الخطاب الجديد لدواعش ليبيا: هيا بنا إلى «مثلث كولومبيا»

يسيطر عليه تجار مخدرات ومتطرفون.. ويقع على حدود الجزائر والنيجر

مسيرة عسكرية لتنظيم داعش في مدينة سرت الساحلية ({الشرق الأوسط})
مسيرة عسكرية لتنظيم داعش في مدينة سرت الساحلية ({الشرق الأوسط})
TT

الخطاب الجديد لدواعش ليبيا: هيا بنا إلى «مثلث كولومبيا»

مسيرة عسكرية لتنظيم داعش في مدينة سرت الساحلية ({الشرق الأوسط})
مسيرة عسكرية لتنظيم داعش في مدينة سرت الساحلية ({الشرق الأوسط})

بدأت قيادات تنظيم داعش المتطرف في ليبيا التفكير للمرة الأولى في الانتقال إلى المنطقة المعروفة بين مهربي المخدرات والمتطرفين في جنوب غربي البلاد باسم «مثلث كولومبيا»، حين توصل المبعوث الدولي السابق برناردينو ليون، قبل 50 يوما، إلى تشكيل حكومة وفاق وطني في ليبيا التي تضربها الفوضى، وذلك برئاسة فايز السراج، الذي تربطه علاقة قرابة بقيادي له كلمة على قسم مهم من الكتائب والميليشيات الموجودة في كل من طرابلس ومصراتة في شمال غربي البلاد.
لكن العملية توقفت مع توقف محاولات ليون لتنصيب السراج كرئيس لحكومة توافق وطني. إذ أدى ذلك التطور إلى تبديد مخاوف الدواعش من وجود سلطة قوية مدعومة دوليا، خاصة في أوساط الدواعش الذين يتمركزون في مدينة سرت المجاورة لأكبر مخزون نفطي في البلاد، والمقر المفضل للرئيس السابق معمر القذافي.
التحرك المفاجئ والسريع للمبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا، مارتن كوبلر، ونجاحه في إعلان التوافق بين عدة أطراف ليبية على تنصيب السراج، مساء يوم الخميس الماضي، أعاد خطة الدواعش الليبيين للابتعاد جنوبا، خوفا من التدخل العسكري الدولي، جوا وبرا خاصة في مدن الشمال، مثل درنة وسرت وطرابلس وصبراتة.
وقبل ثلاثة أيام من إشراف كوبلر على توقيع الاتفاق في بلدة الصخيرات المغربية، بين عدد من الخصوم الليبيين، أجرت قوات أميركية قوامها عشرون جنديا، مجهزة بالعتاد الكامل، عملية إنزال في «قاعدة الوطية» العسكرية التي تخضع لسيطرة كتيبة «أبو بكر الصديق» التابعة للجيش الليبي، وذلك على بعد نحو خمسين كيلومترا من مركز «داعش» في صبراتة المجاورة لطرابلس من ناحية الغرب. وتوجد جيوب أخرى لـ«داعش» داخل العاصمة نفسها.
وقامت الكتيبة الليبية بإجبار الجنود الأميركيين على العودة من حيث أتوا. ويقول أحد مساعدي العقيد العتيري العجمي، آمر كتيبة «أبو بكر الصديق»، في اتصال مع «الشرق الأوسط» عبر الهاتف: «أعتقد أن الإنزال الأميركي كان تصرفا متسرعا من جانب الفريق الأمني للسيد كوبلر». ويرأس الفريق الأمني الأممي الخاص بليبيا الجنرال الإيطالي، باولو سيرا، المكلف من الأمم المتحدة بـ«ملف إرساء الأمن والاستقرار وتدريب الشرطة وإعادة تأهيل الجيش»، ومواجهة الدواعش أيضا.
وفي الجانب الآخر من جبهة سرت، كان من الممكن أن تستمع لشهادات لعائدين من المحاور التي يسيطر عليها التنظيم، تعكس مخاوف الدواعش من الأيام المقبلة، وانتشار لغة جديدة بين عناصره تهدف إلى إقناع المقاتلين بالتحرك إلى الجنوب. ويقول أحد العائدين من خط التماس بين مدينتي سرت وإجدابيا إن دروس وخطب الدواعش تهيئ المنتمين إليه بأنه بداية من عام 2016 سيكون هناك تحرك لقوافلها العسكرية إلى الجنوب.. «السبب وراء هذا أيضا زيادة خبرة الجيش الليبي في اقتناص قادة (داعش) هنا»، كما حدث في الأيام الأخيرة.
ويضيف المقدم عبد العزيز التباوي، المسؤول في حراسة المنشآت النفطية الموجودة جنوب شرقي سرت، في اتصال مع «الشرق الأوسط»، إن الخطاب الشائع بين الدواعش في محيط منطقة الهلال النفطي هنا هو: «هيا بنا إلى (مثلث كولومبيا)»، مشيرا إلى أن هذا المثلث يقع على الحدود الليبية مع كل من النيجر والجزائر، ومعروف أنه يخضع، لهيمنة تجار المخدرات والمتطرفين منذ سنوات، ويصعب على القوات النظامية تحقيق نجاح فيه بسبب تضاريسه الجبلية والرملية.. «معروف من أيام القذافي أنه ملجأ للخارجين عن القانون وللمهربين».
وكان المقدم التباوي يعمل في حراسة المنشآت في محيط مدينة سبها في أقصى جنوب البلاد، قبل أن ينتقل إلى حقول النفط في سرت، قبل شهرين، لحمايتها من «داعش». لكنه يقول إن هذا التنظيم الدموي بدأ يخشى من الهجوم عليه من القوات الدولية، في الأيام الأخيرة. ويضيف أنه توجد طائرات من دون طيار (درون) تتحرك في السماء وتراقب المنطقة، ولا يعرف إن كانت تابعة للقوات المسلحة الليبية بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، أم أنها تابعة لدول أخرى تراقب نشاط المتطرفين في البلاد، أو أنها تابعة للأمم المتحدة التي يقول إن لها طائرات تراقب آبار النفط في الصحراء.
ووفقا لضابط سابق في الجيش الليبي، يدعى سليمان الجابري، كان قريبا من المجموعات المتطرفة في الشمال الأوسط من البلاد، فإنه توجد معلومات لدى قيادات «داعش» في ليبيا عن إمكانية اجتياح مواقعهم «بين عشية وضحاها»، في حال تمكنت حكومة السراج من جمع شمل باقي الفرقاء، والعمل من العاصمة طرابلس. ويضيف الجابري أن قوات «داعش» في سرت لا تزيد على ألف عنصر، لكن لديهم أسلحة وسيارات ومعدات حربية، ويصل إليهم مدد من ميناء المدينة الموجود على البحر المتوسط. ثم يقول إن سبب ظهور «داعش» في سرت بشكل قوي ولافت لنظر العالم، في فترة وجيزة، منذ مطلع هذه السنة، هو أن المدينة تعرضت لنزع سلاح أبنائها في أيام الحرب بين قوات القذافي و«ثوار 17 فبراير»، في إشارة للانتفاضة المسلحة التي دعمها حلف الناتو للإطاحة بالنظام السابق في فبراير (شباط) 2011. وعلى العكس من ذلك تمكن أهالي مدينة درنة، بمساعدة مجموعات مسلحة، من كسر أنياب «داعش» في الأسابيع الماضية.
منذ مقتل القذافي فشل الحكام الجدد في تشكيل سلطة مركزية قوية. وانقسمت البلاد بين جيش وميليشيات وسياسيين يسيطر قسم منهم على الشرق وقسم آخر على الغرب. ومع تزايد هشاشة الحكومة، تمكنت التنظيمات المتطرفة بما فيها «داعش» من التحكم في عدة مدن، وإثارة مخاوف العالم من أن تتحول ليبيا الواقعة على الساحل الجنوبي لأوروبا إلى ملاذ آمن للإرهاب.
وصفق ممثلو عدة دول بحرارة للاتفاق الذي توصل إليه الليبيون في الصخيرات. ولم ينس كوبلر أن يذكِّر بأن مسألة الأمن في ليبيا على رأس أولويات حكومة التوافق. ومن جانبه، تعهد المجتمع الدولي بتقديم الدعم للجيش تحت إمرة السلطة الجديدة. وخرجت تسريبات تقول إن هناك نحو ألف جندي بريطاني جاهزين للمساعدة على فرض الأمن في هذا البلد الذي لم ينعم بالراحة منذ رحيل القذافي. كما أن إيطاليا على استعداد لتوجيه نحو ستة آلاف جندي إلى ليبيا. وستكون الأولوية لهذه القوات هي تدريب العسكريين الليبيين في الجيش والشرطة، واستهداف التنظيم المتطرف.
ويقول أحد شهود العيان ممن فروا من سرت إلى الحدود المصرية منذ يومين، وهو معلم في مدرسة سرت الابتدائية يدعى أحميدة: «الدواعش في سرت عددهم ليس كبيرا، لكن حين يتحركون بسياراتهم يفعلون ذلك بشكل جماعي لإرهاب الناس. هم بضع مئات. وقاموا في الصيف بذبح وسحل العديد من القادة والمحللين والدعاة من أهالي سرت. وحين أعلن ليون عن تشكيل حكومة برئاسة السراج في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بدا لنا أنهم شعروا بالخوف من انتقام السكان، في حال استهداف مراكزهم من الجيش».
وبحسب رواية المُعلم أحميدة، قام الدواعش بمحاولة لتحسين معاملتهم للناس ونظموا مهرجانا ترفيهيا في ساحة المدينة وزعوا خلاله هدايا على الأطفال، بينما كان عدد من العناصر يحرسون المداخل والمخارج بالأسلحة الرشاشة وسيارات الدفع الرباعي المحمل عليها مدافع من عيار 14.5. وفي اليوم التالي قام التنظيم بفتح الباب لتعيين دعاة جدد للمساجد التي يسيطر عليها بمرتبات مغرية، وأدخل تعديلات على نظام المحكمة الشرعية التي يديرها. لكنه يوضح أن التنظيم بدا عليه الارتباك خلال الأسبوعين الأخيرين. المرة الأولى حين تمكنت طائرات الجيش الليبي من قصف مواقع له في المدينة، والمرة الثانية عقب توقع اتفاق الصخيرات الأخير وتسمية رئيس المجلس الرئاسي.
يملك السراج، رئيس المجلس الرئاسي وفي الوقت نفسه رئيس الوزراء، علاقات جيدة مع قيادات مقربة من الجيش في المنطقة الشرقية وأخرى مع بعض الميليشيات الموجودة في العاصمة وفي مصراتة وبعض قيادات «فجر ليبيا»، ممن أبدوا استعدادا للمشاركة في محاربة «داعش»، وفقا لنظام معين لا يتعارض مع بنيان الدولة الجديدة، تمهيدا لضم عناصر تلك الميليشيات للسلطات الأمنية أو منحهم وظائف أخرى. ينتمي السراج، وهو مهندس معماري ونائب في البرلمان عن حي الأندلس في طرابلس، لعائلة ليبية عريقة. وفي حال إظهاره قدرة على لم شمل الليبيين ووضع ترتيبات خاصة بالجيش والميليشيات، فإنه يمكنه بمساعدة المجتمع الدولي أن يحد من خطر «داعش»، ولو بإجباره على الهروب إلى الجنوب بعيدا عن المدن التي سيطر عليها التنظيم في الشمال خلال الشهور الـ18 الماضية.
ومن بين الإغراءات التي تجعل «داعش» يفضل الجنوب، وجود أوكار يمكنه الاختباء فيها. يقول أحد القادة العسكريين إن بلدة تراغن في الجنوب تعد بمثابة المركز لـ«مثلث كولومبيا»، وتحيط بها الجبال والكثبان الرملية من جميع الجهات تقريبا. وأطلق المهربون هذا الاسم على المنطقة، بسبب سهولة تحرك شحنات المخدرات فيها عبر الحدود، بعيدا عن أعين سلطات الدول المجاورة، سواء كانت الجزائر أو النيجر، والانطلاق منها إلى مالي، حيث أصبح المثلث في الأعوام الأخيرة ملاذا آمنا للتنظيمات المتطرفة، بما فيها جماعة «بوكو حرام» النيجيرية الموالية لـ«داعش».
وتوجد في المثلث الخطر قبيلتان ليبيتان كبيرتان لهما امتداد في دول الجوار، هما الطوارق (غربا) والتبو (شرقا)، إلا أن النزاع بينهما والاقتتال الذي يتفجر بين أبنائهما بين حين وآخر، يقللان من فرص التصدي للتنظيمات المتطرفة كما حدث في الشهور الماضية حين بدأت قوافل لكل من القيادي الجزائري في تنظيم القاعدة، مختار بلمختار، والقيادي المالي في «داعش»، الملقب بـ«الأنصاري»، تتحرك هناك بحرية.
وتنشط في «مثلث كولومبيا» تجارة المعدات العسكرية والأسلحة والصواريخ التي جرى نهبها من مخازن القذافي. ويضيف القائد العسكري أن هذه منطقة جبلية ووعرة، ومقر جديد لتجمع الدواعش من ليبيا وأفريقيا ومن جنسيات مختلفة.. «التنظيم، خاصة في سرت وفي صبراتة، بدأ يعد نفسه للاتجاه جنوبا، خوفا من أي ضربات دولية وخشية من انتفاضة الأهالي الذين قتل الدواعش أبناءهم».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.