قد يكون من أهم أحداث العام الثقافية في بريطانيا، ونحن في نهايته، صدور قصائد إليوت الكاملة، وغير الكاملة، ومسرحياته في مجلدين. وبالطبع، أعيد عشرات المرات، منذ رحيله عام 1965، طبع أعمال أليوت، الذي يعده كثيرون أهم شاعر في القرن العشرين، وقد يبالغ آخرون، ومنهم كاتب هذه الكلمة، فيعتبرونه واحدا من أعظم الشعراء في كل العصور، منذ الإغريقية الفريدة سافو ولحد الآن، ويمكن إدراجه في قائمة واحدة مع معلميه شكسبير ودانتي. وهو قد حقق هذه المكانة، بشكل رئيسي، بقصائد قليلة جدًا، عكس ما يتصور كثيرون، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة: أغنية ج. ألفريد بروفروك، و«أربعاء الرماد»، و«الرجال الجوف»، و«صورة سيدة»، و«الرباعيات الأربع» وبشكل خاص «الأرض اليباب»، التي نشرت عام 1922، فغيرت المشهد الشعري العالمي كله، فاتحة عصر الحداثة الشعرية. ويمكن القول، إن معظم قصائد القرن الماضي الكبيرة خرجت من تحت معطفها.
ولكن الموضوع ليس هنا، فقد صار ذلك شبه معروف.
المجلد الأول، الذي ضم قصائد إليوت، نفد من السوق البريطانية الهائلة خلال أسبوعين فقط من صدوره، على الرغم من سعره المرتفع. لم تلتهم المكتبات الجامعية، والمكتبات العامة، آلاف النسخ المطبوعة من المجلد، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل اشترى معظمها الناس العاديون، وسرعان ما احتل قائمة الكتب الأكثر مبيعًا. عرف إقبالا شعبيًا، كما عبرت صاحبة إحدى المكتبات، على الرغم من صعوبة قصائد هذا الشاعر، المليئة بالإحالات التاريخية والفلسفية والدينية، الأمر الذي يحتاج إلى هوامش وشروحات حتى تفهم ماذا يعني بالضبط، وهذا ما فعله محرر الكتاب.
هذه العودة لإليوت هي عودة للشعر الذي تنبأ هيغل قبل نحو قرنين بموته في عصرنا الصناعي. وهي عودة تقول لنا بصوت عال إن الشعر لم يمت بل لم يتراجع. ولكنه أصبح نادرا في عصرنا، شرقا وغربا، على الرغم من كثرة من يدعون وصله. إنها عودة لذلك الشعر الذي يفتقده الناس وقلما يجدونه، لأسئلة الشعر، تلك الأسئلة الإنسانية الكبرى التي طرحها إليوت على عصره، ولا تزال تطرح نفسها بعد قرن كامل، وستظل هكذا فهي مرتبطة بجوهر الإنسان ووجوده في هذا الكون. ولكن منجز إليوت الأكبر، كغيره من الشعراء العظام، يكمن وراء ذلك. لقد عرف كيف يطرح هذه الأسئلة شعريا، وكيف يحول الفكرة إلى صورة حية، تتغلل في نسيج القصيدة. بمعنى آخر، نجح إليوت في خلق ما يسميه هيغل «الصورة المفكَّرة»، التي تمدنا بتجربة حسية وذهنية ومتعة روحية معا، وتصيبنا بتلك الحمى الرائعة، التي تطهر أرواحنا، وتعيد صياغتها وتشكيلها، وليس معادلات ذهنية، كما يفعل بعض معاصرينا، قد تصل الرأس، لكنها لا تتغلل قط إلى أعماقنا ووجداننا، ولا تصيبنا بتلك الرعشة التي تصيب كل جهازنا العصبي.
في حوار أجريته معها قبل أربع سنوات من رحيلها عن تسعين عاما في 2003، ونشر في هذه الصفحة، عبرت الشاعرة البريطانية كاثلين رين، إحدى أفضل الشاعرات البريطانيات في القرن الماضي، بمرارة، عن خيبة أملها بغياب الشعر العظيم بالمعنى الذي تحدثنا عنه، متفقة مع هيغل على أن مثل هذا الشعر لا يمكن أن ينتج في ظل الثقافة التي نعيشها، وبغياب ما سمته «المعرفة الروحية»، التي تنطلق من التجربة الحسية، ثم يرفعها الخيال إلى مستوى التجريد، لتعود لتستقر في وجداننا في وحدة نادرة بين الفكر والإحساس.
كل القصائد العظيمة منذ فجر البشرية، منذ الإغريقية سافو والعربي امرؤ القيس، حققت هذه المعادلة، ولهذا السبب لا نزال نقرأها على الرغم من مرور قرون، بينما تموت قصائد معاصرة لنا، بعد القراءة الأولى.
إليوت.. والشعر الذي لا يموت
إليوت.. والشعر الذي لا يموت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة