هناء حجازي: أكتب لكي أقول ما لم يقل وأكشف المستور

كتبت نصوصا شعرية.. لكنها لا تريد أن تحمل لقب شاعرة

د. هناء حجازي
د. هناء حجازي
TT

هناء حجازي: أكتب لكي أقول ما لم يقل وأكشف المستور

د. هناء حجازي
د. هناء حجازي

عرفت القاصة والكاتبة السعودية الدكتورة هناء حجازي بنزعتها للتمرد، ورغبتها في الاختلاف عن كل ما هو «نمطي» و«سائد»، وهو ما جعلها تصيغ تجربة مستقلة ومختلفة، وهي ترى أن «الاختلاف ميزة إذا كنت تقدر الاختلاف».
في كتابها «هل رأيتني؟؟.. كنت أمشي في الشارع»، تقول: «حين قررت أن أدرس الطب، لم أكن أحب أن أرى الدم أو أشفي الناس.. كان همي الوحيد أن أختلط بالرجال وأمشي في ردهات المستشفى دون رداء أسود.. لكن الآن كثر اللون الأسود بين الطبيبات وأصبح معظمهن يمشين بقناع أسود.. وينظرن إلي باشمئزاز».
في الحوار التالي الذي أجري على هامش مشاركتها في مهرجان سوق عكاظ الذي أقيم في الطائف الشهر الماضي، تتحدث القاصة هناء حجازي عن تجربتها في الكتابة والقصة والترجمة، وعن نزوعها نحو الحرية «الحرية التي لا تجرح الناس ولا تؤذيهم.. فحين تكون حرا تصبح مسؤولا عن كل ما تقوم به». هذا نص الحوار:

«طفل الاسبرجر»
* ما حكاية رواية «طفل الاسبرجر»، ليست «رواية» وليست مجرد كتابة فكرية.. ماهي؟
- هي ليست رواية كما هو متعارف عليه. هي كتابة جديدة كما أطلق عليها الناقد سعيد الأحمد، حيث السيرة مكتوبة بطريقة السرد الإبداعي. تتحول فيه السيرة إلى كتابة إبداعية على شكل روائي.

* في هذا الكتاب، يبدو وكأنك تفتحين نافذة على أخطاء مجتمع، عبر التوجه لشريحة الأطفال المصابين بهذه المتلازمة؟.
- نعم جزء من هدف الكتابة هو فتح نافذة على أخطاء المجتمع في التعاطي مع شريحة المصابين بهذه المتلازمة (الاسبرجر: نوع من اضطرابات طيف التوحد). بالإضافة طبعا إلى الرغبة في البوح، وفي التدوين، وفي قول ما لم يقل، وفي كشف المستور.. الكتابة من أجل الكتابة. لا أعرف بالضبط. الكتابة كما يمارسها كل الكتاب من أجل شيء أو من أجل لا شيء. الكتابة هي بحد ذاتها دافع لكتابة حكاية ما.

* هذه التجربة الكتابية حصلت على جائزة معرض الكتاب، وهي تكشف تجربة شخصية ذات خصوصية مع هذا النوع من المرض.. كيف تمكنت أن تحولي هذه المعاناة إلى صيغة إبداعية؟
- أكتب بصيغة إبداعية. هذه هي البداية. منذ بدأت الكتابة وأنا أكتب إبداعا. لذلك حين قررت نقل قصتي الواقعية للناس كان لا بد أن يتم ذلك بطريقة إبداعية. لأنه الشيء الذي أحسنه والشيء الذي أحبه. وسيلتي لم تكن بشكل تقريري كامل لأنني هكذا أكتب. هذه هي وسيلتي التي أعرف.

* يحمل الكتاب / الرواية / السيرة: «مختلف.. طفل الاسبرجر مختلف لكن ليس أقل»، «ثيمات» متعددة.. خصوصا أن الكاتبة هي أم الطفل المصاب، دعيني أسأل عن مفردة «مختلف» كيف يصبح الاختلاف تميزا؟.
- الاختلاف هو تميز في معظم الأحوال. الفنان إنسان مختلف، الكاتب، العالم. كل من تركوا أثرا في الدنيا هم أشخاص مختلفون بطريقة ما. بالنسبة لي اختلاف ولدي كان شيئا مميزا جدا. جعلني أحبه أكثر. لأنني عرفت كيف أتقبله وأتعامل معه. تفرده في حبه للعزلة جعلني آلفه أكثر، ربما بحكم حبي أنا أيضا للعزلة، صدقا لا أدري، لكن الاختلاف بالتأكيد ميزة إذا كنت تقدر الاختلاف. أنا أيضا مختلفة عن السائد بشكل ما وفي نواح كثيرة، لذلك أدرك كم هو المختلف بحاجة لتقبل الآخر ومجاراته ومداراته أيضا، ربما هذا هو السبب الذي جعلني قادرة على التعامل مع الاختلاف وتقديره كميزة لا كعيب.

* هل للأمر علاقة بدراستك للطب، أم بالمعاناة ذاتها؟ بمعنى هل جعلك الطب أكثر إنسانية أم الألم صاغ مفردات الرواية؟
- المثير للاستغراب أن هذا السؤال جاء وأنا أقرأ موضوعا في جريدة أميركية عن إحساس الأطباء بالتعب وفقدان المعنى لأنهم فقدوا إحساسهم بالمرضى كأشخاص بحالة إلى التعاطف والحب. الطب للأسف لا يجعل الإنسان أكثر إنسانية. أقصد الطريقة التي ندرس بها وكثير من الأطباء الذين نقابلهم نشعر أنهم لا يمتلكون كثيرا من الإنسانية. هناك طبعا أطباء في منتهى الرقة والإنسانية وهؤلاء هم المختلفون من الأطباء، الإجابة على السؤال هي: أننا نجعل أنفسنا أكثر إنسانية حين نفتح قلوبنا للآخر.. ميزة الطبيب أنه حين يفتح قلبه للآخر، يكسب نفسه ومريضه معا، ما صاغ مفردات الكتاب هو أنني فتحت قلبي للقراء. كتبت بإحساسي كل ما مر علي وأثر في، لم أخبئ شيئا، لم أدع البطولة، ولم أستعطف القارئ. كتبت ما حدث. كما حدث. وكما شعرت به فقط!.

المرأة وسلطة الرجل
* في بعض نصوصك القصصية يجد القارئ شعورا أنثويا بالضعف أمام مجتمع ذكوري.. إلى أي مدى تتحمل المرأة مسؤولية هذا الواقع؟
- لو تحدثنا بشكل عام عن مدى تحمل المرأة مسؤولية واقع تسلط الرجل، فالمسألة معقدة، أحيانا أتسلط أنا نفسي على المرأة وأشعر بالعار لأنها تسمح للرجل أن يذلها ويتحكم فيها لهذه الدرجة، وأحيانا أشعر بالخجل من نفسي لأنني سمحت لنفسي أن أكون قاضيا وحكما على امرأة لا تملك من أمرها شيئا أمام سلطة وقانون ورجل يتحدث باسم الدين كي يتحكم فيها، هذا مع ملاحظة أن اعتراضي ليس على الدين ولكن على تحريفه من قبل أشخاص يتحدثون باسمه ويرهبون المرأة التي تطالب بحقوقها وإنصافها باسمه.

* كيف قرأت دخول المرأة لبعض المؤسسات الثقافية مثل جمعية المسرحيين وإدارات الأندية الأدبية؟
- نسير في المسار الصحيح، تأخرنا لكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح، بقي أن لا تخذلنا المرأة التي دخلت إلى هذه المؤسسة على عاتقها كثير، لذلك يجب أن تتخلى عن الأنانية والفردانية وتعمل بشكل صحيح.

* لمن كنت تتوجهين في مجموعتك «هل رأيتني؟.. كنت أمشي في الشارع».. ألا يوحي العنوان بشعور عميق بالهامشية؟
- هامشية من؟ كنت أتوجه إلى كل من حلمت يوما حلما بسيطا ولم تتمكن من تحقيقه، أردت أن أثير هذا الشعور بالحسرة الذي يتركه عدم تحقق الأحلام البسيطة داخل الناس، ربما الآهة التي تصعد عندها تحرك شيئا راكدا ما في دواخلهم.

* كيف تختارين قصصك التي تكتبينها؟
- صدقني لا أختار، هو شعور يبدأ من كلمة أو ملاحظة أو مشاهدة ما، ثم يتصاعد حتى يصبح مشهدا كاملا يجب أن تتم كتابته فورا قبل أن تفر الحالة.

* لماذا تغفلين الشاعرة داخلك؟ لك نصوص شعرية قليلة لكنها مثيرة للاهتمام من قبيل: كسرت قلمي / فانتشرت رائحة نفاذة / لم تعجبهم / خبأتها تحت وسادتي
ونمت. الذي ورد في مقدمة كتاب: «هل رأيتني؟.. كنت أمشي في الشارع».
- نعم. كتبت عدة نصوص شعرية. ربما أغفلها لأنني لا أريد خوض جدل مع الشعراء من نوع هل ما أكتب شعرا أو ليس شعرا، وربما لأنني لا أريد أن أحمل لقب شاعرة، ربما.. لا أدري، لكنني فعلا أهرب من كتابة الشعر.

* قلت في حوار آخر إن مشاركتك في كتاب «طيور الرمل»، كان «محاولة للخروج من حصار المؤسسة الرسمية التي لا تهتم كثيرا بالمثقفين».. لكننا نعلم أن هذا العمل ترجم من قبل دار «طوى» وتم عرضه في معرض فرانكفورت بألمانيا.. أين يكمن حصار المؤسسة الرسمية إذن؟
- «طيور الرمل» يحتوي على مجموعة قصص لعدد من كتاب القصة في السعودية وهو عمل جميل كان منبع الفكرة فيها المثقف الجميل عادل الحوشان، لم يكن العمل محاصرا من المؤسسة الرسمية، الفكرة كانت أن يخرج عمل يشارك في المعرض لا يخضع لشروط المؤسسة الثقافية الرسمية لدينا، والمثقف بصفة عامة لديه دائما تحفظات على طريقة عمل المؤسسات الرسمية، هذا أحد أدوار المثقف أعتقد أو طبيعة تكوينه تحتم عليه الخروج على العمل الرسمي الذي عادة ما يشكو من الروتين والبيروقراطية.

الترجمة والرواية
* في المجمل ما هي علاقتك بالمؤسسات الثقافية الرسمية؟ كيف ترين علاقتها بالمثقف المحلي؟
- لا أريد أن أقف ضدها. وحين أدعى للعمل فيها لا أرفض بشكل قاطع، أتواصل مع المثقفين العاملين فيها لكنني دائما أشعر أنني لا أفهمها، لا أفهم لماذا لا تستطيع أن تعمل بشكل أفضل، لا أحب إلقاء التهم أو اتخاذ موقف المعادي لما تفعله، لكن أرى جمودا أتمنى أن تتخلص منه، بشكل عام أنا بعيدة عنها. لذلك لا يمكنني التحدث بشكل سلبي مطلق، دون محاولة مني للفهم لما يجري، حتى حين أصبحت عضوا في الجمعية العمومية في نادي جدة الأدبي وعلى الرغم من أنه لا يعتبر مؤسسة رسمية بشكل مطلق، لكنني فعلت ذلك محاولة للاقتراب والفهم وكي أخوض تجربة القدرة على انتخاب اسم ما. لكن بأمانة شديدة، لا أجد نفسي قادرة على الاستمرار في لعب هذا الدور، أحب العزلة والانزواء والكتابة بعيدا عن المؤسسات الرسمية.

* شاركت في برنامج الكتابة العالمي.. حدثينا عن هذه التجربة.
- هو برنامج عالمي سنوي، يحضره كتاب من كل أنحاء العالم يقومون بالترشح للسفارات الأميركية في بلدانهم، لكن بالنسبة لي رشحني للمشاركة فيه مدير البرنامج بنفسه وهو شاعر وأكاديمي بجامعة «إيوا» كريستوفر ميريل، حين كان في زيارة لجدة. وقد ذهبت في عام 2009. ومدة البرنامج ثلاثة أشهر. كانت تجربة رائعة. خلال الفترة التي تقضيها هناك يتركون لك المجال كي تتعرف على الكتاب الآخرين بالإضافة إلى ثلاث نشاطات يجب أن تقوم بها. أحدها قراءة بعض من نصوصك في مقر البرنامج أو المكتبة. والثاني كتابة ورقة في موضوع وقراءته أمام الجمهور في الجامعة والحوار بعد ذلك معهم حول نفس الموضوع، والنشاط الثالث لقاء مع طلبة الجامعة وإجراء حوار معهم، بالإضافة إلى نشاطات أخرى، فقد استضافتني جامعة أخرى وأجريت لقاء مع طلبة يتعلمون اللغة العربية. وحوارا مع طلبة في كلية أخرى أيضا. ومن أنشطة البرنامج الأخرى، قمت باختيار فيلم سينمائي وعرضه على المجموعة والتحدث والحوار حوله، حيث اخترت فيلم «كراميل» اللبناني. وقد كانت أياما رائعة برفقة 36 كاتبا وكاتبة من مختلف أنحاء العالم.

* ترجمت أعمالا أدبية لعمالقة الرواية العالمية مثل: «بورخيس»، و«ساراماغو»، و«ماركيز»، كيف أثرت هذه الأعمال على مسيرتك الأدبية؟
- الترجمة تجربة ساحرة. تتعرف من خلالها على مفردات جديدة، طريقة تعبير جديدة، طريقة ربط الكلمات ببعضها من ثقافة مختلفة، وتتعرف من خلالها على كيف يفكر شعب ما من خلال لغته، تكتسب أشياء كثيرة جميلة ورائعة عبر الترجمة، أعتقد أنها أثرت في ولا أعرف كيف، لكن بالتأكيد أثرت.

* كيف تقيمين الطفرة الرواية التي مر بها المجتمع السعودي خلال السنوات الماضية؟
- أمر طبيعي وبالنسبة لي كان أمرا جميلا، تخيل كنا نتهم الشباب أنهم لا يقرأون، وإذا بهم يكتبون، بالطبع لا يرقى كل ما كتب إلى مصاف الأدب، كان لا بد لهم أن يكتبوا، وكتبوا، مسألة النشر قضية أخرى كان لا بد للقائمين على دور النشر مراجعة ما كتب وإدراك ما إذا كان صالحا للنشر أم لا، بصفة عامة أنا مع التجربة ولست ضدها، قضية النقد والمراجعة وتصنيف ما كتب ووضعه في المكانة التي يستحق مسألة تعود للنقاد ومتذوقي الأدب، أما الكتابة فهي من حق الجميع.

* إلى أي مدى تشعرين أن موجة الرواية هذه قد استقرت اليوم؟
- أعتقد أنها بدأت تعود لمسارها الطبيعي، خفتت الفورة الأولى، الآن سيكتب من يحب الكتابة، وليس من كان يسعى للشهرة عبر الكتابة، هذا لا يعني أنني ضد الشهرة، لكنني لا أحب أن تكون هي الهدف الأول.

* سيرة أدبية

* هناء حجازي من مواليد مدينة جدة.
* منسقة برنامج مكافحة السكري بإدارة الصحة العامة بوزارة الصحة بجدة.
* طبيبة وقاصة وكاتبة صحافية سعودية. صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان «بنت» 2001، ومجموعة نصوص بعنوان «هل رأيتني كنت أمشي في الشارع» 2007، وسيرة بعنوان «مختلف.. طفل الاسبرجر مختلف لكن ليس أقل» 2012، وهو الكتاب الفائز بجائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب لعام 2013، وترجمت كثيرا من الأعمال الأدبية من الإنجليزية مثل «بورخيس»، و«ساراماغو»، و«ماركيز»، وقصائد أميركية، ومقالات أدبية.
* بدأت الكتابة القصصية عام 1987 وكانت أول قصة كتبتها هي «أغنية النوم»، ونشرت في مجلة «اقرأ».



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»