من التاريخ : الإسلام وتاريخ الحروب في الشرق الأوسط

من التاريخ : الإسلام وتاريخ الحروب في الشرق الأوسط
TT

من التاريخ : الإسلام وتاريخ الحروب في الشرق الأوسط

من التاريخ : الإسلام وتاريخ الحروب في الشرق الأوسط

اتصالاً بأطروحة أن منطقة الشرق الأوسط الواسعة هي بؤرة الصراع على المستوى الدولي والتي تمت مناقشتها خلال مقال العدد الماضي، فإن امتداد هذه الأطروحة، بل ولعلها تكون السبب الرئيسي وراء طرحها من الأساس - هو الدفع بأن الإسلام كان السبب الرئيسي وراء فكرة الصراع سواء داخل الدولة أو بين الدول، وأن تاريخ الإسلام منذ نشأته وحتى اليوم هو السبب الرئيسي وراء العنف الأزلي لهذه المنطقة وهو ما أصبح له دوره المباشر حتى في انتخابات الدول الكبرى والتي يدفع بعض مرشحيها بأن الإسلام والمسلمين بداخلهم جينات العنف على كل المستويات، وهي أطروحة نتصدى لها في هذه المقالة من خلال الحقائق التاريخية والفكرية بعيدًا عن لب العقيدة الإسلامية السمحة والتي لها مجالاتها الأخرى، ولكن من خلال التاريخ وعلم العلاقات الدولية، وفي هذا الصدد فإنني أطرح ما يلي:
أولاً: إن الدين شأنه شأن الآيديولوجيا والتي تتمثل في مجموعة من الأفكار لعمل سياسي أو اجتماعي وعقائدي من أجل الإبقاء على الواقع أو تغييره، وكل آيديولوجيا تقدم فهمًا للنظام السياسي القائم ونموذجًا للمستقبل بالإضافة إلى سبل تنفيذ التغيير المنشود، ولكن السياسة الخارجية للدول لا تبنى على المفاهيم الآيديولوجية المجردة بقدر ما تبنى على مفهوم «المصلحة القومية»، فكما وصفها أحد علماء العلاقات الدولية «فالحرب تُشن من خلال قرار يقيني باللجوء للعنف من أجل تحقيق هدف سياسي عقلاني»، فالدين لم يكن على مدار التاريخ عاملا أوليا ومطلقا ووحيدا في شن الحروب، فهو على أفضل الظنون عامل ثانوي غالبًا ما يندرج تحت تبرير للحرب أكثر من كونه سببًا مباشرًا لها.
ثانيًا: تقديري أن هناك حاجة شديدة لفض اشتباك فكري وتحليلي بل وتاريخي حول التاريخ السياسي للدول الإسلامية المتتالية منذ فجر الإسلام وحتى اليوم، فكثير من الآراء تذهب إلى أن الدين الإسلامي وحده كان وراء حركة الفتوحات وتوحيد الدولة الإسلامية، خاصة بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأن كثيرًا من العنف قد استخدم من أجل بناء هذه الدولة وإقامتها، وهي فرية تاريخية تحتاج لمراجعة حقيقية، فالدول لم تكن تُبنى من خلال التوحد السياسي والفكري المجرد على مر التاريخ، فما من دولة بنيت إلا وكان العنف أحد وسائلها، والدولة الإسلامية لا تخرج عن هذا النطاق، فحتى دولة سويسرا بنيت تحت وابل من العنف والعنف الديني بالأخص على مدار قرون ممتدة، وكل نماذج الدول مبنية على هذا الأساس باستثناءات محدودة للغاية ترتبط في الأساس بظروف البيئة الدولية اليوم.
ثالثًا: إن توسع الدول غير مرتبط بالدين على مر التاريخ، فالتوسع سنة سياسية، فما من دولة تكونت إلا وكان التوسع أو محاولة التوسع هي الخطوة التالية، والدولة الإسلامية لم تشذ عن هذه القاعدة، فحتى لو كانت تمتلك آيديولوجيا فكرية أو دينية فهي تمشي على سنة السياسة، والدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة أو الأموية أو العباسية لم تخرج عن هذا النطاق، فناموس السياسة واضح لا خلاف حوله، ومن المجحف حقيقيةً أن تسعى الآراء لمحاولة وضع الإسلام كنموذج لغير ذلك، بل إن الثابت تاريخيًا أن توسع الدولة الإسلامية على حساب الدول الأخرى خاصة بيزنطة لم يصحبه عمليات تحويل جبري من الديانة المسيحية للإسلام، وهو ما يعكس نماذج التسامح، بل إن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفض الصلاة في الكنيسة حتى لا يتخذها المسلمون من بعده جامعًا، بالتالي فإن محاولة وصف حركة العنف أو الحرب في الدولة الإسلامية بأنها ميل طبيعي للعنف لدى الدين الإسلامي إنما يتعارض بشكل واضح وصريح مع سلوك الدول منذ نشأتها ومراحل تطورها. وقد وصف أحد علماء العلاقات الدولية الدولة بمقولة حكيمة للغاية مؤداها «... إن الحرب تصنع الدولة والدولة تصنع الحرب».
ثالثًا: إن تاريخ منطقة الشرق الأوسط، بشقيها الأوروبي (الشمالي) والجنوبي من المحيط إلى ما بعد الخليج، يعكس حقيقة أساسية وهي أن الآيديولوجيا كانت عنصرًا هامًا في تحريك تاريخه، سواء على مستوى الدويلة أو الدولة أو الدولة الكبرى، ولا خلاف على ذلك، فاليونانيون ومن بعدهم الرومان ثم الدولة البيزنطية كانت ترى في أسلوب إدارتها للدولة وعقيدتها الراسخة (سواء الدينية أو السياسية أو الثقافية) أنها أفضل ما تقدمه للدول والمجتمعات التي تم استيعابها، وهذا أمر طبيعي لا خلاف عليه، فالإسكندر المقدوني كان من أهدافه ما يمكن أن نسميه «أغرقة العالم» أي جعله إغريقيًا، وقد فشل الشاب الطموح أيما فشل وتفتتت أحلامه من قبل تفتت إمبراطوريته بعد مماته، ونفس الشيء حدث مع الإمبراطورية البيزنطية. وبالتالي فإن كون الإسلام الجزء الأساسي من عقيدة الدولة الإسلامية ليس معناه أن الدولة الإسلامية كانت مبنية على العنف والصراع مع الدول الأخرى، ولكنها صارت على نفس نهج الدول التي كانت قبلها والدول التي أتت بعدها.
رابعًا: إن تتبع تاريخ الدول الإسلامية يعكس بوضوح أنها لم تخرج عن ناموس العلاقات الدولية التقليدية في زمانها، فكما وصفها العلامة ابن خلدون فإنها مرت بالسنن التاريخية لزمانها من حيث التكوين ثم التثبيت ثم مرحلة النمو ثم مرحلة الشيخوخة الطبيعية، ولم نر فيها أية خواص تدفعنا للاعتقاد بأنها كانت تحمل في طياتها عنفًا فائضًا يخصها دون غيرها، خاصة إذا ما تمت مقارنتها بالدول الأخرى قبلها وبعدها، بل إن كثيرًا من العنف الناتج عن الحركة التاريخية الطبيعية كان نتاجًا لخلافات أساسية حول مفهوم الشرعية بهذه الدول والذي كان سببًا أساسيًا في تغيير الأنظمة السياسية لدول إسلامية كثيرة لا سيما من الخلافة الراشدة إلى الأموية ثم من الأخيرة إلى الخلافة العباسية، بل إن أغلبية العنف المتولد عن هذا التغيير كان داخليًا يخص هذه الدول ولم يكن موجهًا للخارج كما يسعى البعض إلى التلميح أو الجهر به. ومرة أخرى لا أجد غضاضة في التأكيد على أن حروب هذه الدول خارجيًا كان أمرًا طبيعيًا مرجعه سنة العلاقات الدولية وليس ارتباطًا بعقيدة عنف داخلية في الدولة.
خامسًا: إن العالم الإسلامي في كثير من أقطاره ظل يترنح في أغلبيته تحت وطأة حركات العنف المتولد عن مفهوم الاستعمار وما شابه ذلك مدة لا بأس بها، وبالفعل كان الدين في بعض الأقطار العربية أساسًا للحفاظ على الهوية والكيان الفكري لهذه الدول مثل الجزائر وليبيا وغيرها في ظل الاستعمار، خاصة الاستعمار الفرنسي الذي سعى لطمس الهوية من خلال عملية «فرنسة» ممنهجة لبعض مستعمراته، ولم تكن حركات المقاومة التي احتضنت الإسلام كرمز للهوية هدفها العنف، بل كان الهدف منها هو الإبقاء على الدولة والهوية في مواجهة العدو الخارجي، ولا غضاضة في ذلك، بالتالي لم يكن الإسلام هو محرك العنف ولكنه كان رداءً شرعيًا بل وطبيعيًا للتحرر الوطني لدى كثير من الدول.
إن كل هذه النقاط الأساسية تدفعني لأن أؤكد بكل حزم على أن الإسلام إذا ما جاز لنا وضعه تحت اسم الآيديولوجيا باعتباره مصدرًا هامًا للشرعية والتفاعل في الدول التي اعتنقته منذ فجر التاريخ الإسلامي وحتى اليوم لم يكن هدفه الصراع، فهذا خطأ منهجي وتاريخي، فالصراعات الدولية تحكمها على مر التاريخ حركة خاصة بها ولم يكن للآيديولوجيا دور حاسم في أغلبها بل ظل هذا عاملاً ثانويًا على أفضل تقدير، وهو ما سيتضح جليًا خلال تناولنا لدور الآيديولوجيا في الحروب الدولية في الأسبوع المقبل.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.