يورغن هابرماس: نحو منظور جديد لدور الدين

الاعتراف بدوره في الفضاء العمومي يرتبط بالدفاع عن فضاء مفتوح

يورغن هابرماس
يورغن هابرماس
TT

يورغن هابرماس: نحو منظور جديد لدور الدين

يورغن هابرماس
يورغن هابرماس

أثارت مواقف يورغن هابرماس حول دور الدين في الفضاء السياسي العمومي، سجالاً كبيرًا لدى القائمين على الشأن الديني في مختلف البلدان، وعند السياسيين والفلاسفة ورجال الأعمال، ولدى كبار منظري الليبراليّة السيّاسيّة وبعض مفكري اليسار. ولعل فحصًا أوليًّا لنتاج هابرماس، يؤشر على الحضور القوي للمسألة الدينيّة في نظريّاته الأولى واللاّحقة. وقبل أن نتناول الموقف الفلسفي المؤطر بنظريّة الفعل التواصلي الذي يعيد النظر في دور الفضاء العمومي السيّاسي، بالمقارنة مع نظريّته الأولى، سنلقي نظرة عامة حول نتاجه الفلسفي والسيّاسي الذي عالج فيه المسألة الدينيّة، مستأنسين بسؤال محوري: هل يصّح الحديث عن فلسفة دينيّة لدى هابرماس، أم أن الأمر يتعلق بمقاربة فلسفيّة للمسألة الدينيّة؟ هل تخلى هابرماس عن جبة الحداثة غير المكتملة في مشروعها، لصالح صرخات الما بعد حداثيين؟ كيف ينظر لمجتمع ما بعد العلمانية؟ هل يتأطر موقفه الما بعد العلمانيّة ضمن الفكر الما بعد ميتافيزيقي والما بعد الدولة القوميّة - الدولة الأمة؟
يميز فيليب بورتييه بين ثلاث مراحل ديناميّة في فكر هابرماس الدّيني:
تمتد المرحلة الأولى، من نتاجاته المبكرة إلى حدود الثمانينات، وتميزت بنقده لعالم الإيمان، حيث ينظر إلى الدين كاستيلاب، وهو الموقف الذي تأثر فيه بالفلسفة الماركسية، كما أولها وحافظ عليها منظرو مدرسة فرانكفورت النقديّة، أي كأداة توظف في المجال السياسي لخدمة أهداف آيديولوجية، ولضمان استمرارية ودوام العلاقات القائمة نفسها.
وتمتد المرحلة الثانية، من 1985 إلى حدود سنة 2000، حين يرى أن الدين ضرورة وجودية، كما أقر ذلك في «الفكر الما بعد ميتافيزيقي» (1988)، لا يمكن الاستغناء عنه في الحياة العادية. وفي هذه المرحلة بالذات، يذهب مفسرو فلسفة هابرماس إلى بداية مراجعة الموقف الأول، ذلك أن انفتاح هابرماس على المنعطف اللغوي الجديد الذي دشنته الفلسفة اللغوية، والاعتراف بالوظيفة المحورية للغة في إنتاج الخطاب وتداوله، سيجعلانه يطرق باب اللغة المقدسة، وما تطرحه من تابوهات عدة يتعين إعادة النظر الجذرية في مجمل ما يحيط بالنص المقدس وبالتراث الشفوي للديانات. ورغم أن الهيرمينوطيقا طورت أدواتها وذهبت بعيدا في تأويلية النصوص الدينية والدراسات الدينية المقارنة، فإن هابرماس لم يولها العناية الكافية. فنظريته في الفعل التواصلي وفي أخلاقيات المناقشة، تحيط بنتاج المنهج التأويلي، ولكنها لا تطرق بشكل مباشر الخطاب الديني، ولا حتى العلاقة بين المعرفة والإيمان، ما يبين بوضوح، وعي هابرماس بعمق المشكلة، وبالحاجة إلى تدقيق المعطيات التاريخية وفق راهنية السؤال السياسي حول دور الدين في الفضاء العمومي. هكذا بلور في نظرية الفعل التواصلي دور التواصل والحوار البينذاتي الذي يقر بضرورة التفاهم والسجال المتساوي بين المتداولين - الخصوم تحديدا. فالتفاهم أو الاتفاق، لا يتحقق إلا بتواصل بين متحاورين - خصمين في المناقشات العمومية المؤسسة. وبناء عليه يمكن تأويل موقف هابرماس في كتابه الجديد «بين الدين والنزعة الطبيعية» الذي يذهب فيه إلى ضرورة التحاور بين المؤمنين وغير المؤمنين، ومقارعة الحجج فيما بينهم شرط ضمان حيادية الدولة الدستورية الديمقراطية.
أما المرحلة الثالثة، فتبدأ مع الألفية الثالثة (مستقبل الطبيعة البشرية: نحو نسالة بشرية)، حيث الدين لم يعد شأنا خاصا ينحصر في الفضاء الخاص بالفرد، وإنما هو شأن عمومي. وبذلك يسعى إلى مأسسة المجتمع ما بعد العلمانية، حيث يأخذ الدين مكانته الطبيعية في الفضاء السياسي العمومي. وستتوج هذه المرحلة بكتابه الأخير المثير للجدل: «بين النزعة الطبيعية والدين»، حيث سيخصص فصلا كاملا للدين في الفضاء العمومي.
يسعى هابرماس في تصوره للمجتمع ما بعد العلمانية، إلى إعطاء بعد جديد لنظرية الفضاء العمومي، بحيث إن الاعتراف بدور الدين في الفضاء العمومي السياسي يسير في اتجاه الدفاع عن فضاء مفتوح يتعايش فيه العلماني والملحد والمؤمن بشكل متساو، دون الاحتكام لأي خط عقدي أو آيديولوجي قد يغني التنازع بدل التفاهم. فماذا يعني المجتمع ما بعد العلمانية عند هابرماس؟
في تأصيله وفهمه للمجتمع العلماني، يشدد هابرماس على ثلاثة اعتبارات منطقية لا بد منها لفهم عمق سيرورة العلمنة وهي:
أ - التقدم العلمي والتكنولوجي الذي شجع على فهم متمركز حول الإنسان للعالم، حيث تتخذ الأحداث والوقائع تفسيرا سببيا، وحيث لا يمكن للعقل التنويري والعلمي أن يتصالح مع رؤى العالم المتمركزة حول اللاهوت والميتافيزيقا.
ب - تحويل الدين إلى مسألة شخصية، عبر إبعاد المنظمات الدينية والكنائس عن السلطة والقانون والحياة العامة والتربية والتعليم، لأن العقلنة تتأسس على الفرد متمتعا باستقلاليته وحريته وكرامته.
ج - يقود الانتقال من المجتمع العقلاني إلى ما بعد الصناعي، مرورا بالصناعي، إلى رفاهية عالية وأمن اجتماعي أفضل، وهو ما يعوض الحاجة إلى قوة عليا أو كونية. ويعزو هابرماس عودة الدين إلى الفضاء العمومي إلى تنامي ثلاث ظواهر رئيسة:
- التوسع التبشيري - انتشار البعثات التبشيرية وتوسعها.
- التطرف الأصولي، حيث توسعت دائرة الإرهاب والجهاد باسم الدين، وانتشر العنف بسبب، الاختلاف الديني والعقدي، ما يؤشر على إمكانية صعود الأنظمة الفاشية الدينية من جديد.
- التوظيف السياسي لاحتمالات العنف المتأصلة في الأديان.
ليست هذه الظواهر عن العالم بجديدة - كما يمكن أن يعتقد البعض - وإنما هي مجرد ظواهر متجددة، تتخذ لبوسات كثيرة بحسب السياق السياسي والتاريخي: ألم تعش القرون الوسطى حروبا باسم الدين ذهب ضحيتها ملايين الناس؟ أليست محاكم التفتيش تطرفا أصوليا، وتوظيفا سياسيا للدين؟ ماذا يمكن أن ننعت به العداء لليهود في ظل الأنظمة النازية، وفي الثقافة الإسلامية أيضا؟ صحيح أن الإرهاب الذي تغذيه الحركات الأصولية في عالم اليوم وبأحدث التقنيات والوسائل، اتخذ شبه ثقافة تسود في تربة التعليم والمجتمعات المهمشة، لكننا نتساءل: من يشجع تنامي التطرف والتنظيمات الإرهابية؟ من يرعاها؟ من يمول عملياتها؟ وبغض النظر عن صحة هذه التساؤلات من عدمها، فإننا نتوجه صوب تحليل موقف هابرماس أكثر، وبيان مختلف المبررات التي يسوقها لتأكيد حضور الدين في الفضاء العمومي.
يتمثل البعد الجديد لنظريّة الفضاء العمومي، في كون العمل الأول لهابرماس حول الفضاء العمومي، يسير في اتجاه إعادة الدور لفكرة الاستعمال العمومي للعقل، كما دافع عنها كانط في أواخر القرن الثامن عشر، حيث الدين مكمل للعقل التواصلي وليس أساسا له. ورغم كون ذلك العمل لم يتجاوز حدود المجتمع البرجوازي وممارسة السلطة السياسية داخل حقل الصراع الاجتماعي، ما يجعله تصورا جديدا للتقليد النقدي (الماركسي الجديد) لمدرسة فرانكفورت، فإن هتبرماس يحث على الوظيفة النقدية للفضاء العمومي (في مواجهة التحكم الكلياني للسلطة السياسية في العلاقات الاجتماعية)، باعتباره وسيطا بين الدولة والمجتمع. ويعود هذا التصور الأداتي إلى التقليد الفلسفي السياسي الحديث وتحديدا تصور هيغل لوظيفة المجتمع المدني. إلا أن هابرماس يقيم فصلا حقيقيا بين الفضاء العمومي والمجتمع المدني، بحيث إن هذا الأخير في تصوره، يكون نابعا من عمق العلاقات الاجتماعية بما هو أرقى مستويات الجماعة الطبيعية (الأسرة)، ويبقى في خدمة الدولة البرجوازية، وبهذا يمكن تسميته بالمجتمع المدني البرجوازي. ولا يخرج تصوره للفضاء العمومي عن هذا الإطار الفلسفي السياسي العام، لأنه:
أولا، فضاء عمومي برجوازي - مدني ساهم في تشكل أسس المجتمع البرجوازي بفعل الدعاية المضادة في تشكيل الرأي العام السياسي.
ثانيا، لأنه يدفع النخبة السياسية في اتجاه تعزيز الوظيفة العمومية للعقل التي أدت إلى بروز الليبرالية السياسية.
ثالثا، لأنه يدفع بالقوى الاجتماعية المعارضة للسلطة السياسية إلى الاندماج في المجتمع الجديد، من خلال تجاوزها للمرحلة السرية في فعلها السياسي في الفضاء العمومي، إلى المرحلة الشرعية (الاعتراف القانوني) والقبول بقواعد اللعبة السياسية كما تضعها السلطة السياسية.
رابعا، يدفع بالقوى الاجتماعية المهمشة والمقصية، وغير المرتبطة بالنخبة السياسية، إلى تحديد موقع في الفعل السياسي، بدل أن تبقى مجرد حشود قد تسبح ضد التيار أو قد تستعمل لأغراض سياسية.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.