أوروبا.. تعديل القوانين لمواجهة المخاطر الإرهابية

مسؤول أمني: الوضع اختلف من تهديدات بالحجر والسكين والمسدس إلى أحزمة ناسفة وتفجير طائرات

أحد شوارع وسط العاصمة البريطانية لندن حيث المحلات والبنايات مزدانة بزينة أعياد الميلاد
أحد شوارع وسط العاصمة البريطانية لندن حيث المحلات والبنايات مزدانة بزينة أعياد الميلاد
TT

أوروبا.. تعديل القوانين لمواجهة المخاطر الإرهابية

أحد شوارع وسط العاصمة البريطانية لندن حيث المحلات والبنايات مزدانة بزينة أعياد الميلاد
أحد شوارع وسط العاصمة البريطانية لندن حيث المحلات والبنايات مزدانة بزينة أعياد الميلاد

تستعد أوروبا لاحتفالات أعياد الميلاد، ومعها تزداد المخاوف من حدوث هجمات إرهابية تعكر الاحتفالات بالسنة الجديدة. وفي هذا الصدد، عرفت الأيام القليلة الماضية، الإعلان عن خطوات أوروبية، لتعديل بعض القوانين، وأيضا إبقاء حالة الاستنفار الأمني مرتفعة في عدة عواصم، وتشديد الإجراءات الأمنية على المراكز الحيوية، لتفادي أي هجمات إرهابية.
فعلى الصعيد الأوروبي بشكل عام، قال بيان ختامي لقمة انعقدت في بروكسل نهاية الأسبوع الماضي، إن هجمات باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عززت العزم لدى دول الاتحاد الأوروبي، على مواصلة الحرب وبلا هوادة، ضد الإرهاب، والاستفادة الكاملة من جميع الأدوات المتوفرة. وشدد القادة على ضرورة تسريع الخطوات على طريق تنفيذ التدابير المنصوص عليها في بيان رؤساء دول وحكومات الاتحاد في 12 فبراير (شباط) من العام الحالي، ونتائج قمة 20 نوفمبر الماضي. وقال البيان: «سيبقى الوضع قيد الاستعراض بشكل مستمر».
وأوضح البيان أن الهجمات الإرهابية الأخيرة، أظهرت أن هناك ضرورة لتعزيز تبادل المعلومات، من أجل ضمان البيانات المنتظمة حول دخول المقاتلين القادمين من مناطق الصراعات إلى منطقة شنغن، وكذلك لضمان تبادل منتظم للبيانات والسجلات الجنائية للأشخاص المشتبه في علاقتهم بالإرهاب، والجرائم الخطيرة الأخرى، وكذلك ضمان التشغيل البيني لقواعد البيانات، ذات الصلة بالتفتيش الأمني، وتحسين تبادل المعلومات بين الدول الأعضاء في مجال مكافحة الإرهاب، وزيادة المساهمات من جانب الدول الأعضاء في قاعدة بيانات وكالة الشرطة الأوروبية (يوروبول)، وضمان حصول الشرطة الأوروبية، ووكالة مراقبة الحدود (فرونتكس) على هذه البيانات. وأشار البيان إلى أن التوصل إلى اتفاق مع المؤسسات التشريعية بشأن استخدام بيانات الركاب، وبيانات التحقيق والملاحقة القضائية للمشتبه في علاقتهم بالإرهاب، يعتبر خطوة حاسمة في الحرب على الإرهاب.
وعلى صعيد الدول الأعضاء، أعدت الحكومة البلجيكية مقترحا لتعديل قوانين تتعلق بحالة الاستنفار الأمني في البلاد في حال حدوث أي خطر إرهابي، ورأت السلطات ضرورة إعادة النظر في مستويات التهديد الموجودة حاليا وعددها أربعة مستويات ووضع مستوى خامس يرتبط بوجود خطر متوفر عنه كل المعلومات.
وقال وزير العدل البلجيكي جينس كوين إن فريق عمل مشتركا من وزارتي العدل والداخلية يعمل حاليا على إعداد المقترح لتعديل القانون الخاص بمستويات التأهب الأمني في البلاد، وذلك بحسب ما ذكرت وسائل الإعلام المحلية في بروكسل التي أضافت أن رئيس مركز إدارة الأزمات وتحليل المخاطر أندريه فاندورن يتفق في الرأي مع وزير العدل، ويرى أهمية إعادة النظر في القوانين الحالية وبشكل خاص تقييم مستويات الاستنفار الأمني في البلاد. وأضاف المسؤول الأمني أن التهديد اليوم يختلف تماما عما كان عليه أيام تأسيس مركز إدارة الأزمات في 2006، ففي ذلك الوقت كانت الجماعات الإرهابية تدعو المتعاطفين معها إلى التعبير عن تضامنها بحجر أو سكين أو سيارة أو بندقية، ولكن ما حدث في باريس مؤخرا، وأيضًا على متن الطائرة الروسية، التي تفجرت في الجو، يشير إلى أن الوضع اختلف، وإنه أشبه الآن بالحرب. وحسب الإعلام البلجيكي فإن حالة المستوى الخامس من الاستنفار الأمني ستكون مرتبطة بوجود معلومات محددة حول من؟ وأين؟ ومتى؟ وكيف؟ سيكون الخطر الذي يستدعي رفع درجة التأهب الأمني في البلاد.
يذكر أن الدرجة الرابعة وهي أعلى درجات الاستنفار الأمني يتم اللجوء إليها في حال وجود خطر وشيك، وهي الحالة التي لجأت إليها السلطات في نوفمبر الماضي ولمدة أسبوع تقريبا، لتفادي مخطط إرهابي في أماكن متفرقة وباستخدام متفجرات وأحزمة ناسفة، على غرار ما وقع في باريس، بحسب ما أعلن عنه وزير الداخلية البلجيكي جان جامبون في تصريحات قبل أيام قليلة. وخلال هذه الفترة، جرى حظر الاحتفالات والأنشطة التي تشهد تجمعات كبيرة من الأشخاص، مثل الحفلات، والاحتفالات والمباريات وغيرها، كما جرى تعطيل الدراسة والعمل في مصالح حكومية، وشركات، ومزارات سياحية، ومحطات القطارات في الأنفاق وغيرها.
ويأتي ذلك بعد أن تقرر الإبقاء على حالة الاستنفار الأمني الحالية في بلجيكا تحسبا لأي تهديدات إرهابية، وهي حالة استنفار من الدرجة الثالثة وهي الدرجة الأقل مباشرة من حالة التأهب القصوى، وسوف يستمر الوضع الحالي حتى انتهاء الاحتفالات بالأعياد ورأس السنة الميلادية الجديدة. هذا هو القرار الذي صدر عن مركز إدارة الأزمات وتحليل المخاطر عقب اجتماع لمجلس الأمن القومي البلجيكي، وأكده مكتب وزير الداخلية جان جامبون في بيان. وجاء فيه أنه قرار مبدئي وسوف تخضع الحالة إلى التقييم بشكل مستمر من جانب مركز إدارة الأزمات، والجهات الأمنية المختلفة.
ومن جانبه، أعلن عمدة بروكسل إيفان مايور أن الاحتفال التقليدي بالعام الجديد من خلال الألعاب النارية في سهرة نهاية العام سيقام في موعده، ولكن في ظل إجراءات أمنية مشددة وطالب من السكان الحضور إلى مكان الاحتفال من دون أي حقائب يدوية أو متعلقات أخرى.
وسبق أن قال وزير الداخلية البلجيكي جان جامبون، إن بلاده واجهت مخاطر حقيقية، وكانت هدفا لهجمات إرهابية على غرار ما وقع في باريس الشهر الماضي، ولهذا السبب تقرر رفع حالة الاستنفار الأمني وقتها إلى الحالة القصوى، وبالتالي «نجحنا في إحباط المخطط الإرهابي»، بحسب ما ذكر الوزير في تصريحات للتلفزة البلجيكية، وجرى الكشف عن أجزاء منها. جاء هذا الكلام ليؤكد الكثير من التكهنات التي تم تداولها في تلك الفترة حول إمكانية وقوع هجوم إرهابي في بروكسل، حيث قال الوزير: «كان لدينا معلومات أن الأمر سيقع قبل منتصف ليل ذاك الأحد»، حسب تعبيره. وكانت السلطات الفيدرالية قد قررت منذ يوم السبت 21 الشهر الماضي رفع حالة التأهب إلى الدرجة القصوى في بروكسل، نتيجة وجود مخاوف حول إمكانية وقوع هجمات.
وتعتبر هذه المرة الأولى التي يؤكد فيها مسؤول بلجيكي بهذا المستوى توفر «معلومات محددة» حول الهجوم المفترض. واعتبر الوزير أن كل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، خاصة لجهة عمليات المداهمة والتفتيش جاءت على خلفية المعلومات التي تم الحصول عليها حول الهجوم.. «جنبتنا كارثة حقيقية»، على حد وصفه، عادت الحياة إلى وضعها الطبيعي، على الرغم من أن الجميع لا يزال يحتفظ بذكريات عن حالة الطوارئ التي غرقت فيها البلاد خلال عدة أيام. وكانت البلاد مشلولة بسبب تهديد إرهابي «وشيك» وظلت لمدة أسبوع من 21 إلى 27 نوفمبر في حالة تأهب قصوى. وكما ذُكر في وقت سابق من هذا الشهر، فإن رسالة هاتفية اعترضتها أجهزة المخابرات كانت تقول: «لقد تقرر الأمر، ينبغي أن نقوم به قبل الغد» هي التي كانت وراء اتخاذ هذه التدابير الاستثنائية.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.