مشروعية الدولة وغايتها بين الفكر السياسي.. الكلاسيكي والحداثي

ينطوي مفهومها على مفارقات فلسفية مهمة

مشروعية الدولة وغايتها بين الفكر السياسي.. الكلاسيكي والحداثي
TT

مشروعية الدولة وغايتها بين الفكر السياسي.. الكلاسيكي والحداثي

مشروعية الدولة وغايتها بين الفكر السياسي.. الكلاسيكي والحداثي

تعرّف «الدولة» بكونها مجموع المؤسسات القانونية والإدارية والعسكرية التي يتم إنشاؤها، من لدن جماعة من الناس، بموجب عقد مشترك، لغرض تنظيم حياتهم في الميادين والمجالات كافة، كما تحيل إلى مجال ترابي محدد، وتمثل هذه المؤسسات جهازًا يشرف على المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والاجتماعية. ومن ثم، فوجود الدولة رهين بتوفر مجموعة من الشروط الأساسية: الأرض، والسكان، والسلطة السياسية (القوانين، المؤسسات...)، وأن تعمل هذه الدولة على توفير وضمان الحقوق الأساسية لأفرادها (التعليم، الصحة، السكن والشغل...)، وحفظ الأمن والاستقرار. غير أن هذا الوجه الإيجابي للدولة قد لا يتجسد دائما على أرض الواقع، بل يمكن أن يصطدم فيه الأفراد بممارسات مخالفة لما هو مرجو من الدولة، فيكون الإنسان ضحية للعنف المنظم والظلم الاجتماعي والاقتصادي، والاستبداد الممارس من طرف الدولة نفسها. الأمر الذي يجعل مفهوم الدولة ينطوي على مفارقات فلسفية مهمة، إذ تتجاور فيه مفاهيم أخرى متقابلة وقيم متضادة (بين ادعائها لتحقيق الأمن وممارستها للعنف مثلا). من هنا، يمكن أن نطرح مجموعة من الإشكالات الفلسفية ونتساءل: ما الغاية من تأسيس الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟ وكيف جرى تبرير وجود الدولة من داخل تاريخ الفلسفة السياسية، الكلاسيكية والحديثة؟ وما الهدف من وجودها؟ هل هو تحقيق الأمن والاستقرار أم الهيمنة الطبقية واحتكار العنف؟
بالعودة إلى تاريخ الفلسفة اليونانية، نجد التفكير والاهتمام بالدولة حاضرًا لدى الفلاسفة اليونان. فقد حاول كل من أفلاطون وأرسطو التنظير لدولة مثالية قادرة على تجسيد الخير الأسمى. وفي هذا الصدد، نجد أفلاطون الذي دافع عن أن أساس الدولة الطبيعي يتجسد في وجود لا مساواة طبيعية بين الناس. فكما تنقسم النفس إلى ثلاث: نفس شهوانية، ونفس غضبية، ونفس عاقلة، ينقسم كذلك أفراد النوع الإنساني إلى فئات ثلاث: حرفيون وجنود وحكام. وما دامت وظيفة النفس العاقلة هي توجيه عمل النفس الشهوانية والنفس الغضبية بالشكل الذي يضمن الانسجام والتناغم في حياة الفرد، فإن وظيفة الحكام هي تدبير شؤون الحرفيين والجنود، وتوجيه عملهم نحو تحقيق الانسجام والتناغم في حياة الجماعة التي ينتمون إليها. فالعدالة كما يقول أفلاطون، في كتاب «الجمهورية»: «هي أن يؤدي كل فرد وظيفة واحدة هي تلك التي وهبته الطبيعة خير قدرة على أدائها». إن غاية الدولة عند أفلاطون هي تحقيق الانسجام والتناغم بين مكونات المجتمع. وهو تناغم لا يتحقق إلا بانصراف كل فئة إلى أداء المهمة التي هيأتها الطبيعة للقيام بها من دون التدخل في مهام الفئات الأخرى. فمن هيأته الطبيعة أن يكون حرفيًا، وزودته بما يلزم ذلك من مهارات وقدرات، فلا مفر له من أن يكون كذلك، وينجز ما يلزم من المهن والصنائع، ومن هيأته أن يكون محاربًا، فعليه أن يحمل السلاح ويقف بشجاعة ضد كل خطر يمكن أن يهدد المدينة/ الدولة Polis. ومن هيأته أن يكون حاكمًا، فعليه أن يتجه لتدبير شؤون الناس بفضيلة وحكمة وعدل. وهكذا نرى أن غاية الدولة ومشروعية وجودها تستمدها من الطبيعة البشرية، فهي من الأمور الطبيعية التي رافقت وجود البشرية التي تكون دائمًا في حاجة إلى من ينظمها.
في السياق نفسه، نجد الفيلسوف أرسطو، الذي ظل وفيًا لأفكار أفلاطون، على الرغم من بعض الانتقادات التي وجهها إلى فكره السياسي، فأرسطو أيضًا يؤكد على فكرة التراتبية واللامساواة الطبيعية بين الناس. بل يذهب أرسطو إلى أن هذا التراتب مقصود من طرف الطبيعة نفسها، التي «لا تفعل باطلا أبدًا». فكون الناس مختلفين ومتمايزين على مستوى المهارات والقدرات، يجعلهم في حاجة إلى بعضهم البعض، وبالضرورة ميالين إلى الألفة والاجتماع، لأن لا أحد منهم يستطيع أن يوفر بنفسه كل ما يحتاج إليه. لذلك كان الإنسان، حسب أرسطو، كائنًا مدنيًا بطبعه، أي كائنًا لا يستقيم وجوده إلا في مجتمع يتقاسم أفراده المهام والوظائف. وبهذا المعنى أيضًا، كانت الدولة من الأمور الطبيعية، أي من الأمور التي يقتضيها تحقيق الحاجات الطبيعية للإنسان، التي دونها لا يمكن أبدًا أن يتحقق. إن غاية الدولة عند أرسطو هي تحقيق الخير الأسمى، وهو سعادة الأفراد المكونين لها عبر تحقيق حاجاتهم الطبيعية من غذاء وسكن وأمن. بعد التحولات التي عرفتها أوروبا مع مطلع العصر الحديث، وبتأثير من الحركة الإنسية والتطورات الهائلة في مجال الفن والعلوم والعمارة، واكتشاف كروية الأرض، وعقم المنهج الأرسطي الذي قامت عليه المؤسسة الآمرة والحاكمة في أوروبا، وهي الكنيسة، سيستعيد التفكير في مفهوم الدولة أهميته، باعتباره موضوعا للتفكير الفلسفي والسياسي، حيث خاض رواد النهضة والتنوير، صراعا ضد النظرية الثيوقراطية، أو ما يسمى بنظرية الحق الإلهي، التي تفسر نشوء الدولة بفكرة دينية أو ما سمي بـ«حق الملوك المقدس». وتقوم هذه النظرية، على ضرورة تأليه الحاكم وعبادته وتقديسه، ولنا في مصر القديمة وروما مثال على ذلك. وستعرف هذه النظرية تطورًا على يد ملوك أوروبا في المرحلة الإقطاعية، إذ لم يعد ينظر للملك على أنه إله، بل إنه خليفة الله في الأرض. وهكذا رفض رواد النهضة الوصاية على الإنسان واعتباره قاصرًا يحتاج لمن يقوده ويملي عليه كيف يسلك ويتصرف. وفي هذا السياق، فكر أصحاب نظرية العقد الاجتماعي، أو المصنفين ضمنها، في مفهوم الدولة (هوبز/ لوك/ روسو)، حيث يرى أصحاب نظرية العقد الاجتماعي ويفترضون أن مشروعية الدولة وغايتها، تستمدهما من حالة الطبيعة التي كان الأفراد فيها يعيشون على الفطرة، أحرارا من دون أن يوجد ما يحد من حريتهم. لكن هذا النوع من الحرية أدى للفوضى والاضطراب. وهو ما جعلهم يفكرون في وسيلة للخروج من حياة الاضطراب والتطاحن، يعني أنهم فكروا في تأسيس حياة يسودها التنظيم والتوافق، فكانت الوسيلة هي العقد الاجتماعي كأساس للدولة التي يتنازلون لها عن جزء من حريتهم وحقوقهم. وعلى الرغم من أن رواد العقد الاجتماعي اتفقوا على تعريف العقد الاجتماعي وفرضية حالة الطبيعة، إلا أنهم يختلفون حول طبيعة العقد ومبرراته وغاية الدولة الناشئة، وكذلك حول تصورهم لحالة الطبيعة. فمثلا طوماس هوبز، يرى أن ظهور الدولة لم يكن طبيعيًا، بل هو «الثمرة الاصطناعية التي جاءت نتيجة ميثاق إرادي، ولحساب مصلحي»، لأن حالة الطبيعة هي حالة عنف وجور وتدمير وميل نحو الشر، الذي اعتبره هوبز، ميلاً طبيعيًا في الإنسان. فالإنسان لديه ميل طبيعي نحو العدوان والقوة. وهو ما يجعل الضعفاء ضحية لهذا المنطق. فحالة الطبيعة تطبعها الفوضى والعنف، «حرب الكل ضد الكل»، ما يحول دون قيام حياة اجتماعية آمنة ومستقرة. فيجد الإنسان نفسه أمام فقدان أهم ما لديه، وهو «البقاء على قيد الحياة». لذلك فكر الناس في بناء مجتمع سياسي يضع حدًا للحروب والعدوان والجور والظلم والتسلط، يستبدل بالعنف التكامل والتعاون. لذلك فكر المكونون للعقد بالتنازل عن كل سلطتهم وحقوقهم، لصالح رئيسهم/ راعيهم/ ملكهم، الذي سيتمتع بالسلطة المطلقة، لأنه لم يكن طرفًا في العقد وليس خاضعًا لأحد. وهكذا كانت الدولة هي التنظيم الجديد الذي قام من أجل ضمان أمنهم وتأمين سلامتهم. وفي هذا الصدد يقول هوبز، في كتابه «اللفيتان»، في النهاية، إن الدافع والهدف عند الذي يتخلى عن حقه أو يحوله، ليس إلا أمنه الشخصي في حياته وفي وسائل حفظ هذا الأمن».
إذا كانت غاية الدولة ومشروعيتها عند هوبز تستمدهما من ضمانها لأمن الناس وسلامتهم، نتيجة العقد الذي أقاموه وسلموا فيه كل حقوقهم لمن يجب طاعته والخضوع له، فإن جان جاك روسو، لم ير في الدولة أداة محافظة على أمن الناس وسلامتهم فقط، بل إن الدولة ليست غايتها الحفاظ على الأمن، بل غايتها بناء حياة اجتماعية، وتكوين مجتمع سياسي تقوم فيه الدولة بالمحافظة على حقوق الأفراد. فالدولة لا تقوم على احتكار الحاكم للسلط، بل على التعاون والتشارك والسيادة المطلقة للشعب عن طريق الإرادة العامة التي يعبر عنها في القوانين. وبالتالي تكون وظيفتها هي الحفاظ على حقوق المواطنين الذين لا يخضعون للحاكم داخل الدولة، بل يخضعون لسلطة القوانين التي ساهموا في وضعها. فالسيادة دائمة للشعب، وهذا ما يقصده روسو بقوله: «إن من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد»، فالدولة ليست كما تصور أصحاب النظرية الثيوقراطية أو هوبز متعالية على الإنسان بل هي وسيلة ضرورية لتحقيق أماني الإنسان ومطامحه، فهي توفر النظام والنفوذ الذي يحمي كل فرد من ظلم فرد آخر، إن مشروعية الدولة لا تستمدها عند روسو فقط من حالة الطبيعة، بل حالة الطبيعة حسب روسو هي حالة خيّرة، حالة سلم ووئام.
أما بالنسبة لاسبينوزا، فقد فكر في الدولة من منظور علماني مستفيدا من الصراع الديني الطاحن بين الكاثوليك والبروتستانت. فدافع عن دولة لا تنحصر وظيفتها في السيادة والتنظيم والتحكم، كما ذهب إلى ذلك هوبز. بل غاية الدولة عند اسبينوزا، تستمدها من قدرتها على تحرير الناس من الخوف، والعنف، والإرهاب الذي قد يمارسه المختلفون في التصورات والآراء والمعتقدات على بعضهم البعض بالقوة والعنف والإكراه. فالدولة حسب اسبينوزا، لا يجب أن تنحصر وظائفها في تطويع الناس والتحكم بهم، بل غايتها أسمى من ذلك، وهي تحرير أجسادهم وعقولهم لكي يفكروا بشكل حر في كل القضايا، استنادا إلى الحجج العقلانية وليس بالأسلحة والإرهاب والخوف. وفي هذا السياق يؤكد اسبينوزا، بعد أن حدد غاية الدولة، أن مشروعيتها يجب أن تنبع من مجموع الأفراد المكونين لها، الذين يكونون غير قادرين إن تركوا لذواتهم، على تدبير اختلافاتهم بالعقل والنقاش بعيدا عن الإكراه والقوة. لذلك، فإن قيام الدولة نابع من عدم قدرة المختلفين في الرأي والمعتقد، على تدبير اختلافاتهم، ودورها يتجسد في حماية الاختلاف والعمل على تكريسه. إن القيمة التاريخية لتصور اسبينوزا، تكمن في كونه غيّر من تصورنا للدولة، باعتبارها دولة سيادة وعنف مشروع إلى دولة راعية للاختلاف والحرية. وبالتالي، طالب اسبينوزا بضرورة فصل مجال الدولة على مجال الدين. فالدولة لا تدافع عن مذهب ديني ضد آخر. إنها تقف موقفا واحدا من جميع الأديان والمعتقدات، وتعمل على حماية الجميع، ورفض العنف. وفي هذا الصدد، يقول اسبينوزا: «إن الغاية من تأسيس الدولة ليس تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات وآلات صماء، بل المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كي تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخدامًا حرًا، من دون إشهار لأسلحة الحقد والغضب أو الخداع، وبحيث يتعاملون معًا دون ظلم أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة».



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!