية باريس وتبناها تنظيم داعش، وتسببت في مقتل 130 شخصا فضلا عن مئات الجرحى الأبرياء. ولقد فرض هذا العمل الإرهابي قراءة جديدة للهجمات التي نفذها فرنسيون وبلجيكيون من أصل عربي، كما قد تكون له تداعيات كبيرة على المسلمين في فرنسا.
مع أن حزب «الجبهة الوطنية» (Front national) الفرنسي اليميني المتطرف لم يتمكن من الفوز، وبالتالي السيطرة، في أي إقليم من أقاليم فرنسا الـ13 خلال الجولة الثانية والحاسمة من الانتخابات، فإنه استطاع كسب العديد من الأصوات. والأرقام تتحدث عن نفسها بحيث حصد الحزب المعادي للمهاجرين الذي تتزعمه مارين لوبن 6 ملايين وثمانمائة ألف صوت، أي أفضل بكثير من النتائج التي حققها عام 2012.
بين الجولتين الأولى والثانية، تقدم «الجبهة الوطنية» بقيادة لوبن - وهي ابنة الزعيم السابق المؤسس جان ماري لوبن - في كل مكان ما عدا إقليمي إيل دو فرانس (محيط العاصمة باريس) وجزيرة كورسيكا، وحتى في هاتين المنطقتين جاءت النتائج أفضل من السنين السابقة، وزاد عدد الأصوات المؤيدة للحزب اليميني المتطرّف. ومن ناحية ثانية، كانت ماريون ماريشال لوبن، حفيدة الزعيم المؤسس وابنة أخت الزعيمة الحالية، قد صرّحت في مقابلة قبل الإعلان عن النتائج بأنه سيكون من «السخرية أو حتى الانتهازية» القول إن حزب «الجبهة الوطنية» قد «استفاد من الهجمات»، مضيفة مع ذلك أنه من الضروري الاعتراف بأن الحزب يحذّر منذ سنوات من «التطرف الإسلامي»، ويدعو إلى عدم التسامح مع المخلين وإلى إغلاق ومراقبة الحدود.
غير أن أحد محللي السياسة الفرنسية، وقد تحدث إلى «الشرق الأوسط» شرط التكتم على هويته، أشار من جهته إلى أن الهجمات التي وقعت الشهر الماضي في باريس أسهمت في النتائج التي أحرزها «الجبهة الوطنية» من دون أن تؤدي إلى تحوِّل جذري وشامل للفرنسيين باتجاه الحزب اليميني المتطرف، بحيث كان التقدم تدريجيا إلى حد ما. وعلى الرغم مما شهدته الجولة الثانية من الانتخابات الإقليمية من انتفاضة للشعب الفرنسي ضد الخطاب اليميني المتطرف، فإن هجمات 13 نوفمبر ونتائج الانتخابات التي تلتها عبرت خير تعبير عن الانزعاج والاختلافات الاجتماعية المتصاعدة في فرنسا، أقله في بعض المناطق.
وفي هذا السياق، يعتبر رومان كاييه، الباحث في «الحركات المتشددة باسم الإسلام»، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن ثمة نقاط تشابه واضحة وسهلة التحديد بين مرتكبي هجمات 13 نوفمبر. فأحد المتهمين وهو صلاح عبد السلام رجل فرنسي الجنسية، يبلغ 26 سنة، ويقيم في حي مولينبيك بشمال غربي العاصمة البلجيكية بروكسل، مع شقيقه إبراهيم، الذي فجر نفسه في باريس. كذلك من أبناء حي مولينبيك متهم آخر هو محمد أبرني، البلجيكي من أصل مغربي الذي يبلغ 30 سنة، والذي شوهد بصحبة عبد السلام قبل يومين من هجمات باريس الإرهابية. وحسب المعلومات المتوافرة فإن أبرني صديق لصلاح عبد السلام، وله سجل حافل من السرقات والتوقيفات في السجون البلجيكية، ويُعتقد أنه زار سوريا في صيف 2015. أما عبد الحميد أبا عود، الذي يشتبه في أنه «العقل المدبر» لهجمات باريس، فهو أيضا بلجيكي من أصل مغربي. وهناك غيرهم مثل بلال حدفي (20 سنة) وسامي عميمور (28 سنة) وإسماعيل عمر مصطفى (29 سنة) وفؤاد محمد أغاد، وكلهم من الفرنسيين والبلجيكيين المتحدرين من أصول شمال أفريقية وسبق لهم أن شاركوا في الحرب الدائرة في سوريا.
وتابع كاييه: «لفترة طويلة، وخوفا من اتهامنا بالعنصرية، كنا نردد أن الحركيين المتشددين في سوريا هم من خلفيات متعددة ويضمون فرنسيين اعتنقوا الإسلام حديثا وفرنسيين من أصول مغربية وشبانا يعيشون صراعا في مجتمعاتهم. غير أنه منذ الهجمات التي نفذها محمد مراح (المسؤول عن هجمات تولوز عام 2012) وأحمدي كوليبالي (المسؤول عن هجمات يناير - كانون الثاني، 2015 في باريس)، بتنا نلاحظ أن مرتكبي الهجمات يتشاركون كلهم صفات محددة، وهم بغالبيتهم من أصول مغاربية (أو شمال أفريقية) أو أفريقية»، وفق كاييه.
واستطرد الباحث كاييه: «كما أنه لكي تبلغ هذه الشخصيات المتشددة مرحلة النضوج القتالي الإرهابي كان عليها المرور بسوريا. ومن هنا يشكل المتشددون الذين توجهوا إلى سوريا، منذ عام 2012 مصدر القلق الرئيسي لأجهزة مكافحة الإرهاب، علما بأن فرنسا وبلجيكا هما البلدان الأوروبيان المهددان أكثر من سواهما. ذلك أن العديد من الأشخاص الذين وردت أسماؤهم على اللائحة «س» التي أعدتها المديرية العامة للأمن الداخلي الفرنسية في عام 2010 والذين تتم ملاحقاتهم منذ ذلك الحين، توجهوا بالفعل إلى سوريا في عام 2014».
يكمل كاييه شارحا أن «(داعش) وبعض الفرنسيين من أصل مغربي يلتقون حول مصالح مشتركة. فـ(داعش) لديه سياسة خارجية موجهة ضد فرنسا، والمتشددون من أصل فرنسي لهم مطالب اجتماعية ضد بلدهم». ويضيف: «الفرنسيون الذين اعتنقوا الإسلام حديثا يمكنهم أن ينفذوا بسهولة أكبر العمليات الانتحارية ضد الميليشيات الشيعية في العراق (من حيث البعد الآيديولوجي). أما الفرنسيون المتحدرون من أصل عربي - ومغاربي - من ناحيتهم فيمكنهم أن يقوموا بعمليات في بلدهم، وذلك لدوافع عدة: مثل التهميش الذين يعانون منه بحيث يتعرض المواطنون الفرنسيون من أصل مغربي أو عربي في فرنسا لتمييز عنصري عشر مرات أكثر من المواطنين السود في الولايات المتحدة. كما أن بعضا من الفرنسيين من أصول مغاربية يرون أن فرنسا لديها واجب التعويض عليهم بسبب سياستها الاستعمارية، علما بأنه من المستبعد جدا أن يكون منفذو هجمات 13 نوفمبر يشعرون حقا بالانتماء إلى فرنسا»، وفق كاييه.
في المقلب الآخر، يتبنى أوليفييه روي، أستاذ العلوم السياسية والمتخصص بشؤون الإسلام، نهجا مختلفا عن كاييه في مقال نشرته صحيفة «لوموند» (Le Monde) الفرنسية بحيث يرى أن «التحاق هؤلاء الشباب بـ(داعش) تصرف انتهازي: فبالأمس كانوا مع تنظيم القاعدة (1995)، وقبل ذلك كانوا يؤيدون ولو بشكل غير علني (الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية)، أو سبق لهم أن شاركوا في القتال في البوسنة أو أفغانستان أو الشيشان. وغدا سيقاتل هؤلاء مع فريق آخر، إلا إذا كان مصيرهم الموت أثناء القتال أو التقدم بالسن أو خيبة الأمل التي ستفرغ صفوفهم كما حصل مع اليسار المتطرف في السبعينات». ووفقا لروي: «(داعش) يغرف من نبع الشباب الفرنسي المتطرف الذي، بغض النظر عما سيحدث في الشرق الأوسط، دخل في حالة من النقمة باحثا عن قضية أو شعار أو معركة كبيرة يضع عليها بصماته الملطخة بالدماء وثورته الشخصية».
في مطلق الأحوال، وبغض النظر عن الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة، تمكن تنظيم داعش من استغلال غضب، وفق كاييه.
إن التقدم الذي يحققه حزب «الجبهة الوطنية» مرتبط إذن بالنسيج الاجتماعي والإثني الفرنسي، وفق كاييه الذي يشرح قائلا: «إننا نلاحظ أن الفرنسيين من أبناء الطبقات الفقيرة العاجزين عن العيش في الأحياء المدينية الغنية يتفادون السكن في الأحياء المختلطة (حيث يقطن الفرنسيون من أصل عربي أو مغاربي) في الضواحي ويفضلون الأرياف.. في هذه المناطق بالذات يمكن لـ(الجبهة الوطنية) أن يحرز تقدما حيث يخيل إلينا أن الناس ما عادوا يعيشون أو يختلطون مع بعضهم البعض».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.