المرأة السعودية.. ووثبة الانتخابات البلدية

نجاح سيدات الشورى.. هل يحفزهن على إثبات جدارتهن؟

المرأة السعودية.. ووثبة الانتخابات البلدية
TT

المرأة السعودية.. ووثبة الانتخابات البلدية

المرأة السعودية.. ووثبة الانتخابات البلدية

وليس أخيرًا، دخلت المرأة السعودية في مسار جديد كان التوقع فيه أن تظفر بالوجود الذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وإن كانت التوقعات أن يكون عدد المقاعد التي حملتها إليها أصوات الناخبين والناخبات أقل، لكنها نجحت في تحريك صورة ظلت محدودة الإطارات، يتنازعها كثير من الأمور بين العادات والتقاليد وأمور شتى.
عوامل عدة ساهمت في إزالة بعض التعتيم الذي ظل مناهضًا لظهور المرأة السعودية في مسارات مدنية وتشريعية، لكن وإن حضرت، تظل الصراعات حول المرأة نشيطة في المجتمع السعودي، مما يجعل الأمل أن تساهم مثل هذه النتائج وتحقيق الحضور النسائي في تحييد تلك الصراعات إلى مستوى العمل التنموي الوطني الكبير الذي ينتظر البلاد.

المرأة السعودية تعيش في حالة تصالح واقعيًا، ولديها الأمل البعيد، وتتوق إلى تحقيقه عبر الطرق والأنظمة السعودية، التي حملتها - مؤخرًا ومنذ سنوات - إلى مراحل مختلفة من العمل السياسي من خلال مجلس الشورى، وفتح مجالات التوظيف الواسعة خلافًا لما كانت عليه في عقود ماضية، واليوم يتجلى ذلك من بوابة المجالس البلدية.
جعلت المرأة السعودية من الانتخابات البلدية حدثًا عالميًا، تناقلته وسائل الإعلام بمختلف أطيافها وتوجهاتها، صورتها كانت البارزة في مجمل الحضور الانتخابي، وكذلك مشهد الختام بعد إعلان أسماء المرشحين والمرشحات الفائزين والفائزات، في دورة ثالثة كانت وسائل الإعلام منجذبة كثيرًا للأولى قبل عشرة أعوام، وأقل حضورًا للثانية، وأكثر تميزًا في الدورة الثالثة، إن صحت تسميتها بدورة دخول المرأة ناخبة ومرشحة.
أمران كانا نقطة اللفت في الانتخابات - وإن بدا فاترًا - مقارنة بنسبة الإقبال بين من قيد اسمه ناخبا، التي تجاوزت 47 في المائة.. أولى تلك النقاط اللافتة هي في الدخول التاريخي للمرأة، والعدد الكبير الذي لم يكن متوقعًا لدى طيف من المتفائلين، إضافة إلى الصلاحيات الواسعة الممنوحة للمجالس البلدية في الحلة الجديدة.
المجالس البلدية التي لا يمكن أن تصل إلى مرحلة مزايا مجلس الشورى حتمًا، لكنها أكثر المجالس التشريعية في ملامسة الواقع، وتلمس احتياجات المجتمعات المحلية، التي غالبًا ما تغلب على تفاصيلها الصغيرة فرصة تقويض المطالبات الكبرى، ويستطيع الفرد ذكرًا أو أنثى تلمسها من خلال ملامسته المعيشة.
وعلى خلاف الوجه الجديد للانتخابات البلدية في دورتها الثالثة، اتخذت النساء المرشحات طرقهن في الحملات الانتخابية مستفيدات من التطور التقني والوهج الدائم لمنصات التواصل الاجتماعي، خلافًا للطريقة الرجالية التي انحصر غالبها في تكوين مقرات لإبراز برامجهم الانتخابية، واستطعن جذب بعض الأصوات من خلال هذه الأساليب الإلكترونية.
على الصعيد النسائي، وجدت عشرون سعودية (من بين 979 مرشحة) فرصتهن في الدخول بقوة نحو المقاعد البلدية، في كل بلدية من بلديات المملكة، وهذا العدد مرشح للازدياد، إذ سيكون هناك ثلث متبقٍ سيكون تحت تصرف الحكومة السعودية، إذا بلغ مجموع الفائزين والفائزات عبر الاقتراع 2106 مرشحين ومرشحات.
تأمل النساء في طريقهن الجديد بالدخول في عالم التشريع إلى تحقيق الطموحات، بعد أن أثبتن سيدات في مجلس الشورى وجودهن، وحملن ملفات عدة إلى طاولة النقاش، منها ما تمت الموافقة عليه، وأخرى كانت المعارضة ضدها، لكنها كانت تعبر عن حراك كبير في مسيرة النساء في السعودية، بل وكانت هي العنوان الأبرز في وسائل الإعلام الأجنبية، نظرا للدخول الكبير في المجال، رغم أصوات تعارض الحضور النسائي لاعتبارات دينية وأخرى تمس العادات والتقاليد.
ما يميز النسوة في أسلوب التعبئة قبل أيام من الاقتراع الكبير الذي شارك فيه ما يزيد على 700 ألف ناخب وناخبة، عن نظيرها الرجل، هو دخولها الكبير بمساعدات نسائية خالصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث كانت ترغب في أن يكون الصوت مسموعًا، وهي في حال عدم تحقق أي إنجاز ترى النسبة الكبرى منهن أن منحها حق الحضور ناخبة ومرشحة يعد إنجازًا يضاف في طريق المرأة الطويل نحو الطموح الغالب على السواد الأكبر.
الإشادات العالمية التي حظيت بها المرأة نظير مشاركتها، كانت وستكون حتمًا مساهمة في تغيير النظرة التي كانت تحيطها الهالة الإعلامية الغربية عن المرأة في المملكة، وبالنظر إلى الأرقام التي أفرزتها عملية الاقتراع، يتضح مشاركة 82 في المائة من النساء الناخبات في عملية الاقتراع، بمشاركة تجاوزت 106 آلاف امرأة من أصل أكثر من 130 ألف ناخبة مسجلة.
جديع القحطاني، رئيس ومتحدث اللجنة التنفيذية للانتخابات البلدية، أكد أن مشاركة السعوديات ناخبات بلغ 24 في المائة، من إجمالي الناخبين الجدد المسجلين في هذه، مصرحا من موقعه الرسمي بأنهم كانوا يتمنون أن تكون المشاركة أكبر، لكنها وفق الحضور الأول لهذا الاستحقاق تعطي الأمل في مستقبل مختلف.

* ثقافة نيل الاستحقاق
الناخبة أشواق الجعيد، قالت إنها على علم بعدم فاعلية المجالس البلدية في الدورتين السابقتين، لكن سبب تسجيلها في قيد الناخبين هو المساهمة في الاستحقاق الأهم في نظرها، بضرورة وصول امرأة على الأقل في مجلس مدينتها، معبرة عن سعادتها بوصول أكثر من سيدة من خلال الصناديق الانتخابية، مؤكدة، لـ«الشرق الأوسط»، أن الدعاية الانتخابية عبر شبكة التواصل الاجتماعي (تويتر) جعلت صوتها يصل إلى من تراها في نظرها تستحق الوصول نظير أهدافها الانتخابية.
وقالت الجعيد، إنها تلقت اتصالات قبل الاقتراع من قبل إحدى المرشحات بعد أن تأكدت من تسجيلها في دائرتها الانتخابية، معبرة عن سعادتها لتنامي هذه الثقافة الانتخابية التي تعبر عن انطلاقة فعلية نحو العمل المدني النسائي، مشددة على أنه لن يحقق للمرأة وجودها سوى المرأة نفسها، من خلال إثبات العمل دون الالتفات إلى الأصوات التي تنادي بتحييد السيدات عن العمل المشرع لها من قِبل الدولة.
بالأمس تجلت النساء في السعودية، لتعبر أصواتهن عباب البحار، ولتكون الرسالة الأكثر وضوحًا أن البلاد تتغير، وقودها في ذلك الدعم السياسي، ووعي شامل جاب أركان الشارع السعودي، في وقت كان التوقع أن يكون الإقبال على ترشيح النساء ضعيفًا أو معدومًا، فكانت النتائج المعلنة بالأمس تثبت أن المشاركة الأولى أثمرت نتائجها الجيدة خصوصًا بين النساء.
حضورها الصامت الراضي سابقًا، مع إنجازات متتالية فردية وجماعية، جعل الرؤية السياسية محققة واقعًا، وإن كانت النساء الحاضرات، ناخبات ومرشحات، استطعن إثبات الحضور حتى في المناطق والمدن ذات الزخم القبلي الذي غالبًا ما يستجيب لتقاليده، لكن المرأة هي واحدة في حضورها وتميزها، وإن كانت خارج الحدود.

* نساء «الشورى» دافع للمشاركة
ورأت الأكاديمية السعودية، الدكتورة ميساء الحكمي، أن دخول المرأة مجلس الشورى ساهم في تغيير الصورة المتشائمة في قدرة النساء على التغيير وإثبات القدرة على تحمل الأعباء في الشؤون العامة، وأضافت، في حديث هاتفي مع «الشرق الأوسط»، أن التغيير ومشاركة الرجال في دعم المرأة في هذه الانتخابات يعطي مؤشرًا آخر على قبول المشاركة النسائية.
وتمنت الحكمي من المرشحات الفائزات في عموم السعودية، أن يفعلن الدور المنوط بهن في الاتجاه الصحيح للعمل، لأن هذه خطوة من خطوات كثيرة في طريق المرأة نحو الحضور الريادي في المجتمع، وأن هذا المكسب الذي ساهم فيه الرجال لدخول المرأة إلى المجالس البلدية سيقوض كل ما يثار حول قدرة المرأة في تحقيق العمل المجتمعي.

* 3 يناير مرحلة العمل
السعوديات الفائزات سيبدأن العمل عبر المجالس البلدية ومعهن الرجال حتمًا، في الثالث من يناير (كانون الثاني) المقبل، وستكون أمامهن والمجالس البلدية صلاحيات أوسع للمجالس التي ظلت لدورتين ماضيتين أقل من الطموح الشعبي، من خلال إقرار الخطط والبرامج البلدية ذات الصلة بتنفيذ المشروعات البلدية المعتمدة في الميزانية، ومشروعات التشغيل والصيانة، والمشروعات التطويرية والاستثمارية، وكذلك الدراسة والرأي حول المخططات الهيكلية والسكنية، ومشروعات نزع الملكية للمنفعة العامة، وشروط وضوابط البناء، بجانب نظم استخدام الأراضي والخدمات البلدية والرسوم والغرامات البلدية، وكذلك متابعة الشروط والمعايير المتعلقة بالصحة العامة.
وتبرز مزايا أعضاء المجالس البلدية في حضور الجلسات المقررة لمرة واحدة في الأسبوع، تبلغ معها مخصصات الجلسة الواحدة قيمة كبرى لا تتجاوز (ألفي ريال)، وغيرها من البدائل المالية الأخرى، لكنها ذات ثقل تنموي لما سيتحمله المرشح أمام ناخبيه في ضوء الصلاحيات الجديدة والمتجددة لتحقيق التنمية على النطاق الصغير.
الدولة السعودية تتغير من يوم إلى آخر، يترافق معها الاهتمام بمجالات التعليم والعمل والتدريب، الذي تشارك فيه المرأة، فالنساء السعوديات بعد مجلس الشورى في رحلة مميزة بدأت قبل أكثر من عامين.. وجودها في الشورى يشكل 20 في المائة من أعضاء المجلس، فكان فاتحة التاريخ حين تم تعيين ثلاثين سيدة بعضوية كاملة داخل المجلس، فشكلت خلال عامين منذ دخولها لقاعة المجلس الذهبي في عام 2013 حضورًا بارزًا على صعيد كثير من الملفات، وحاولت تلك (الكوتة) النسائية في حيزها أداء كثير على شتى اللجان العاملة.
وسيحمل العام الجديد تغيرات كثيرة ستشهدها البلاد، خصوصًا بعد ورش عمل شاملة تضج بها العاصمة الرياض، من أجل تحقيق تنمية متطورة، لم تغفل بلا شك حضور المرأة في المشاركة والنقاش، وكذلك ظهورها في أوراق الخطط المستهدفة للقطاعات كافة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.